من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية

من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية
TT

من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية

من التاريخ: مراد الأول.. محوّل الدولة العثمانية إلى إمبراطورية

كما أوضحنا من قبل، تنسب الدولة العثمانية إلى زعيمها عثمان بن أُرطُغرُل الذي هاجرت قبيلته التركية في أواخر القرن الثالث عشر إلى آسيا الصغرى (هضبة الأناضول). ويومذاك، انضمت لقوات السلطان السلجوقي علاء الدين خلال إحدى حروبه ضد التتار، فمنح السلطان هذه القبيلة أرضًا لتعيش فيها. ومن ثم، أخذت تتوسع تدريجيًا، خصوصا خلال حكم عثمان، إلى أن أصبحت دولة متوسطة الحجم، واتخذت مدينة بورصة عاصمة لها. وبعد وفاة عثمان، خلفه ابنه السلطان أورخان بن عثمان، فعزّز التوسع، وسيطر على بعض المناطق الأوروبية المحدودة مع مرور الوقت، وساعده على ذلك تنظيمه الجيد لجيشه، بما جعله جيشًا نظاميًا منضبطًا، وإصلاحه وتوسعه في الأسس الإدارية التي وضعها والده لإدارة دولته، فغدا للعثمانيين دولة قوية تنظيميًا وعسكريًا.
ولكن، على الرغم من إنجازات عثمان وأورخان، فإن كثيرين يعتبرون السلطان مراد الأول المؤسس الفعلي لـ«الإمبراطورية العثمانية»؛ ذلك أن مراد ابن أورخان، وحفيد عثمان، حوّل الدولة من مجرد دولة قوية تسيطر على الأناضول إلى إمبراطورية كبيرة تلعب الدور المحوري في شرق أوروبا بنهاية حكمه.
لقد ورث مراد الحكم من أبيه أورخان عام 1362، عندما كان في السادسة والثلاثين من عمره، وورث مع عرشه دولة منظمة قوية، غير أن حدودها كانت أضيق مما كان يحلم به هذا السلطان الشاب. وبالتالي، كرّس حكمه، الذي بلغ 27 سنة، لتحويل الدولة إلى إمبراطورية مترامية الأطراف، وفتح شرق أوروبا، ليس فقط للحكم العثماني، بل للاستيطان العثماني أيضًا.
واقع الأمر أن مراد تولى الحكم في دولة وضع والده لها الأساس الصلب لتوسعها ونموها التدريجي. وكما سبقت الإشارة، تمتعت الدولة البازغة بجيش منضبط قوي يعتمد في أساسه على ألوية الإنكشارية الشهيرة. وكلمة «إنكشارية» Janissaries مشتقة من كلمتي: «يني» و«شيري»، أي: «الجيش الجديد». وقد قامت على أساس من «ضريبة الذكور» التي كانت تفرض على المسيحيين في الأراضي المستولى عليها، إذ كان يؤخذ أفضل طفل في الأسرة المسيحية، ويُدخل في الإسلام، ويجري تدريبه روحيًا وجسديًا وعلميًا بمرور الوقت، ليصبح عسكريًا مثاليًا مضمون الولاء في الجيش العثماني. وبعدما كان عثمان يستخدم الإنكشارية حرسًا خاصًا له، طوّر مراد هذا الهدف، فجعلهم نواة مدرّبة وقوة نخبوية داخل جيشه، فتحوّلت هذه القوة مع الوقت إلى تشكيل عظيم يبث الرعب في نفوس الأعداء كلما واجههم.
وامتدت تركة السلطان مراد إلى أوروبا منذ حكم أورخان عام 1337، عندما وقعت الإمبراطورية البيزنطية في مأزق سياسي، لانقلاب قوة إسبانية على الإمبراطور البيزنطي، بعدما كانت تسانده، فصار في حالة يرثى لها. وحينذاك، طلب العون الفوري من السلطان الذي استغل الفرصة مباشرة للتدخل في الشؤون البيزنطية، ونشر بعض القوات في الأراضي الأوروبية الخاضعة لها، بحجة مساندة الإمبراطور، تمهيدًا لمزيد من التوسع.
ومع اضطراب أحوال الدولة البيزنطية، فُتح المجال على مصراعيه للعثمانيين من أجل زيادة رؤوس الجسر الحربية لهم في أوروبا، خصوصا عندما وقعت الحرب الأهلية في القسطنطينية (عاصمة تلك الدولة)، فدخلت الدولة العثمانية طرفًا أساسيًا فيها لحساب أحد الأمراء، وانتهت التسوية السياسية بزواج سياسي لابنة الإمبراطور الجديد من الأمير مراد.
اعتلى مراد السلطنة عام 1359، وكانت منطقة البلقان في شرق أوروبا ممهدة للتوسع العثماني، وهو أمر لم يتأخر السلطان الشاب في استغلاله، إذ وجه جيوشه بعد سنة فقط للاستيلاء على ممالك المنطقة لتوسيع رقعة دولته على حسابها. والحقيقة أن أوضاع البلقان، بصفة عامة، كانت مضطربة. فلقد كانت الدويلات الأوروبية الشرقية في نزاعات شبه دائمة، إما لأسباب تتعلق بتقسيم الأراضي ورسم الحدود، أو التنافس بين الأسر الحاكمة، أو نتيجة للاختلافات المذهبية التي عمّقت الفرقة بين الأقاليم المنتمية مذهبيًا لأوروبا الغربية الكاثوليكية وتلك الأرثوذكسية المرتبطة بالكنيسة البيزنطية قبل استقلالها نتيجة الانشقاق الكبير بين كنيستي القسطنطينية (بيزنطة) وروما، عام 1054، حول قضية العقيدة والإيمان المرتبطة بالتثليث.
وعلى الفور، تحركت القوات العثمانية نحو «تراكيا» Thrace والبلقان، ودانت أجزاء كبيرة من الروملّي (بلغاريا الحالية) لتلك القوات المتدفقة، وتبعتها شمال اليونان وغيرها من المناطق المجاورة. وطبق مراد الأول سياسة حكيمة للغاية في صدامه العسكري للموازنة بين التوسعين الشرقي والغربي، ولم يقدم في أي وقت من الأوقات على فتح جبهتين له في آن واحد. فكان يستولى على مناطق في الغرب، وينتظر لبعض الوقت قبل أن يتوسع شرقًا. وحقًا، استطاع لاحقًا تركيز جهده الحربي على مدينة أدرنة المهمة (إلى الغرب من القسطنطينية / إسطنبول) في أوروبا، ففرض الحصار البري الكامل عليها إلى أن استسلمت له بالتفاوض والدبلوماسية، ولم يلبث أن جعلها العاصمة الجديدة للإمبراطورية العثمانية، وذلك بعدما دفعت الجزية، وشاركت أيضًا بقوة لها ضمن تشكيلات الجيش العثماني في فتوحاته التالية.
وعلى الرغم من المقاومة الشرسة التي واجهتها القوات العثمانية المتدفقة إلى أوروبا، استطاع مراد التغلب على المقاومين تدريجيًا، ولا سيما بعد أن فشلت مبادرة البابا أوربان الخامس في روما لتوحيد القوى الأوروبية بغية مواجهة المسلمين، بفعل انعدام الثقة التي واجهت هذه الدويلات والإمارات الأوروبية وقياداتها السياسية، وهذا ما أتاح لمراد ضم أجزاء من صربيا ومعظم منطقة البلقان، وقيادة التوسع شمالاً. وكفلت عبقرية هذا الرجل له القدرة على هضم هذه الأراضي الجديدة، كونه أدرك منذ البداية ضرورة استحداث نظم جديدة لإدارة هذه المناطق بشكل يضمن ولاءها، ويمنع الثورات الداخلية عليه. وعليه، وجّه باتباع سياسة تنظيمية كفلت الحرية الكاملة للعقيدة، بما في ذلك حرية البطريركية الأرثوذكسية، كي يضمن ولاء الرعايا الجدد، ولكن في الوقت نفسه نظم الأراضي بشكل جعل المزارعين والفلاحين أفضل حالاً مما كانوا عليه إبان خضوعهم للإقطاع الأوروبي قبل الفتح العثماني. وهكذا، ساد الرضى الشعبي المجتمعات العثمانية الجديدة مقارنة بالأنظمة السابقة. وأيضًا، فتح مراد المجال أمام التصعيد السياسي والاجتماعي لغير المسلمين في هذه المناطق، فسمح لبعض المسيحيين الأوروبيين بتولي مناصب قيادية في البلاط العثماني، وسمح أيضًا بانخراط الجيوش المهزومة داخل كتائب الجيش العثماني تحت قياداتها التقليدية، وهو ما كفل له قوة وطمأنينة ساعدته على مزيد من التوسع.
من ناحية أخرى، كان مراد الأول حصيفًا حكيمًا للغاية في استخدام قوته العسكرية، وتلميذًا نجيبًا لمبدأ «اقتصادات القوة»، وتمكن أن يكسب ولاء كثير من إمارات شرق أوروبا من خلال التعاون معهم، وضمها لإمبراطوريته بالتبعية عبر الجزية والولاء، مستخدمًا الوسائل الدبلوماسية لا القوة العسكرية. وهذا ما جعله يركز قواته نحو الأهداف التي تحتاج لكثافة عددية، إلى جانب اتباع سياسة استيطانية مُمنهَجة لنشر الوجود العثماني الفعلي في هذه الأراضي، إلى جانب السكان الأصليين، حتى يضمن ولاء العرقيات المختلفة له؛ وهي السياسية التي كفلت له السيطرة على هذه الأراضي الجديدة.
وواصل مراد الأول حملاته في البلقان حتى وقع الصدام بينه وبين الصرب الذين كانوا يمثلون قوة عسكرية شديدة البأس تاريخيًا. وعام 1389، خاضت القوات العثمانية معركتها الفاصلة ضدهم، وهي «معركة كوسوفو»، التي كانت واقعة حربية شديدة العنف سيحصل المنتصر فيها على صربيا بالكامل، بما فيها إقليم كوسوفو. وبعد معارك كرّ وفرّ، حقّقت القوات العثمانية نصرًا كبيرًا على الجيش الصربي. ولكن، خلال المعركة، هرب ميلوش، زوج ابنة القائد الصربي، واستسلم للعثمانيين بمكر، وطلب لقاء السلطان مراد. وبينما كان ينحني أمام مراد، عاجله بضربتين من خنجره في صدره أودتا بحياة هذا السلطان العظيم.. ولكن ليس قبل أن يصدر مراد آخر حكم له بإعدام ميلوش.
أسلم السلطان مراد الروح هناك، وجرى دفنه في محيط مدينة بريشتينا الشهيرة، عاصمة كوسوفو. وما زال قبره هناك مزارًا إلى يومنا هذا. ومن ثم، تولى الحكم خلفًا له ابنه بايزيد الأول، ولكن ليس قبل أن يقتل أخاه خليل لضمان عدم منافسته على الحكم، وهي الآفة التي اتسم بها السلاطين العثمانيون عبر تاريخهم.
بناءً على ما رأيناه، يستحق مراد الأول لقب «مؤسس الإمبراطورية العثمانية»، كونه نقلها من دولة متوسطة إلى إمبراطورية كبيرة. ولعل أعظم ما في هذا الرجل تلك المعادلة السياسية التي اتبعها خلال حكمه للموازنة بين الفتوحات العسكرية والقدرة على هضم الأراضي تباعًا دون عناء كبير. ومن ثم، فتحه المجال للتوطن العثماني في هذه الأراضي، وهو ما كفل له سياسة توسعية ثابتة ودولة مركزية قوية بدأت تلعب دورها في السياسة الأوروبية، وكادت خلال القرون التالية أن تجتاح غرب أوروبا، لولا الظروف السياسية والعسكرية المعاكسة التي لم تسمح لها بذلك.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.