الطويبي.. يصطاد الشعر بـ«رمية حجر»

صدرت ترجمته إلى الفرنسية ضمن مهرجان «سيت» بفرنسا

عاشور الطويبي - غلاف المجموعة
عاشور الطويبي - غلاف المجموعة
TT

الطويبي.. يصطاد الشعر بـ«رمية حجر»

عاشور الطويبي - غلاف المجموعة
عاشور الطويبي - غلاف المجموعة

تنشغل نصوص ديوان «رمية حجر» للشاعر الليبي المقيم بالنرويج عاشور الطويبي بالهم الإنساني، في تقاطعاته الخاصة والعامة، حيث صراع الإنسان مع ذاته وواقعه والعالم من حوله. ويبدو الشعر في القصائد وكأنه حلقة وصل خفية، بين الماضي والحاضر، بين الأحلام والذكريات، بين اللغة بوصفها وعاءً للوجود ومناخات الطفولة القصية، في مفارقات دالة تومض بالتشتت والحنين والخوف من عتبات المجهول.
صدر الديوان مترجمًا إلى الفرنسية في إطار فعاليات مهرجان «سيت» الدولي للشعر بجنوب فرنسا «أصوات من المتوسط» الذي انعقدت فعالياته في يوليو (تموز) الماضي. وقد حرص الشاعر على أن يوجد بالكتاب النص العربي في مقابل النص الفرنسي، وترجم النصوص إلى الفرنسية المترجمة سهام بو هلال.
على مدار نحو 70 صفحة من القطع الصغير، تنساب القصائد في تدفقات شعرية مكثفة، مسكونة بإشراق العقل والروح، كاشفة عن طاقة معرفية متنوعة مفعمة بالتأمل والقدرة على النفاذ فيما وراء الأشياء والعناصر، محاولة القبض على دلالتها وعلائقها المهمشة في طوايا الروح والجسد وفجوات الشعر والحياة.
يكتب الشاعر عن الخفافيش وهايكو الحرب، عن جرس يرن في أعلى الجبل، عن متاهة الحدود والواقفين خلف السواتر، عن الظلال والنوافذ والصراخ والحجر، عن ابن رشد ويوكيو ميشيما، عن صبراتة المدينة الليبية النائمة في عين التاريخ والزمن. إنه يريد لحجره الصغير ورميته الطفلة أن يحركا بحيرة الشعر والحياة معًا.
ففي نص من ثلاثة مقاطع، بعنوان «ابن رشد في لباس البحر»، يركز الشاعر على الرائحة، باعتبارها حياة أخرى تترسخ في الذاكرة والخيال، وتمتد حبالها في الحلم كصيرورة على حيوات انقضت، لكن رائحتها لم تزل حية طازجة، كفعل وجود يتفتح في جسد القصيدة والزمان والمكان.. تقول القصيدة مستحضرة صورة الفيلسوف المغدور:
«الرائحة ذاكرة شجرة
أي عنوان تبحثُ
وأي طريق ستأخذ وأنت خارج الصلوات
لعلك ستجد روحك الهاربة
في ميلان الخط ودكنة الحبر!
>>>
الغيب مطر
المخيلة غطاء
القتلى ملح
الأرض تبكي
الأرض تضحك
اقفل الكتابَ جفف الحبر وتمدد على السرير
قليلاً قليلاً تغمض العينين
وتسقط الشجرةُ ثمارها رقيقة الأعناق
>>>
المسلحون في كل الطرقات والدروب
الخوف قِفاف مملوءة
وأسوار البيوت صامتة
الخوف يتنفس ويبكي».
ينأى النص عن فكرة المرثية بإيقاعها التقليدي، جاعلا من ابن رشد مدار سؤال يشتبك مع الماضي والحاضر، كحرية مطاردة ومقموعة ومحاصرة. ويظل السؤال حاضرًا يشتبك مع الواقع الحي الراهن، حتى وهو يتسلل من عباءة ماض انقضى. فكل شيء يبكي، المطر والمخيلة، بل الخوف نفسه يبكي ويتنفس، ويصل النص بهذه اللطشة الأخيرة إلى ما يمكن أن أسميه «اللحظة الحرجة»، حين يصبح كل شيء في الطبيعة عاجزًا عن الكلام.
اللافت أيضًا في الديوان أن الشاعر يبني وعيه دائمًا على علاقة غير مطمئنة، ملتبسة بين الأشياء وظلالها، وبينها وبين الحقيقة التي تتجسد دائمًا في شكل ومضات خاطفة وأسئلة حادة أحيانًا، وهادئة ترتدي ثوب الحكمة، أو تبحث عنه أحيانًا أخرى.. تطالعنا ملامح هذه العلاقة في نص بعنوان «هل ينهض البازي بغير جناح؟»، حيث يقول الشاعر:
«جناح ملقى على الأرض
جناح تدوم به الريح
جناح في أوله ريشة
وفي آخره شهقة
في عين كل ريشة دواة حبر
وفي قلب كل دواة خط لا يشبه غيره
الريشة مكحلة الفقراء
الدواة حافظة أسرار القنديل
الشهقة بلا أزرار
مفتوحة أبدا..
هل تنهض الدنيا بغير جناح؟»
إن النص - كما نلاحظ - يدور في تراسلات بصرية تلتقط مجموعة من العناصر، المتداخلة المتنافرة، وتعتمد على خلخلة الأشياء، وتضييق الفجوة بينها وبين ظلالها، فالجناح الملقى على الأرض محض يقين ناقص، وموضع تساؤل، بينما «الريشة مكحلة الفقراء»، هي ظل حقيقة معاشة في خبرة البشر والمكان والزمان، لكن يظل سؤال النص «هل تنهض الدنيا بغير جناح؟» قابلا لتفجير الدهشة والحيرة والغرابة، وكلها مقومات حية في بصيرة الشاعر والواقع معًا.
يدرك الشاعر أن التجريب والتغيير في الشعر، بل في الحياة أيضًا، ينبع من الداخل؛ من إعادة النظر في الوظيفة السيكولوجية للقصيدة، حتى لا تصبح مجرد نثار هش في قبضة اللغة ومجموعة من الأدوات الفنية التي تعيد إنتاج نفسها بشكل رتيب. فاللغة على السطح تكتسب فعاليتها من القدرة على تلمس الأعماق، والعكس صحيح أيضًا.. يبرز هذه المعنى بصيغ مختلفة في كثير من نصوص الديوان، موسعًا من مشهدية الشعر، وضخ حيوية خاصة في إيقاع المفارقة، والتعامل معها ليس بوصفها مجرد علامة فنية عابرة، وإنما بوصفها موقفًا من العالم والوجود.. ففي قصيدة بعنوان «اقلب ما شئت ينقلب».. يقول الشاعر:
«أجل..! هذا هو الحال حتى هذه الساعة:
اقلب المئذنة تصر بئرا
اقلب الجبل يصر بحرا
اقلب اليد تصر لصا
اقلب القدم تصر سجنا
اقلب النار تصر سرابا
اقلب النهر يصر طائرا
اقلب الشجرة تصر حجرا
اقلب الضحكة تصر حبل مشنقة
اقلب القصيدة تصر حاكمًا يَقتل ويُقتل
اقلب السماء تصر ألواح أناشيد
اقلب الأرض تصر أرضًا أخرى».
تداعب هذه القصيدة فكرة الضد، من زوايا مباغتة تذكرنا بضربات الفرشاة العفوية المرتجلة على مسطح الرسم، بينما تنداح الصور الشعرية في حركة صاعدة من الأسفل إلى الأعلى، من العمق إلى السطح، في ظل توافق ظاهري للعقل والروح، ما يجعل المفارقة نابعة من الداخل، ويبتعد مفهوم الضدية عن نمطيته الشكلية الصورية، كدغدغة للمخيلة والمشاعر، ليصبح ضرورة شعرية لسبر أغوار الأشياء، واستشراف نوازع الثابت والمتغير في أعماقها. فثمة أشياء يمكن زحزحتها عن مساراتها النمطية، لتكتسب ملامح مغايرة وطبيعة مفارقة لوجودها، وثمة أشياء يظل جوهرها ثابتًا لأنها قادرة على احتواء المع والضد معًا، وتذويبهما في حركتها، وكأن كل شيء يتجمع ويفترق منها وإليها، وهو المعنى الذي تشير إليه اللطشة الأخيرة في النص «اقلب الأرض تصر أرضًا أخرى».
إن إحساسًا ما بالدراما، أو بمعنى أدق بوقع التراجيديا الإنسانية، ينشع في أجواء الديوان، ويتكثف خاصة في لحظات تشبه العدم، حيث يتساوي المع والضد وكأنهما موتان في موت واحد، فـ«من تخلف مات، ومن تقدم مات»، ولا شيء آخر على الدرب يمكن أن تناضل من أجله لترتفع راية العدل والحرية. أيضًا في النص نفسه، وبعنوان «غزوة»، يتابع الشاعر: «الموتى غابة من أغنيات حزينة»، و«الأرض التي ارتوت بالدم خرساء».
يترك الشاعر لنصوصه حرية التداعي، فلا مسافة بين السبب والنتيجة، بين الأنا بوصفها حاضنة للذات وللآخر في الوقت نفسه. كما أن اللغة، بكل مظاهرها الأسلوبية، تعمل كطاقة تحرر، ليكتسب النص مساحة من الجمال والمعرفة الأعمق، كما تمنحه قوة النمو دراميًا، بشكل عفوي من داخل نسيجه الخاص.
مسحة أخرى من أجواء هذه الدراما تطالعنا في نص بعنوان «حرام».. يقول الشاعر فيها، مستفيدًا من لعبة التكرار، وكأنها توليد للمعنى الواحد بدلالات متنوعة عاطفيًا وإنسانيًا ونفسيًا:
«حرامٌ إراقة دِنان الهوى تحت أقدام العسس
حرام طي الليل كالسجل
حرام شروق شمس بلا مِعزف
حرام ترك فتات الكلام على الطاولة»
إننا أمام شاعر يعيش نصه بحب وحميمية، كل همه أن يولد الشعر في نسيج كينونة جديدة، ويكون قادرًا على التسامي والعلو فوق مهازل الحياة وقبحها، كما أنه لا يمكن أن يتنكر لقصيدته، ولا هي أيضًا يمكنها ذلك، مهما كانت فداحة المأساة التي يعبران عنها، ويعيشانها تحت سقف هذا العالم.



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.