«المسار الأموي» فرصة أخيرة للعرب لإعادة الاعتبار لإرثهم الأندلسي

نزاع خفي بين الوجودين الإسلامي واليهودي.. والغلبة للأخير

الكنيس اليهودي في طليطلة بهندسته الاسلامية ولونه الأبيض - مسجد قرطبة
الكنيس اليهودي في طليطلة بهندسته الاسلامية ولونه الأبيض - مسجد قرطبة
TT

«المسار الأموي» فرصة أخيرة للعرب لإعادة الاعتبار لإرثهم الأندلسي

الكنيس اليهودي في طليطلة بهندسته الاسلامية ولونه الأبيض - مسجد قرطبة
الكنيس اليهودي في طليطلة بهندسته الاسلامية ولونه الأبيض - مسجد قرطبة

يحب العرب والمسلمون عمومًا زيارة إسبانيا، لاكتشاف جزء من تراثهم. وغالبًا ما يذهب العربي إلى هناك، وفي ذهنه توقعات كبيرة بأن يرى من القصور والآثار التي بقيت بعد ثمانية قرون من الإسلام، ما لم يتمكن أهل منطقته من الحفاظ عليه، بسبب الحروب أو الجهل والإهمال. لكن زيارة إسبانيا، والأندلس خاصة، تنتهي بخيبة أمل، إذ إن جلّ ما يتم التركيز عليه سياحيًا من الآثار الإسلامية هما عنوانان فقط، مسجد قرطبة الذي صار كاتدرائية ومركزًا دينيًا، وبنيت كنيسة في داخله منذ القرن السادس عشر، بحيث لم يبقَ من الجزء الإسلامي ما يمكن أن يعطي فكرة واضحة وجلية عن هذا البناء الضخم الذي كان مركزًا ثقافيًا ليس لإسبانيا وحدها بل لكل أوروبا. أما العنوان الثاني فهو «قصر الحمراء» بروعة هندسته، وموقعه الجبلي الخلاّب المطل على مدينة غرناظة من عل، وهو أيضًا تعرّض كثيرًا للدمار والخراب وإعادة البناء والأجزاء التي لم تمسّ منه ليست كثيرة، نسبة إلى حجمه الأصل.
وما عدا ذلك، فكل ما ستراه عيناك، هي بعض المعالم الصغيرة، التي يبدو أن ثمة تضاربًا حول تاريخها، وقصورًا تقرأ أن المسلمين بنوها، ثم سرعان ما تجد معلومات مضادة تقول إنه تم تخريبها، وإصلاحها وفق رؤية جديدة. أما ما يثير الاستغراب فهو التركيز من قبل المكاتب السياحية وأدلتها، الذين غالبًا ما ينظمون الجولات للزوار ويقررون الأماكن الأهم التي عليهم أن يروها، فهو الإصرار دائمًا على رؤية ما يسمى الحي اليهودي، في كل مرة تحط فيها بمدينة أندلسية، لا يزال فيها مثل هذه المناطق بينما عليك أن تنقب بنفسك لتعثر على الآثار الإسلامية التي هي موجودة حولك، لكنك غالبًا ما تمر بها، ولا تتم الإشارة إليها، رغم أنها بديعة وتستحق الزيارة. فلماذا يتم التركيز على معالم دون غيرها؟ ومن يسيّر النهج السياحي الثقافي الإسباني؟ وما مشروع «طريق الأمويين» الذي يتم العمل عليه رسميًا من قبل إسبانيا، ليمتد من أوروبا إلى وصولاً إلى لبنان وسوريا؟
غريس مانديس المتخصصة في التاريخ والإدارة السياحية، تعمل دليلاً سياحيًا منذ 25 عامًا، وتجوب إسبانيا مع الزوار من شمالها إلى جنوبها. وهي توافق على أن هذه الزيارات التي يتم تنظيمها لا تُعنى كثيرًا بالآثار الإسلامية باستثناء المعلمين الرئيسين «مسجد قرطبة» و«قصر الحمراء». وتضيف: «ليس عندي أي إجابة عن السبب الذي من أجله يتم التركيز على الأحياء اليهودية بشكل كبير، علما بأن إسبانيا باستثناء هذه الأحياء العادية، ليس فيها معالم يهودية مهمة إلا القليل جدًا مقارنة بالمعالم الإسلامية». ومن هذه المعالم التي تتم زيارتها «الكنيس» اليهودي في طليطلة، تم بناؤه من قبل المسلمين، بناء على طلب اليهود. وقد بنوه لهم وفق الهندسية الإسلامية ليمارسوا فيه شعائرهم، مما يدلل على مدى التسامح الكبير بين الدينين في الأندلس وحرارة العلاقات بين الطرفين.
لا تنكر مانديس أن ثمة آثارًا إسلامية كثيرة في الأندلس لا يُلقى عليها الضوء. وتشرح: «لقد بقي المسلمون من سنة 711 إلى عام 1492، ونحن كإسبان نشعر بالفخر بهذا التاريخ، لأنه كان استعمارًا إيجابيًا. فمن سوريا جاءنا في تلك الفترة أطباء وفنانون وفلاسفة وأدباء، وما تركوه ليس فقط بعض المعالم المعمارية الجميلة، وإنما ثقافة راقية أصبحت جزءًا من ثقافتنا الحياتية، ونحن محظوظون بذلك».
وبالعودة إلى الآثار العربية والإسلامية تعترف غريس بأنها كثيرة وموجودة من شمال إسبانيا إلى جنوبها وليست حكرًا على الأندلس كما يُشاع، وبعض المدن الشهيرة فيها. وتقول: «في المدن الأندلسية الجنوبية، ما زالت هناك آثار كثيرة، وفي القرى والبلدات، تتوزع معالم من ذلك الوقت تستحق المشاهدة والاستمتاع بجماليتها»، وتلفت هذه السيدة التي زارت المنطقة العربية وتذوقت تاريخها لا سيما تدمر وجرش، إلى أن «العرب وصلوا إلى مدريد ومناطق شمالية، فإذا كانت الآثار الإسلامية لم تعد تقريبًا موجودة في مدريد بسبب كثرة الحروب التي مرت بها، فهناك معالم مهمة، في مدينة سرقسطة، وهذا نادرًا ما يتم التحدث عنه أيضًا». وسرقسطة الواقعة على مبعدة 325 كلم شمال شرقي مدريد، فيها قصر الجعفرية، أحد أبرز معالم المدينة، بناه الملك أبو جعفر أحمد المقتدر في القرن الحادي عشر وحوله خندق وله قلاع.
وكعادة العرب في إسبانيا، فقد تخير أجمل المواقع وأكثرها سحرًا ليشيد هذا البناء. لكن ليس هذا القصر هو وحده الموجود تقول غريس، وإنما قصور جميلة أخرى تستحق اكتشافها من قبل الزائر.
لا تخفي غريس أن عاملين قد يكون لهما تأثير على خيارات السياحة الثقافية في إسبانيا، كما يروج لها حاليًا، أحدهما تأثير أميركي لا تبدي حماسة للدخول في تفاصيله، والأمر الثاني هو الشعور بالذنب اتجاه اليهود بسبب محاكم التفتيش ضدهم في القرن السادس عشر، التي كانت تخيرهم بين دخول المسيحية أو الهجرة، وقد هاجر كثير منهم، لكن آلافًا قتلوا. وهذه الحوادث لا تزال تلحّ على أوروبا كلها، فلقد امتدت محاكم التفتيش إلى إيطاليا وفرنسا والبرتغال وبريطانيا أيضًا.
التكفير عن الذنب لا يتسع ليشمل المسلمين الذين قتلوا أيضًا. لكن حين تستمع إلى دليل سياحي آخر يأتيك الجواب بأن «العرب كانوا استعمارًا آتيًا من الخارج، والصراع معهم كان مبررًا، لكن لماذا قتل اليهود، في موجة تعصب كاسحة اجتاحت أوروبا؟».
كان المسلمون حكامًا في إسبانيا عنوا بالثقافة والعلم وسعة المعرفة، فيما تميز اليهود في الأندلس في تلك الفترة بأنهم قبضوا على مفاصل الحياة الاقتصادية، وقد يكون هذا النفوذ المالي الكبير هو ما أثار الضغينة ضدهم، إضافة إلى العامل الديني طبعًا. الاجتهادات التاريخية لتفسير ما حدث بعد خروج المسلمين من الأندلس كثيرة، لكن النتيجة واحدة؛ ثمة إهمال شديد بالتعريف بالإرث الإسلامي مقابل اعتراف مبالغ به فيما تركه اليهود. والأسباب ليست موضوعية بالتأكيد.
هل بدأت تتوازن الخيارات الإسبانية؟ وهل مشروع «المسار الأموي» الذي أطلقته إسبانيا، سيعيد الحياة إلى الآثار الإسلامية في جنوب إسبانيا وشمالها وصولاً إلى المنطقة العربية؟ وهل يمكن لهذا المشروع أن يكون ناجعًا فعلا دون جهد عربي كبير؟ المشروع سياحي بامتياز يربط بين 200 قرية ومدينة في الأندلس ترك فيها الأمويون والمسلمون عمومًا آثارهم، بهدف تحويلها إلى مزارات للسياح يتعقبون فيها هذه الحضارة العربية الإسلامية، وسط المناظر الطبيعية المتوسطية الخلابة. المشروع يمتد بالتعاون مع بلدان كثيرة ليصبح عابرا لثلاث قارات وسبع دول. «مؤسسة التراث الأندلسي» في إسبانيا هي التي تدير المشروع ويفترض أن العمل به قد بدأ العام الماضي. ممثل عن «مؤسسة التراث الأندلسي» كان قد زار لبنان منذ ما يقارب العامين، وقال في مؤتمر صحافي لإطلاق المشروع الذي سيمر في بلاد الأرز أيضًا: «إن هذا المشروع يتضمن تنظيم أنشطة منسقة تحقق تلاحما أكبر بين دول المتوسط التي تحتضن التراث الأموي، لما بينها من مشتركات»، بالتأكيد هناك جانب استثماري سياحي تسعى إليه إسبانيا، لكن قد يكون إيجابيًا للعرب. فالتسويق سيجري عبر موقع متخصص ومن خلال عقد ندوات وموائد مستديرة، ومنتديات وحملات تعريفية، والنتيجة النهائية وبعد عمل سيستغرق 15 شهرا «للتعريف بخريطة طريق أموية تمتد من الشرق إلى الغرب، من آسيا مرورا بأفريقيا وصولا إلى أوروبا».
هذا العمل يحتاج إلى اهتمام عربي ووعي بالتراث الإسلامي الموجود في جزء من أوروبا والعمل على الترويج للتعريف به. فهل ينجح العرب هذه المرة في الامتحان؟ خصوصًا أن الحاجة ماسة والسياحة الثقافية باتت جزءًا من الاستثمارات التجارية التي يحسب لها ألف حساب، فيما يحاول الكل أن يقدم تراثه ويبرزه باعتباره الأهم والأجدر بالبقاء.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!