لم يتوقف الكاتب المسرحي الأميركي المثير للجدل إدوارد ألبي Edward Albee (1928 - 2016) الذي تُوفي في منزله قبل أيام الماضي، عن الكتابة طوال مهنة استمرت أكثر من ستين عاما. وكما كان في حياته مشاغبًا وصادمًا للنقاد والجمهور، كان لاذعًا أيضًا، حتى في مواجهة الشيخوخة والعجز واعتبر «الموت بمثابة مضيعة تامة للوقت».
اعتبر ألبي أهم كتاب المسرح الأميركيين في النصف الثاني من القرن العشرين. كتاباته شديدة الذكاء في قدرتها على تفكيك مآزق الإنسان المعاصر الوجودية والنفسية، كما توصف أعماله بأنها ثاقبة في إظهار زيف العلاقات البشرية وسطحيتها، وشديد صراحتها - ربما إلى حد الإزعاج أحيانا - في تبيان التناقض بين الإنسان وذاته، وبين قشرة الحضارة الزائفة وبؤس الحياة.
نشأته كانت تكوينًا لا بد منه لملك مسرح العبث الأميركي المطلق. فهو أصلاً ليس ألبي بل ذلك اسم أخذه من العائلة الثرية التي تبنته بعد أن تخلى عنه والداه البيولوجيان. يقول إنه «بينما كان الأطفال يصابون بالهلع خوفًا من أن يكون آباؤهم ليسوا آباءهم الحقيقيين، كنت أخاف أن يكون هؤلاء أهلي الحقيقيين». وبينما كان والداه بالتبني يسعيان لأن يصبح طبيبًا أو محاميًا صدمهما أولاً برغبته في امتهان الكتابة، ولاحقًا بميوله المثلية. لم يتحدث إليه والده بالتبني بعدها، وحرمته أمه بالتبني من الميراث. تنقل ألبي بين المدارس وطرد من معظمها معتبرًا إياها بمثابة كابوس، ولم يكمل تعليمه الجامعي قط. عمل في وظائف تافهة عدة قبل أن يحترف الكتابة للمسرح، وكاد يُصاب بالإدمان على الكحول لولا مساعدة أحد أصدقائه له على الشفاء.
بدأت مهنة ألبي المسرحية بعد تجارب فاشلة أولى في كتابة القصة القصيرة والشعر، وقال مرة إنه تحول إلى كتابة المسرحيات لإحساسه بقدرة هائلة على الكتابة، لكنه لم يفلح في أي من أشكالها، فانتهى إلى الكتابة المسرحية. زمنيًا بدا وكأنه ورث شعلة المسرح الأميركي بعد موت أوجين أونيل، وبعدما كان آرثر ميللر وتينيسي ويليامز قد أنتجا بالفعل أفضل أعمالهما المسرحية. قدم ألبي نفسه إلى العالم من خلال عملٍ اعتبر وقتها صادمًا (قصة حديقة الحيوان - 1959) التي كتبها خلال أسبوعين ونصف الأسبوع على آلة كاتبة استعارها من مقر عمله كان يعمل وقتها كصبي مكتب ومراسل في إحدى الشركات. لم تعبأ أميركا وقتها بالمسرحية الأولى لألبي حتى قادتها الأحداث إلى برلين، المنشدة بحكم السيطرة العسكرية إلى الثقافة الأميركية - وقدمت حينها في تذكرة واحدة مع مسرحية لصموئيل بيكت (قصة حديقة الحيوان)، كانت إضاءة شديدة القسوة على الرعب الوجودي للأميركي العادي في مرحلة أيزنهاور، ويبدو أن الجمهور أحبها لدرجة أنه عندما أعيد تقديمها في أميركا العام التالي على مسرح ريفي صغير في قرية جرينويتش، أساهم الإقبال العريض على حضورها بإطلاق حركة مسرحية سميت «خارج البرودواي»، أي المسارح خارج منطقة تجمع العروض المسرحية الكبرى في نيويورك.
أشهر مسرحياته على الإطلاق (ربما ليست أهمها) كانت «من يخاف من ذئب فرجينيا؟» (1962) التي تحكي قصة زواج فاشل منح على أثرها جائزة توني لأفضل عمل مسرحي، التي تصنف بأنها الأهم بين جوائز المسرح في الولايات المتحدة. كانت المسرحية بمثابة صدمة تامة لمن يشاهدها بسبب الاختناق الذي وصلت إليه حالة الزوجين - الأكاديميين - بطلي النص اللذين فقدا الأمل وانهارت أحلامهما وقضيا ليلة سوداء في حوارات لاذعة شديدة القسوة والابتذال. أسم المسرحية كان استعارة من نص لمجهول على كرسي في إحدى حانات نيويورك، وهو يعني «من يخاف العيش من دون أوهام؟». شهرة «من يخاف من ذئب فرجينيا» لم تكن أساسًا بسبب استمرار عرض المسرحية دون توقف لعام ونصف العام، بل للفيلم الدرامي الذي أنتج عنها في 1966 من بطولة ريتشارد بورتن وإليزابيث تايلور وإخراج مايك نيكولز. المسرحية كانت نموذجًا مبكرًا لصوت ألبي في التعبير الذي سيستمر عليه لعقود ضمن فلسفته الساخرة من تحكم الأنانية بسلوك البشر. «لا يوجد أحد لا يريد شيئًا ما»، يقول أحد بطلي المسرحية.
نشر ألبي نحو ثلاثين عملاً مسرحيا كانت وكأنها عاصفة مستمرة عامًا بعد عام كاشفا أدق أسرار الطبقة الوسطى الأميركية، ساخطا دون رحمة على أوهام الحياة العائلية والمبادلات الاجتماعية، وأية محاولات لفهم الذات أو معنى الوجود، ساخرا فيها بشدة من تفاهة العيش مع تناسي الموت. كل ذلك جعل من أعماله هزة عنيفة لجمهوره، إذ لا يمكن هضمها بسهولة لعلو سقفها الفلسفي الذي يتطلب من المتلقي نضوجا استثنائيا. ولذا فإن علاقته مع الجمهور كانت متفاوتة الحرارة بين الحين والآخر، لكن علاقته بالنقاد كانت سيئة معظم الوقت، وخاض حروب ازدراء متبادل مع عدد منهم. كان يرى أن المسرح يجب أن يقدم للجمهور ما يفيدهم - حتى وإن تسبب لهم بالاستفزاز - لا ما يسليهم فقط، ولذلك كان واضحًا برفضه تحكم المنطق التجاري البحت في العمل المسرحي.
وانطلاقًا من هذا الإيمان، أنفق معظم ثروته التي جناها من العمل المسرحي على دعم كتاب مسرحيين آخرين كي يمكنهم أن يقدموا أعمالهم للجمهور.
يرفض ألبي وبشده التصنيفات السطحية التي تحاول وضعه في صندوق أنه كاتب مثلي رغم أنه لم ينكر ميوله تلك أبدًا. وقد نقل عنه قوله: «أنا لست مثليًا يكتب، في الحقيقة أنا كاتب تصادف أنه مثلي». وهو يقول: «إن النصوص يجب أن ترتقي دومًا فوق توجه الكاتب أو الكاتبة الجنسي»، وللحقيقة فإن البذاءة في بعض مسرحياته ليس لها علاقة تذكر بتوجهاته الشخصية.
نجحت عدة مسرحيات لألبي في أوروبا قبل عرضها في الولايات المتحدة. استقبل بعضها استقبالاً حافلاً. ولذلك يصف ألبي نفسه بأنه «كاتب مسرح أوروبي على نحو ما».
يقول النقاد إنه تأثر فيما كتب بصموئيل بيكيت ويوجين أيونيسكو وجان جينيه وهو عاصر هارولد بنتر في مرحلة كان الفن فيها متمحورًا حول الخواء وانعدام المعنى وخيبات الأمل الوجودية. وعلى الرغم من سجالاته الكثيرة مع برودواي، فقد فاز ألبي بجائزة توني لمجمل أعماله المسرحية، وأيضًا بجائزة بوليتزر ثلاث مرات، أولا عن «توازن هش» (1967)، وهي كوميديا سوداء عن عائلة غنية يكشف أفرادها عن تعاستهم المقيمة من خلال مبارزات لغوية حادة، وثانيا عن «مشهد بحري» (1975) هي مسرحية شديدة الغرابة عن ثيمات الحياة والتطور والموت من خلال نقاش على شاطئ البحر، وأخيرا «ثلاث نساء طويلات» (1991)، وهي عمل يستلهم ذكرياته عن حياة السيدة التي تبنته، ويحكي - في مراحل ثلاث - قصة حياة سيدة تحتضر.
«ألبي بالتأكيد ليس معجبًا بالنوع البشري» يقول الناقد جون لاهر في «النيويوركر». هو يحس أن «البشر يقضون وقتًا طويلاً في العيش وكأنهم لن يموتوا». ذلك كثير بالنسبة له بالطبع، ولذا فمسرحياته على حد قوله: «عن أناس لم يلحقوا بالقطار، يغلقون ذواتهم عن الحياة مبكرين، وينتهون إلى الموت وهم نادمون على ما لم يفعلوه لا على ما فعلوه».
ألبي وكأنه عراف، فـ«مهمة الكاتب أن يرفع للناس مرآة كي يروا كم هي حياتهم مليئة بالعبث».
إدوارد ألبي.. كاتب مسرحي لا يخاف من «ذئب فرجينيا»
عراف مسرح العبث الأميركي غادرنا عن 88 عامًا
إدوارد ألبي.. كاتب مسرحي لا يخاف من «ذئب فرجينيا»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة