الزهراني: التطرف فكر متوحش.. لكن التاريخ لا يصنعه الحمقى

المدير الجديد لمعهد العالم العربي في باريس انفرد بشغفه بالثقافة الفرنسية

معجب الزهراني - جانب من معهد العالم العربي
معجب الزهراني - جانب من معهد العالم العربي
TT

الزهراني: التطرف فكر متوحش.. لكن التاريخ لا يصنعه الحمقى

معجب الزهراني - جانب من معهد العالم العربي
معجب الزهراني - جانب من معهد العالم العربي

في عام 1979 اختار معجب الزهراني فرنسا وجامعة السوربون خصوصًا لدراسته العليا، رغم أنه حصل على فرصة للتوجه لجامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، أسوة بآلاف السعوديين الذين اختاروا الدراسة هناك، لكن الزهراني انفرد منذ ذلك الوقت بشغفه بالثقافة الفرنسية. واحتضنته باريس عشر سنوات (حتى منتصف 1989)، حيث حصل على شهادة «الدرجة العليا في اللغة الفرنسية»، من جامعة السوربون الرابعة، عام 1982، ودبلوم الدراسات المعمقة في الأدب العربي الحديث، من جامعة السوربون الجديدة، عام 1984، وشهادة الدكتوراه في الأدب العام والمقارن، من جامعة السوربون، سنة 1989. عن أطروحة بعنوان: «صورة الغرب في الرواية العربية الحديثة». وها هو يعود إليها مجددًا مطلع سبتمبر (أيلول) الماضي ، مديرًا لمعهد العالم العربي في باريس بعد أن اختاره مجلس السفراء العرب نهاية مايو (أيار) الماضي. وكان عمل قبل ذلك، أستاذا لعلم الجمال والأدب الحديث، بجامعة الملك سعود، ومشرفا على كرسي غازي القصيبي بجامعة اليمامة، كما أنه كاتب ومؤلف الكثير من الدراسات، ومشرف على الكثير من الرسائل العلمية، وناقد في مجال الشعر والأدب والنقد، وهو أيضًا روائي صدرت له مؤخرا رواية «رقص».
أما معهد العالم العربي، فقد تأسس في العام 1980 بمبادرة من 18 دولة عربية، وهو يسعى لأن يكون جسرًا ثقافيًا بين فرنسا والعالم العربي، عبر تشجيع المبادلات الثقافية والمعرفية، خصوصا في مجالات العلوم والتقنيات. وهو يُدار مناصفة بين الدولة الفرنسية والدول العربية عبر مجلس السفراء العرب، ويخضع للقانون الفرنسي، ويقوم المعهد، منذ تأسيسه، على رئيس ومدير. الأول فرنسي يرشحه رئيس الجمهورية الفرنسية، والثاني عربي يختاره مجلس السفراء العرب المؤلّف من 22 دولة. هنا حوار مع الدكتور معجب الزهراني بعد توليه مسؤوليته الجديدة:
> مع تسلمك رئاسة معهد العالم العربي في باريس، ما أولى مهامك في هذا الوقت الحرج الذي يشهد «انعدام الثقة» بين الثقافات؟
- لا علاقة لمهمتي بالظروف العابرة بكل تأكيد. المعهد مؤسسة عريقة عمرها ثلاثة عقود، وهناك أنظمة ولوائح تحدد الصلاحيات النظامية لكل موظف، بغض النظر عن موقعه. نعم ربما يكون للأحداث المؤسفة التي تشير إليها دور المحفز على ضرورة بذل المزيد من الجهد الفاعل للتواصل والتبادل لتعريف الآخرين بثقافة عريقة يمثلها المبدعون المنتجون في كل المجالات، وليس هؤلاء القتلة المنحرفون الذين يعيثون فسادًا في كل مكان.
> هل يمكن لمعهد العالم العربي أن يكون جسرًا ثقافيًا بين فرنسا والعالم العربي يتعالى على عناصر التوتر القائمة؟
- المعهد ليس جسر عبور محايدا، بل هو فضاء تواصل وتفاعل، يلعب دوره ويؤدي وظيفته بكفاءة عالية، كغيره من المؤسسات الثقافية الجادة في كل مكان. ولأنه كسب ثقة كبيرة ومصداقية عالية لدى جمهور متنوع الاتجاهات والاهتمامات بفضل منتجاته الخلاقة خلال عقود فقد زاد عدد زواره حتى تجاوزوا المليونين الآن. وكل من يطلع على برامجه وأنشطته سيدرك أن القائمين عليه يحرصون كل الحرص على التنويع والابتكار لتلبية الحاجات، وإرضاء كافة التطلعات المتوقعة لجمهور باريسي هجين يبحث عن المتعة والفائدة في مدينة جذابة غنية كريمة مع كل مقيم وعابر.
> ماذا يلزمه لتحقيق هذا الهدف؟
- الاستمرارية مع التطوير هو هدف كل مؤسسة ثقافية حديثة فاعلة. وتراكم التجارب والخبرات هو ذخيرة ثمينة لكل من يريد أن يجتهد ويبدع ويضيف لبنة في البناء أو شجرة في الحقل ذاته. لا مجال هنا لاستئناف البدء أو للقطيعة والتأسيس كما يتوهم كثيرون في بلداننا، حيث يحولون المؤسسات إلى حقول تجارب ينقض بعضها بعضًا، فلا خبرة تتعمق ولا عمل ينجز.
> هل نحن، بصفتنا عربا، في حاجة فعليًا إلى التواصل مع فرنسا؟ ماذا تضيف لنا الثقافة الفرنسية؟
- نحن في أمس الحاجة إلى لتواصل الثقافي الخلاق مع كل العالم. ولعل فرنسا من أكثر البلدان الأوروبية أهلية وجاذبية لتواصل كهذا، والسبب بيّن بنفسه. فالجالية العربية الأكبر والأهم في الغرب تقيم في فرنسا كما نعلم. وفرنسا الرسمية والشعبية قريبة جدًا من تطلعات شعوب المنطقة وقضاياها، وفي مقدمتها قضية فلسطين. هذا فضلاً عن تقارب نخبها السياسية المتعاقبة يسارية كانت أو يمينية مع سياسات دول المنطقة العربية، وبخاصة في شمال أفريقيا ودول الخليج. ومن ينسى أن النخب الثقافية العربية التنويرية ظلت تجد في فرنسا الحديثة النموذج الأكثر جاذبية وفتنة بعد أن توجهت أولى البعثات التعليمية إلى مدينة النور منذ بداية القرن التاسع عشر، وظلت الصيرورة متصلة حتى منتصف القرن العشرين. ولعل كبار المفكرين والمبدعين الفرانكفونيين في بلدان المغرب بالأمس واليوم أهم ثمرة للتواصل مع اللغة والثقافة الفرنسية، حيث زال الاستعمار وبقيت الغنيمة.
> ما الذي يميز الثقافة الفرنسية والفرانكفونية تحديدًا، عن الثقافات العالمية الأخرى؟
- الثقافة الفرنسية جزء من الثقافة الغربية الحديثة، وتأثيراتها الكونية لم ولن تنافس تأثيرات الثقافة الإنجليزية دون ريب. لكن المؤكد أنها طالما تميزت بأمرين لا جدال فيهما. الأول تدشينها للدولة الحديثة، حيث مثلت فرنسا ما بعد الثورة الثمرة العملية لعصر التنوير وفكر الأنوار حد أن «هيغل» عد الجمهورية الأولى النموذج العملي المتحقق للوعي أو التاريخ بالمعنى الحديث. والثاني نمط الحياة الراقي المرهف، أو ما يسمى «معرفة العيش» الذي ما زال معترفًا به شرقًا وغربا، ويشمل بالطبع فنون الأكل والشرب واللباس والتخاطب، حد أن باريس تعد عاصمة الموضات الجديدة في مختلف الفنون التي قد تبدأ من أي مكان، لكنها لا تنتشر وتكسب مشروعيتها الجمالية إلا منها. وهناك طرفة شائعة لا تخلو من دلالة بهذا الصدد مفادها أن الأفكار العظيمة تخرج من ألمانيا وتستعمل في بريطانيا وتشيع أو تشع من فرنسا. ولعل أكثر من يعرف هذه المميزات أو الخصوصيات ويعترف بها هم الأميركان الذين يرون في فرنسا النموذج الحضاري الأرقى والأكثر جاذبية رغم أنهم امتداد للثقافة الإنجليزية العريقة كما نعلم. أما من منظور عربي، فالكل يعلم أن الثقافة الفرنسية شكلت المثال أو الحلم الذي رنت إليه النخب المصرية، ثم العربية جيلاً بعد آخر منذ عهد محمد علي حتى اليوم.
> عانت فرنسا من الصدام الثقافي الذي أفرز التطرف والإرهاب وآخرها ما حدث في باريس ونيس وغيرهما.. كيف يمكن لهذا المعهد أن يعيد الثقة للثقافة العربية باعتبارها صالحة للشراكة الأممية؟
- قلت في مناسبات سابقة وأكرر أن تحولات التاريخ تخضع لمنطق أبستمولوجي عميق لا تصنعه ولا تمنعه الحوادث العابرة أيًا كانت. الإرهاب آفة كونية ضرب فرنسا كما ضرب غيرها من قبل، ولا بد أن هناك جماعات عملت وستعمل على استثمار الكارثة لصالحها كما يفعل اليمين المتطرف في أوروبا وأميركا. لكن التاريخ لا يصنعه الحمقى ولا ينصت طويلاً لصراع الجهالات كما يسميه إدوارد سعيد. والمعهد بدأ استجابة لشرط تاريخي عميق، وسيظل يعمل في سياقه لتحقيق أهدافه ولو كره المتطرفون من كل الأعراق والأديان والمذاهب والأحزاب.
> بالمناسبة نتحدث عن التطرف العربي الذي غزا فرنسا، لكننا نغفل أن هناك موجة تطرف مضاد تتمثل في صعود اليمين الفرنسي والأوروبي، وصعود ترامب في الولايات المتحدة.. هل هو عصر الأصوليات المتشابكة، أم هو ردود فعل متجانسة للأصولية الإسلامية؟
- لا يوجد شيء اسمه التطرف العربي، بل هناك تطرف ديني مذهبي من جهة، وتطرف قومي أو وطني من جهة أخرى، والجامع بينهما ما سميته فكر التوحش الذي عادة ما يرى في الآخر المختلف خطرا يهدد وجوده أو هويته أو مصالحه. ومع وجاهة هذا الطرح إلا أنه من الضروري التفريق بين تطرف عبثي متفلت من كل منطق عقلي أو أخلاقي أو قانوني وبين تطرف يحاصره قانون الدولة ذاته ولا يستطيع ممثلوه التفوه بعبارة عنصرية عدائية دون أن يحاكموا بكل صرامة. وفي كل حال التاريخ لا يصنعه الحمقى وحروب الجهالات تزعج الأفراد والجماعات هنا وهناك، لكنها لن تجد لها أفقا مناسبا في عصر يفرض على الجميع المزيد من التواصل والتعاون لمواجهة الرهانات والتحديات المشتركة.
> هل يمكن للثقافة أن تنجح فيما أفسدته السياسة والأصوليات المتوحشة؟
- الثقافة الشاملة للفكريات والعلميات والجماليات هي ما ميز الإنسان عن غيره من الكائنات، بالأمس، وهي ما يؤنسن البشر كل يوم، في كل لحظة اليوم وغدا. السياسة يفترض أن تكون جزءا من الثقافة بهذا المعنى لأنها تعني علم أو فن إدارة الدولة وتنمية طاقاتها البشرية وثرواتها الطبيعية والصناعية بما يضمن سعادة غالبية الأفراد المواطنين. وانحراف الفعل السياسي إلى مسارات خطرة دليل خلل في فكر النخب الحاكمة، وعادة ما ينتهي بزوالها لصالح نخب جديدة تحترم منطق التاريخ ومعطيات الواقع، وتلتزم أخلاقيا وقانونيا بحقوق المجتمعات والشعوب، وهنا يعود دور الثقافة التي توجه السياسة وليس العكس.
> هل يمكن لمعهد العالم العربي أن يستفيد من الحضور الثقافي العربي المنفتح على الحداثة لتعزيز التواصل وتوسيع قاعدة التغيير الإيجابي في العالم العربي؟
- هذا ما أنشئ المعهد من أجله وما يحرص عليه دائما؛ لأن الحداثة كانت وستظل أفقا متسعا لكل فعل تواصلي يروم تعزيز علاقات التبادل والتعارف والتعاون بين الثقافات والشعوب، لكنه لا يستطيع اجتراح المعجزات، خصوصا أن عالمنا العربي مليء بمؤسسات تقليدية معتبرة تعمل ليل نهار ضد كل حداثة وتحديث، ولبعضها قدرة كبيرة على التأثير في علاقات المجتمع، بل والتحكم أحيانا في منظومات التعليم نفسها.
> هل تعول على مشاركة الدول الراعية لمعهد العالم العربي؟ هل هناك مساحة للمثقف العربي غير الرسمي لكي يسهم معكم في المعهد؟
- الدول العربية التي لعبت دورًا رياديا في تأسيس المعهد، وفي مقدمتها المملكة (العربية السعودية) حتمًا، لم تقصر في دعمه، وإن ارتبكت المسيرة في فترة معينة نتيجة اجتهادات خاطئة من إدارات سابقة، أو سوء فهم عابر من قبل حكومات معينة. هناك حاجة ماسة إلى تصحيح المسار وتجديد الثقة بين جميع الأطراف، وهذا تحديدًا ما تعمل عليه الإدارة الحالية بقيادة جاك لانج، ويسرني أن أسهم بجهدي الخاص بهذا الصدد، وكلي ثقة في حكمة المسعى ونبل الهدف المشترك.
> التواصل بين فرنسا والعالم العربي قديم، لكنه متركز في شمال أفريقيا وجزء من الشام، وأنت القادم من الخليج والشرق الأوسط، هل يمكنك أن تفتح مسارات جديدة تعزز الحضور الثقافي بين الضفتين؟
- للجغرافيا والتاريخ منطق يفرض على الجميع. الفضاءات العربية التي يشير إليها السؤال توطدت بينها وبين فرنسا علاقات تواصل وتفاعل متنوعة من بدايات الحقبة الاستعمارية دون شك. لكني واثق تماما أن المعهد اليوم يحرص كل الحرص على توسيع دائرة اهتماماته لتشمل كامل المنطقة العربية كما تدل عليه الفعاليات الكبرى الأنشطة النوعية الصغيرة التي نظمت في الماضي القريب أو البعيد. وهناك بعد آخر للقضية يجب تذكره والتذكير به دائما ويتعلق بالجالية العربية الكبيرة في باريس وفرنسا، وهي في معظمها من شمال أفريقيا والساحل الشامي، ومن حقها علينا جميعا أن نتفهم تطلعاتها وحاجاته قدر الممكن. وفي كل حال نثمن كل اقتراح مهم، وسنحاول جهدنا التفاعل معه؛ عسى أن نلبي كل الطموحات المشروعة لكل الجهات والتوجهات.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!