بعد عشرة أيام من الأفلام التي تبدأ صباحًا وتنتهي بعد منتصف الليل، امتدت ما بين 8 و18 من هذا الشهر، اختتم مهرجان «تورنتو» أعماله، بعدما عرض نحو 300 فيلم شاهدها أكثر من 100 ألف متفرج (الأرقام النهائية لم تصدر بعد)، ونقل للهواة والمتابعين شرائح مختلفة مما أفرزته السينما من أفلام خلال هذا العام.
«تورنتو» هو الوقفة الكبيرة الأخيرة بين المهرجانات السينمائية. نعم، هناك لندن وسان سابستيان وروما ودوفيل وميونيخ وسواها، إلا أنها، على أهميتها المتفاوتة من مهرجان لآخر، ليست بحجم تورنتو ولا بسعته، أو أهميّته الدولية.
إليه يشد السينمائيون الأوروبيون الرحال ليلتقوا بنظائرهم الأميركيين وبسواهم، من مخرجي ومنتجي وموزعي الأفلام عبر العالم. «تورنتو» جعل من نفسه عنوان مرحلة مقبلة. المحطة التي ينطلق منها القطار مجددًا صوب موسم الجوائز، والنافذة التي يسعى معظم الأفلام المعروضة للإطلال منها على سوق أميركا الشمالية.
هذا على الرغم من أنه ليس سوقا، وليس مهرجان جوائز، بل زحام منظم من العروض والحفلات واللقاءات. قلمًا تمضي في شوارع المدينة بين صالتين أو فندقين من دون أن تمر بمن تعرفه. نادرًا ما لا تزورك الذكريات الكثيرة التي مرّرنا بها: هنا التقيت بالمخرج المجري بيلا تار، وفي هذه الصالة جلست إلى جانب المخرج برايان دي بالما، وفي ذلك المطعم جلست مع رئيس مهرجان نيويورك في التسعينات. وهنا، عند ناصية هذا الشارع، صباح الثالث عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، كان الناقد الراحل روجر إيبرت أول من التقيت به بعد يوم توقفت فيه العروض السينمائية. كلانا بدا مذهولاً من الكارثة التي وقعت قبل يومين. هز رأسه محييًا، ولم أجد ما أقوله سوى سؤاله «هل فتحت الصالات اليوم؟». على ذلك أجاب بنعم. كلانا كان لا يزال تحت تأثير الصدمة.
غناء في كوبا
هذا في الماضي، والحاضر مختلف؛ الأفلام المتدفقة عامًا بعد عام تساعد على وضع ساتر كبير بين تلك السنوات وبين اليوم. أينما التفت، وجدت نفسك في مواجهة فيلم لم يشترك في مهرجان آخر حضرته، أو لم يشترك في أي مهرجان آخر. هناك نسبة من الأفلام جيء بها بعد عروضها في برلين وكان وفنيسيا ولوكارنو، لكنها النسبة الأقل عمليًا.
قبل أيام، على سبيل المثال، كان لا بد من مشاهدة العرض العالمي الأول لفيلم تسجيلي جديد عن فرقة «ذا رولينغ ستونز».
كل الفرق الموسيقية البريطانية التي انطلقت في مطلع الستينات تبعثر أعضاؤها، وتوقفت مهامها في العقد التالي. بعضها أطلق بضع أسطوانات ناجحة، ثم توقف باكرًا، وبعضها استمر لعدة سنوات في السبعينات، ثم انتهى.
وهذا يشمل فرقًا رائعة تركت أثرها على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، حيث اعتبرها الأميركيون «غزوة بريطانية» (British Invasion)، ومنها «ديف كلارك فايف»، و«ذا بيتلز»، و«هرمان هرمتس»، و«مانفرد مان»، وأفضلها «ذا كينكس» (The Kinks).
الفرقة الوحيدة الباقية هي «ذا رولينغ ستونز»، وقوامها اليوم ما زال 4 أعضاء، منهم 3 صاحبوا الفرقة منذ أن تألّفت سنة 1962 إلى اليوم، وهم ميك جاغر وكيث رتشردس وتشارلي واتس. والرابع، روني وود، يعتبر أيضًا قديما، إذ انضم إليها سنة 1975.
اليوم، هي في سنتها الـ52، وما زالت نشطة، تنتقل بالطائرة الخاصة بين القارات ومدنها، وتقيم الحفلات. لكن الجانب الأقل رصدًا هو حقيقة أنها أكثر الفرق الموسيقية تمتعًا بالظهور على شاشات السينما.
ليس فقط أن ميك جاغر ظهر سنة 1970 في فيلمين متلازمين كممثل (دور مساند في «أداء» لنيكولاس روغ، ودور رئيسي في «ند كَلي» لتوني رتشردسون)، بل إن الفرقة ذاتها كانت موضوع عدة أفلام تسجيلية على مر العقود، آخرها فيلم مارتن سكورسيزي «إلق نورا» (Shine a Light) قبل أربع سنوات. هذا عدا مئات أفلام الفيديو التي نقلت للمعجبين حفلاتهم في كل مكان من دون توزيع سينمائي.
«رولينغ ستونز مرحى مرحى مرحى: رحلة عبر أميركا اللاتينية» (The Rolling Stones Olé Olé Olé: A Trip Across Latin America) لبول دوغدال هو آخر هذه الأفلام، وإن قد لا يكون أخيرها.
يصاحب الفيلم الجولة الموسيقية التي قامت بها الفرقة في مطلع هذه السنة بين دول أميركية. والمحطة الأهم هي التي أمّها الفريق في هافانا، في مارس (آذار) الماضي. هناك، عصف المكان بالحضور من أجيال مختلفة (ولو أن الغالبية هي بطبيعة الحال من الشباب)، وعاشوا مع الفرقة وقتًا لن يُنسى، ليس للشهرة التي يحتلونها فقط، بل لأنها أول فرقة روك أند رول غربية تقيم حفلة في كوبا منذ نصف قرن، أو نحو ذلك.
هناك محطات أخرى (بيرو، وتشيلي، والبرازيل)، لكن المحطة الكوبية هي أوج الفيلم. وبعد ذلك، هو أقرب إلى محاولة استنفاد الفرصة المتاحة لتعميق وجدانياتها. يلتقط المخرج مما صوّره ما يعكس شغف الجمهور اللاتيني، ليس في الحفلات المصوّرة فقط، بل خلال مرور الفريق بالبلدات والمدن. وجزء من الفيلم يتحدث كذلك عن العلاقة بين كيث رتشردس وميك جاغر، ولو بإيحاء من حديث ودّي بينهما، علما بأن كل منهما أقل مودّة للآخر بعيدًا عن الكاميرات.
**** سهم لا يحيد
في الموسيقى كذلك، وإلى جانب «لا لا لاند» كما ورد سابقًا، شوهد فيلم موسيقي - استعراضي قوامه رسوم أنيميشن غرافيكي (منفّذ على الكومبيوتر). الاستوديو الصانع لهذا الفيلم هو يونيفرسال، وإذا كانت المنافسة بينه وبين ديزني في السنوات الأخيرة احتدت كثيرًا، فإن هذا الفيلم الجديد، وعنوانه «غنّي» (Sing)، سيزيد من حدتها.
«يونيفرسال» هي الأكثر غزارة بين الاستوديوهات الأخرى، وتأتي بعد ديزني في اعتماد سينما الرسوم المتحركة كنشاط إنتاجي إلى جانب السينما الروائية الحية. ولا عجب في ذلك، لأن فيلمها الأخير الذي ما زال متوفرًا في بعض الأسواق، وهو «الحياة السردية للحيوانات الأليفة»، سجّل قرابة 800 مليون دولار حول العالم. بعض أفلام ديزني الأنيميشن لم تحقق هذا النصيب.
ليس أن الفكرة ذاتها (مسابقة غناء يدخلها في آخر لحظة حيوان أليف يريد إنقاذ مسرحه من الإفلاس عبر الاشتراك في المسابقة لعله يفوز بالجائزة الأولى) رائعة، بل هي مستهلكة في كثير من الأفلام من كل نوع (بينها ومن أولها «شهرة» Fame)، بل الإنتاج الصانع لعمل مسل، رغم كل ما يمر عليه من «كليشيهات». السهم لا يحيد عن هدفه بالنسبة لصانعي الفيلم (في مقدمتهم المخرج والكاتب غارث جنينغز)، والهدف هو تحقيق فيلم ولادي جاذب لأقصى الدرجات. بعض مكوّناته في هذه الغاية يعود إلى الأسماء الكبيرة التي تمثل بصوتها: ماثيو ماكونوفي، وريز ويذرسبون، وسكارلت جوهانسن، وجون س. رايلي.
الفيلم الثالث في سياق الأفلام التي تحفل بالموسيقى والغناء هو «جوستين تمبرلايك وتنيسي كيدز» Justin Timberlake and the Tennessee Kids. هذا هو اسم الفرقة التي يقودها المغني والممثل تمبرلايك في فيلم تسجيلي آخر عرضه تورنتو قبل أربعة أيام.
مخرجان أميركيان معروفان تناوبا على تحقيق أفلام موسيقية - تسجيلية بين كل فيلم روائي أو اثنين، هما مارتن سكورسيزي وجوناثان ديمي مخرج هذا الفيلم. ديمي كان مخرجًا روائيًا جيدًا («صمت الحملان»، «فيلادلفيا»)، وإن لم يكن من بين الأجود بين مخرجي جيله. انطلق في السبعينات محققًا أفلاما من القعر التجاري، مثل «ذا هوت بوكس»، و«بلاك ماما وايت ماما»، و«حرارة في قفص» (Caged Heat)، لكنه بلور نفسه مع نهاية ذلك العقد، وأنجز فيلمًا جيدًا سنة 1979 بعنوان «ملفين وهوارد» (مع المنسي بول لي مات، والراحل جاسون روباردس).
****بطل في عمق البحار
في العام الماضي، شاهدنا فيلمه «ريكي أند ذا فلاش» مع ميريل ستريب وكَفن كلاين في البطولة، لكن الفيلم كان انتفاخًا أكثر منه احتفاء. هنا، يعود إلى تلك الناصية الموسيقية التي مارسها سابقًا، مثل فيلمه عن فرقة «ذا برتندرز» (2000)، وفيلمه عن المغني بروس سبرينغستين (2001)، أو ذاك عن «نيل يونغ» (2006).
«جوستين تمبرلايك…» هو مثل أعماله التسجيلية - الموسيقية المذكورة جودة، وربما هو أكثر تحد منها، كون جوستين يمتلك فرقة من 16 عازفًا ومسرحًا تم تزويده بشاشة كبيرة وعشرات التفعيلات التقنية الكبيرة والصغيرة، وبتصاميم مسرحية مختلفة، بما فيها تصميم الإضاءة المواكب على نحو مبهر على الشاشة الآن، ولا بد إنه كان مبهرًا لجمهور الحفل ذاته.
ديمي ينتقل براحة في هذا الحشد من التقنيات والتصميمات، ولا يفوته أن يركّز العمل على المغني الأول، لمنحه ما يستحقه من اهتمام. الفيلم بأسره احتفاء بجهد غنائي وأدائي مصدره المغني وفرقته الكبيرة.
وبعيدًا عن الموسيقى، وعميقًا في الدراما، يقودنا ما يمكن ترجمته إلى «أفق مائي عميق» (Deepwater Horizon) إلى مغامرة واقعية مستوحاة مما وقع في العشرين من أبريل (نيسان) سنة 2010، عندما انفجرت صهاريج الغاز العاملة في أعماق البحر على نحو 30 كيلومترا بعيدًا عن الساحل الأميركي (في خليج المكسيك). الحادثة التي كلّفت البشرية 11 قتيلاً وألوف الطيور والأسماك وكثير من التلوث، هي في أكثر من فيلم جديد، لكن ميزة هذا الفيلم أن المخرج بيتر بيرغ («هانكوك»، و«سفينة حرب»، و«الناجي الوحيد»...إلخ) حوّل الحادثة إلى احتفاء بصري بالكارثة. قليل من الفيلم يكترث للضحايا، وجلّه عن بطولة الفرد الواحد (مارك وولبرغ في ثاني فيلم له مع المخرج بعد «الناجي الوحيد») في إنقاذ نفسه والآخرين من محرقة تقع عميقًا تحت الماء.
ويوظّف السيناريو المقتبس عن تحقيق صافٍ قامت به ستيفاني صول، وكتبه ماثيو مايكل كارناهن وماثيو ساند، تمهيدًا عاطفيًا صغيرًا. فمايك (وولبرغ) متزوّج ولديه ابنة صغيرة، ويبدو مثالا للزوج والأب، والانفجار يقع بينما هو على الهاتف مع زوجته. ليس فقط أن الفيلم يتحوّل إلى توظيف الكارثة لخدمة سينما مبهرة لا تستطيع الإنتاجات التلفزيونية والإنترنتية تأمينها، ولو أن الثمن هو التغاضي عما نتج عن الكارثة الفعلية من كوارث على كل صعيد. لهذا لا يكترث الفيلم كثيرًا حتى لنقد شركة BP، ولو أن الفرصة كانت مواتية لتحقيق فيلم يصيب النجاح الجماهيري المنشود، ويرمي بسهام النقد في الوقت ذاته.
ميزتان مهمتان يعملان لصالح الفيلم: تمثيل مقنع من مارك وولبرغ يمكن تصديقه، وتصوير جيد من (اللبناني الأصل) إنريك شدياق الذي سبق له أن صوّر فيلم كوارثيًا أصغر هو «127 ساعة» لداني بويل.
***سامية التونسية
هناك معانٍ متعددة لكلمة كارثة؛ مثلاً هي تعني أي فيلم رديء تقع الأعين عليه، أو تعني تحويل حكاية منفردة وخيالية إلى أحداث مرعبة، أو تعني بحثًا في شؤون حياة شخصية خرجت عن الدرب الذي حلمت به.
هذا المعنى الأخير مجسد في فيلم «جسد أجنبي» (Foreign Body) للمخرجة رجاء عماري، الذي يبحث في حياة فتاة تونسية اسمها سامية (تقوم بها سارا حناشي) تسللت إلى فرنسا على نحو غير شرعي. لا نرى في الفيلم عبور البحر المتوسط ما بين الشمال الأفريقي والجنوب الأوروبي، لكننا نعلم تمامًا أن سامية لم تصل إلى الساحل الفرنسي إلا عبر هذه الوسيلة، وإنها قد تكون الناجية الوحيدة بعد غرق المركب، كذلك لا نرى كثيرا مما يفترض أن يقع لها نتيجة مغامرتها: لا كيف استطاعت الثبات فوق أرض تجهلها؟ ولا كيف تحاشت البوليس أو أي عوائق أمنية أو اجتماعية أخرى؟! هناك مشاهد تونسية لإيضاح أسباب هروب سامية من بلادها (التطرّف، ومعاملة شقيقها له، والبحث عن فردوس مفقود)، لكن ما يهم المخرجة هو جذب الاهتمام إلى داخل الشخصية، وليس فقط إلى ظرفها.
تبحث سامية عن عمل، وتجده عند امرأة ثرية عربية الأصل متزوّجة من رجل أعمال ثري، اسمها سميرة (هيام عباس). سامية، كما يقترح الفيلم، هي النسخة الجديدة من سميرة (وتشابه الاسمين ليس صدفة).
بينما الموضوع جدير بالطرح، وفي هذه الظروف بالتحديد، وبينما التمثيل جيد والإخراج مقبول، يعاني الفيلم من اعتماده على الكاميرا المحمولة التي تحاول أن تمسح الوجوه والحركات والمحيط بالدرجة ذاتها من العبث. بعد قليل، إن لم يصب المشاهد دوارٌ، سيشعر بأن كل حركة تقوم بها الكاميرا من هذا النوع هي فعل إضافي معاكس للمعايشة المرجوة لما يقع داخل الفيلم.
بعد سنوات من الجهد بحثًا عن التمويل (الذي لا يتجاوز ميزانية ثلاثة أيام تصوير من فيلم مثل «أفق مائي عميق») وجدت المخرج عماري الدعم من قبل وزارة الثقافة التونسية، كما من بضع شركات فرنسية وسويسرية.. والنتيجة تستحق الجهد الذي بذلته في هذا السبيل.
أغانٍ جميلة وكوارث مفزعة في أيام تورونتو الأخيرة
«الشرق الأوسط» في مهرجان تورونتو السينمائي (أخيرة)
أغانٍ جميلة وكوارث مفزعة في أيام تورونتو الأخيرة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة