انطلق أمس، الخامس من هذا الشهر، مهرجان لندن السينمائي في دورته الستين، حاملاً لعشاق السينما كل ما جال تحت الضوء من أفلام صغيرة وكبيرة، مشهورة ومجهولة، تم إنجازها في الأشهر التي امتدت ما بين نهاية الدورة السابقة ومطلع هذا الشهر.
الحال أن مهرجان لندن السينمائي عرف كيف يعيش ويتعايش. في البدء، كان تظاهرة كبيرة تقيمها مؤسسة «بريتيش فيلم إنستتيوت» في دارها في صالات «بريتيش فيلم ثيتر»، بالقرب من محطة ووترلو. في الثمانينات، انتقل إلى وسط العاصمة، وفي التسعينات، تمركز هناك أساسًا، مضيفًا إلى برامجه سعة من الأفلام، وإلى صالاته المزيد من الشاشات.
في الأساس، هناك عدد محدود من النماذج المهرجاناتية:
هناك نمط المهرجانات الثلاثة الأولى، برلين وكان وفنيسيا، الشامل والكامل والمليء بالعروض العالمية الأولى، وهناك نمط مهرجانات العالم الأخرى التي تقف في الصف الثاني، مثل لوكارنو وسان سابستيان ودبي وكارلوفي فاري وكثير سواها، وهي مهرجانات حافلة بالمسابقات وبالأفلام، ولو أن نسبة الأعمال التي تعرضها عالميًا للمرّة الأولى (برميير) أقل عددًا على نحو ملحوظ مما في مهرجانات الصف الأول.
ثم هناك نموذج تورنتو الذي يحتذي به مهرجان لندن السينمائي.
في الواقع، مهرجان تورنتو حمل صفة «مهرجان المهرجانات» في السبعينات والثمانينات، كذلك حال مهرجان لندن. العبارة تعني - عمليًا - أن لا يتطلع المرء لأفلام برميير، ولا إلى أقسام متعددة بنجوم كبار، بل يقبل أن يلعب المهرجان دور المستقبل لما سبق للمهرجانات العالمية الأخرى (من الصفين الأول والثاني) عرضه.
ثم قرر تورنتو، وبعده لندن، أن يكبر متجاوزًا هذا النطاق. كلاهما اليوم يعرض أفلاما سبق عرضها، لكن كلاهما يلتقط ما يُتاح له من أعمال جديدة يختص بها. هذا ما ينقلنا إلى الإشكال التالي: في حين أن تورنتو لديه السوق الأميركية الشمالية بأسرها لكي يلعب على وتيرة عروضه، فإن مهرجان لندن ليس لديه مثل هذه السوق الفاعلة والجاذبة للراغبين في استثمار العرض لغايات تجارية. هذا ما جعل مهرجان العاصمة البريطانية يقرر، منذ بضع سنوات، إقامة ثلاث مسابقات؛ واحدة للفيلم الروائي الطويل، والثانية للفيلم التسجيلي (الطويل)، والثالثة للفيلم القصير. هنا، كسر التقليد السابق، وابتعد عن أن يكون ظلاً لمهرجان تورنتو الذي يصر (وبنجاح) على أن يبقى بلا مسابقة.
* حكاية ليلى
المرأة هي مفتاح لخزنة مليئة بالأفلام هذا العام في المهرجان اللندني. وعدد كبير منها موجود في مسابقة الفيلم الروائي، حيث نجد أن روني مارا تنكش في ماضي علاقة عاطفية ذات وقع تراجيدي في الفيلم البريطاني / الأميركي Una للمخرج بندلت أندروز، المأخوذ عن مسرحية بعنوان «بلاكبيرد» للكاتب الاسكوتلندي ديفيد هارووَر (وضعها سنة 2004). من هولندا، هناك «ليلى م.» لميكي دي جونغ. وهو فيلم أكثر إشباعًا لرغبة بعضنا في مشاهدة أعمال تتصل بالوقت الراهن ومشكلاته. بطلته ليلى (نورا القصور) من أصل مغربي، تعيش مع أهلها في أمستردام. مع ازدياد التباعد بين مسلمي هولندا ومواطنيها الأصليين، وارتفاع الريبة في كل مسلمة محجبة، تبحث بطلتنا عن حل، فتجده في بث صور من مآسي سوريا وفلسطين، وتتعرف على عبد الله (إلياس أدب)، حيث تقرر اللجوء إلى منوال العمل الخيري في أوروبا، لكن مشكلاتهما كعربيين لا تنتهي، وتجد نفسها وقد نزحت إلى نزاعات الشرق الأوسط.
حكاية نسائية أخرى، لكنها أفضل توضيبًا وتنفيذًا، تتناهى عبر الفيلم الفرنسي «هي» لبول فرهوفن، حيث إليزابث أوبير تتعرض لمحاولة اغتصاب، لكنها مصرّة على أن تواصل حياتها بمنأى عن الشعور بالإهانة والأذى. خلال ذلك، هي نموذج لامرأة طموحة مستقلة (تطلقت من زوجها)، وباحثة عن حلول ناجحة لمشكلاتها الأخرى، مثل علاقتها بزوج صديقتها، ومثل أمها التي تصر على التصرف كامرأة شابة، ومثل ابنها الذي وقع في أول غرام له، وبعد شهر من زواجه أنجبت فتاته طفلاً أسود البشرة من صديقهما المشترك عمر!
* تشجيع بريطاني
على عكس ما تقدم عليه كثير من المهرجانات العربية، فإن مهرجان لندن يجد من الضروري عادة، وهذا العام تحديدًا، تشجيع السينما البريطانية، ليس فقط بانتخاب أفلام مصنوعة محليًا لعرضها ضمن برنامجه الحافل (246 فيلمًا طويلاً، و144 فيلمًا قصيرًا)، بل أساسًا باختيار فيلمين بريطانيين لعرضهما في الافتتاح وفي الختام.
فيلم الافتتاح الذي عرض يوم أمس هو «المملكة المتحدة» للمخرجة آما أسانتي، مع روزماند بايك وديفيد أويلويو وجاك دافنبورت في البطولة: دراما حول قيام حاكم بوتسوانا لاند بالزواج من البريطانية (البيضاء) روث ويليامز. بطريقة تقليدية، يسرد هذا الفيلم حكاية اللقاء بين حفيد ملك بوتسوانا (أويلويو) والشابة البريطانية (بايك)، حين التقيا في لندن. المعارضة الشديدة التي واجهاها من أسرتهما ومعارفهما، بل وفي نطاق العلاقات السياسية في تلك الفترة (الأربعينات). مصوّر جيدًا، لكنه ليس فيلم مؤلّفين، بل فيلم منفذين. على ذلك، ينجز نقاطًا عالية في سبره غور تلك المعيقات السياسية (ولو بكلمات كبيرة مثل «زواجك من الأفريقي سينتج عنه انهيار المملكة البريطانية»). وإذ استقبل جيّدًا في مهرجان تورنتو، يكتفي لندن بعرضه الأوروبي الأول.
هذا أيضًا حال فيلم الاختتام، وعنوانه Free Fire، لبن ويتلي، إذ عرضه تورنتو قبل لندن. هذا أخذ حكايته التي تقع في مدينة بوسطن في السبعينات، حيث يسرد حكاية الفتاة جوستين (بري لارسون) التي تجد نفسها بين نار عصابتين متقاتلتين.
* عروض مصرية
إلى جانب احتفالات الغالا وأفلام المسابقة الروائية (والمسابقتين التسجيلية والقصيرة)، يحفل مهرجان لندن بأفلام كثيرة معروضة حسب انتماءات تصنيفية ساذجة في الظاهر: هناك تظاهرة لأفلام الحب (عاطفية)، وأخرى لأفلام الضحك (كوميدية)، وثالثة لأفلام التشويق، ورابعة للأفلام العائلية. يضاف إليها تظاهرات أخرى: واحدة للأفلام التجريبية، وأخرى لكنوز الماضي، وثالثة لأفلام تتعاطى والاكتشافات والرحلات، ورابعة للأفلام الموسيقية.
قبل بدء المهرجان بأسابيع قليلة، انتشرت المقالات الترويجية في الصحف البريطانية. هذه تجد أن واجبها هو الدعم من دون أن يؤثر ذلك على حرية نقادها في تقييم الأفلام. والجامع بين مقالات الترويج والدعم هذه انطلاقها من حقيقة لا تتحمل نقاشًا كبيرًا، وهي أن مهرجان لندن بات من ضروريات الحياة السينمائية في بريطانيا. جمهوره الواسع يمتد لخارج العاصمة، وأفلامه تتقاطع مع كل رغبة وهدف، ثم إن هذا الاهتمام الكبير بالإنتاج المحلي من الأفلام التي يعرضها إثراء للسينما البريطانية التي لا تجد منابر جماهيرية كافية لأفلامها المستقلة. وسيلتها الوحيدة للانتشار تكمن عندما تنجز أفلاما على منوالات هوليوودية، مثل أفلام جيمس بوند، أو تلك الأفلام المستندة إلى شخصيات براقة، كما حدث في الأعوام الماضية في «لعبة التقليد» و«الفتاة الدنماركية» و«نظرية كل شيء».
هذا لا يعني عدم وجود أفلام مؤلفين. المسألة طبيعية في هذا المجال، إذ لا يمكن خلو مهرجان ما منها. أهم المعروض في هذا المجال، إلى جانب بعض ما تم ذكره مثل «نساء محددات»، نجد «شغف هادئ» لترنس ديفيز، و«نيرودا» لبابلو لاران، و«أفضل ما لديهم» للون شرفيك.
كذلك، هناك عدد ملحوظ من الأفلام العربية المشاركة، يتقدّمها الفيلم المصري «اشتباك» لمحمد دياب الذي سبق وافتتح قسم «تظاهرة ما» في مهرجان «كان». دراما محبوسة في حافلة أمن مقفلة على نحو 25 رجلاً وامرأة وطفلاً. «اشتباك» معروض في مسابقة الفيلم الطويل، بينما عدد من الأفلام العربية الأخرى تتوزع في الأقسام الأخرى.
بينها فيلم تسجيلي بعنوان «زغزعة عمالقة» (Tickling Giants) حول المقدّم التلفزيوني المصري بسام يوسف. في الحاضر المصري أيضًا «يوم للستات» لكاملة أبو ذكري، مع إلهام شاهين ومحمود حميدة وفاروق الفيشاوي ونيلي كريم (التي تظهر أيضًا في «اشتباك»). كذلك، الفيلم الجيد «آخر أيام المدينة» لتامر السعيد (عروض مهرجان برلين سابقًا)، واستعادة لفيلم يوسف شاهين «وداعًا بونابرت».
المرأة محور أفلام الدورة الـ 60 لمهرجان لندن السينمائي
3 مسابقات للفيلم الروائي الطويل والتسجيلي «الطويل» والفيلم القصير
المرأة محور أفلام الدورة الـ 60 لمهرجان لندن السينمائي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة