روعة النمسا تكمن في بحيراتها

من أجمل مدنها هال اشتات وباد ايستشل

روعة النمسا تكمن في بحيراتها
TT

روعة النمسا تكمن في بحيراتها

روعة النمسا تكمن في بحيراتها

ضمن مفردات نشيدهم الوطني، يصف النمساويون بلادهم بكونها أرض الجبال والبحيرات، وتلك حقيقة جغرافية جعلت النمسا تتمتع ببيئة طبيعية تجني خيراتها طيلة العام، وفي مختلف الأحوال الجوية، سواء خلال الصيف الممطر أو الشتاء القارص، ولكم أن تتخيلوا جمال الربيع.
تحف جبال الألب الشرقية بالنمسا وتغطي ما يقدر بـ60 في المائة من أراضيها التي يشقها نهر الدانوب عابرا مساحة 350 كيلومترا من الغرب للشرق، فيما تزين البلاد ما يصل عدده إلى 5000 بحيرة، بعضها طويل وضخم، وبعضها صغير وقصير..
هذه الثروة الجغرافية وتلك التضاريس المتنوعة مكّنت النمسا من الوصول لمكانة سياحية متفوقة عالميا جعلتها قبلة لعشاق الطبيعة، ولا سيما والبلاد تمتاز بتاريخ وحضارة عريقة وبنية سياحية متينة ومتجددة.
وفيما يعتبر السائح الأوروبي، والألماني على وجه الخصوص بالإضافة للأميركي والصيني والروسي، من أهم السياح بالنمسا، إلا أن السائح العربي والخليجي على وجه الخصوص أضحى ضيفا ترحب به النمسا وتنتظره، ليس صيفا فحسب، بل وشتاء عندما تكسوها الثلوج وتلبس ثوب بياض ناصع وحلة بهية.
وبينما تختلف أذواق السياح من حيث الخيارات الثقافية والتاريخ والرغبة في التسوق، إلا أنهم في الغالب يتفقون في ضرورة الترويح عن النفس والاستمتاع بمختلف تضاريس النمسا التي تتوفر ضمن برامج سياحية مريحة تسهل على السائح الاستمتاع بها مهما كانت العطلة قصيرة، خصوصا أن البلد صغير والطرق معبدة والتضاريس متداخلة؛ إذ تحف الجبال في الغالب بالبحيرات مما يزيدها جمالا وجاذبية.
هذا، ورغم توزع البحيرات في معظم أقاليم النمسا التسعة، فإن إقليم سالزبورغ شمال غربي البلاد يعتبر الأكثر ثراء بهذه الهبة الإلهية، فيما يضم إقليم النمسا العليا على سبيل المثال أجمل مدن البحيرات على الإطلاق أي مدينة «هال اشتات» التي تقع على ضفة بحيرة تحمل المدينة اسمها.
من جانبه، يتقاسم إقليم فورارلبيرغ الواقع أقصى غرب النمسا بحيرة كونستانس أو بودن سي مع كل من سويسرا وألمانيا؛ مما يكسب السياحة حول هذه البحيرة ميزة سهولة الانتقال للبلدين المذكورين، هذا بالطبع بالإضافة إلى الاستمتاع بأجمل خصائصها على الجانب النمساوي، حيث تم تشييد «المسرح العائم» بمدينة بريغنز عاصمة الإقليم، وهو مسرح تقف خشبته على سطح مياه البحيرة؛ مما يجعله صرحا فنيا ومعماريا نادرا يستحق المشاهدة، خصوصا أن مدينة بريغنز ومنذ عام 1946 تقيم كل صيف مهرجانا موسيقيا ومسرحيا، لا تقتصر فعالياته على المسرح العالمي الذي يقدم أوبرا عالمية (أحيانا برؤية متجددة تختلف عن الأصل)، بل تنتشر الفعاليات في كل أنحاء المدينة وطرقاتها التي تتحول بدورها لمسارح مفتوحة.
إلى ذلك، تعتبر بحيرة سيل إم سي بإقليم سالزبورغ أكثر البحيرات شعبية بين السياح الخليجيين لدرجة انتشار اللغة العربية في جنباتها وبغذارة.
وحسب مصادر بمكتب إعلام المدينة، التي بدورها تحمل اسم بحيرتها، فإن أسرا كويتية وأخرى إماراتية ظلت تزور المنطقة سنويا وتبقى فيها لأكثر من ستة أسابيع متصلة؛ مما يعتبر رقما قياسيا.
تمتاز سيل إم سي بكبر حجمها؛ إذ تغطي مساحة 55.12 كيلومتر مربع، بجانب أنها موصولة بمطار على بعد 2 كيلومترا جنوب البحيرة؛ مما يسهل الانتقال جوا من الخليج مباشرة.
وذلك رغم أن النمسا عموما تربطها شبكة مواصلات برية وبحرية بالغة الجودة والسرعة وقلة النفقات بالمقارنة مع دول جوارها ودول سياحية أخرى، كما تتوفر خدمات استئجار سيارات خاصة، وتلك وسيلة مهمة لمن يفضل الانتقال من بحيرة لأخرى، ومدينة لأخرى، حسب هواه ومتى يشاء.
ومن الطبيعي أن تتعدد وتختلف مسببات أهمية البحيرات مما يؤدي لتفضيل هذه عن تلك رغم أن جميعها ينعم بمياه عذبة وصافية ورقراقة، كما تحفهم مناظر طبيعية وإطلالات بانورامية مذهلة، يزيدها جمالا منظر الجبال الشاهقة والمروج الخضراء والشلالات، وحتى الكهوف الجليدية وشكل وتخطيط المدن التي تحيط بكل بحيرة.
ويوفر قرب المدن حول البحيرات خدمات حديثة ومعاصرة يتفنون في تقديمها حتى داخل أقدم القلاع التي تعود لحقب ما قبل التاريخ، ناهيك عن الفنادق الجيدة المنتشرة بمختلف الأسعار، سواء باهظة جدا أو رخيصة جدا. فقط، يجب الانتباه إلى ضرورة الحجز مبكرا بسبب شدة الإقبال على مختلف المستويات، ويتم الحجز إلكترونيا، ويمكن حتى في أرخص الفنادق تحديد كل الخيارات والرغبات، كحجم السرير وواجهة الغرفة.
من جانب آخر، تكتسب البحيرات شهرتها من عمقها الذي يؤثر في طبيعة مياهها من حيث الدفء صيفا والتجمد شتاء؛ مما يتيح بدوره ثراء من حيث تنوع الرياضات كالتزحلق على الجليد شتاء والسباحة صيفا والغوص أثناء المطر، ومن أكثر البحيرات دفا بحيرة «شفارز سي» بإقليم تيرول والتي لا يزيد عمقها على 7 أمتار فقط، وتعتبر بحيرة «فورت سي» بإقليم كرنثيا جنوب النمسا من أكبر البحيرات الدافئة ولا يزيد عمقها على 42 مترا، وتقع على ارتفاع 439.
أما أجمل مدن البحيرات على الإطلاق، فهي مدينة هال اشتات التي قامت شركة تعدين صينية عام 2011 بتوأمتها مع مدينة Huizhou؛ مما آثار غضب بعض النمساويين.
أمست هال اشتات منذ عام 1997 محمية من قبل منظمة الأمم المتحدة للثقافة (اليونيسكو)؛ وذلك لكونها أثرا تاريخيا يعود إلى 7000 ألف سنة، أوائل العصر الحديدي 800 - 450 ما قبل الميلاد.
وبجانب اللوحة الجمالية والمعمار والتاريخ، تزخر المدينة بعدد من المزارات السياحية، في مقدمتها الكهوف الثلجية المعروفة بكهوف «داخ شتاين» التي لا تزيد درجة حرارتها في أكثر فصل صيف عن درجتين، ولا يزال أحدها يضم رفاة «رجل ما قبل التاريخ» محفوظا في الملح.
ولموقع هال اشتات في تلك الحقب من القديمة ولما اكتشف فيها من ملح أهمية كبرى في ثراء المنطقة؛ إذ ضمت أول منجم ملح اكتشف واستخدم داخل جبل من سلاسل جبال الألب الأوروبية. ولنقل الملح شيدت بالمدينة محطة نقل بالقطارات افتتحها القيصر في عام 1877.
وبسبب الملح الذي كان بمثابة «ذهب أبيض» باتت هال اشتات في ذلك الزمان مدينة ثرية لها حضارتها وثقافتها المعروفة بـ «ثقافة هال اشتات»، وبالمدينة متحف يعرض معدات ومخلفات تثبت ذلك.
ولا تتميز المدينة بإبداع معماري مذهل نجح في بناء البيوت الخشبية الصغيرة مطلة وكأنها معلقة ومرصوصة داخل الجبل مقابلة لصفحة البحيرة فحسب، بل تعتبر حتى مقابرها تحفة فنية وموقعا سياحيا لا بد من زيارته.
إذ وبسبب صغر حجم مساحة المدينة التي لا تزيد على 14.54 كيلومتر مربع كانت لها مقبرة تضم جماجم ظلوا يخرجونها من قبورها كل عشر سنوات يرصونها في غرفة يطلقون عليها «غرفة العظام»؛ وذلك حتى تخلو المقبرة لجثامين جديدة.
ولتمييز الجماجم ولمن تعود تحمل كل جمجمة تاريخا يرمز لصاحبها وما اختار أن يرسم على جمجمته، هذا فيما تحيط اليوم بالكنيسة مجموعة مقابر صغيرة تزين كل واحد منها مجموعة نباتات وزهور يانعة بالغة الجمال، فيما يفضل الكثير من سكان المدينة والذين لا يتعدى عددهم الألف نسمة، كما علمت «الشرق الأوسط» أن تحرق أجسادهم، ويحفظ رمادها بقنينة صغيرة أو ينثر فوق مياه البحيرة.
تزخر المدينة بفنادق تطل إطلالة مباشرة على البحيرة؛ ولهذا يعمد كثير من السياح للإقامة في مدينة من المدن القريبة من هال اشتات، ومن ثم زيارتها والتنقل حولها.
ومن أشهر المدن قرب هال اشتات Hallstatt مدينة، باد ايستشل Bad Ischl، التي كانت من المقرات الصيفية للإمبراطور فرانس جوزيف والإمبراطورة إليزابيث أو سيسي التي يعشقها النمساويون لجمالها، وعطفا على الحياة الشاقة التي عاشتها بسبب خالتها شقيقة أمها، وهي في الوقت ذاته أم زوجها التي كانت تتدخل في كل تفاصيل حياتها.
إلى ذلك، تشتهر باد ايستشل بحمامات طبية طبيعية، كما تشتهر كمعظم مدن منطقة «سالزكاميرقوت» (تربط إقليم تيرول وسالزبورغ والنمسا العليا) بالبحيرات والجمال وفرص وإمكانات ممارسة مختلف أنواع الرياضة والاستمتاع بالمناظر الخلابة.
هذا، ولا تبعد هال اشتات سوى نحو 80 كيلومترا عن مدينة سالزبورغ، ونحو 110 كيلومترات عن سيل أم سي.
ورغم أن السيارة هي الخيار الأمثل من حيث السرعة وسهولة وخصوصية التنقل، فإن القطارات متوافرة وكذلك بقية وسائل المواصلات.



سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)
TT

سوق البحرين العتيقة... روح البلد وعنوان المقاهي القديمة والجلسات التراثية

سوق المنامة القديم (إنستغرام)
سوق المنامة القديم (إنستغرام)

«إن أعدنا لك المقاهي القديمة، فمن يُعِد لك الرفاق؟» بهذه العبارة التي تحمل في طياتها حنيناً عميقاً لماضٍ تليد، استهل محمود النامليتي، مالك أحد أقدم المقاهي الشعبية في قلب سوق المنامة، حديثه عن شغف البحرينيين بتراثهم العريق وارتباطهم العاطفي بجذورهم.

فور دخولك بوابة البحرين، والتجول في أزقة السوق العتيقة، حيث تمتزج رائحة القهوة بنكهة الذكريات، تبدو حكايات الأجداد حاضرة في كل زاوية، ويتأكد لك أن الموروث الثقافي ليس مجرد معلم من بين المعالم القديمة، بل روح متجددة تتوارثها الأجيال على مدى عقود.

«مقهى النامليتي» يُعدُّ أيقونة تاريخية ومعلماً شعبياً يُجسّد أصالة البحرين، حيث يقع في قلب سوق المنامة القديمة، نابضاً بروح الماضي وعراقة المكان، مالكه، محمود النامليتي، يحرص على الوجود يومياً، مرحباً بالزبائن بابتسامة دافئة وأسلوب يفيض بكرم الضيافة البحرينية التي تُدهش الزوار بحفاوتها وتميّزها.

مجموعة من الزوار قدموا من دولة الكويت حرصوا على زيارة مقهى النامليتي في سوق المنامة القديمة (الشرق الأوسط)

يؤكد النامليتي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سوق المنامة القديمة، الذي يمتد عمره لأكثر من 150 عاماً، يُعد شاهداً حيّاً على تاريخ البحرين وإرثها العريق، حيث تحتضن أزقته العديد من المقاهي الشعبية التي تروي حكايات الأجيال وتُبقي على جذور الهوية البحرينية متأصلة، ويُدلل على أهمية هذا الإرث بالمقولة الشعبية «اللي ما له أول ما له تالي».

عندما سألناه عن المقهى وبداياته، ارتسمت على وجهه ابتسامة وأجاب قائلاً: «مقهى النامليتي تأسس قبل نحو 85 عاماً، وخلال تلك المسيرة أُغلق وأُعيد فتحه 3 مرات تقريباً».

محمود النامليتي مالك المقهى يوجد باستمرار للترحيب بالزبائن بكل بشاشة (الشرق الأوسط)

وأضاف: «في الستينات، كان المقهى مركزاً ثقافياً واجتماعياً، تُوزع فيه المناهج الدراسية القادمة من العراق، والكويت، ومصر، وكان يشكل ملتقى للسكان من مختلف مناطق البلاد، كما أتذكر كيف كان الزبائن يشترون جريدة واحدة فقط، ويتناوبون على قراءتها واحداً تلو الآخر، لم تكن هناك إمكانية لأن يشتري كل شخص جريدة خاصة به، فكانوا يتشاركونها».

وتضم سوق المنامة القديمة، التي تعد واحدة من أقدم الأسواق في الخليج عدة مقاه ومطاعم وأسواق مخصصة قديمة مثل: مثل سوق الطووايش، والبهارات، والحلويات، والأغنام، والطيور، واللحوم، والذهب، والفضة، والساعات وغيرها.

وبينما كان صوت كوكب الشرق أم كلثوم يصدح في أرجاء المكان، استرسل النامليتي بقوله: «الناس تأتي إلى هنا لترتاح، واحتساء استكانة شاي، أو لتجربة أكلات شعبية مثل البليلة والخبيصة وغيرها، الزوار الذين يأتون إلى البحرين غالباً لا يبحثون عن الأماكن الحديثة، فهي موجودة في كل مكان، بل يتوقون لاكتشاف الأماكن الشعبية، تلك التي تحمل روح البلد، مثل المقاهي القديمة، والمطاعم البسيطة، والجلسات التراثية، والمحلات التقليدية».

جانب من السوق القديم (الشرق الاوسط)

في الماضي، كانت المقاهي الشعبية - كما يروي محمود النامليتي - تشكل متنفساً رئيسياً لأهل الخليج والبحرين على وجه الخصوص، في زمن خالٍ من السينما والتلفزيون والإنترنت والهواتف المحمولة. وأضاف: «كانت تلك المقاهي مركزاً للقاء الشعراء والمثقفين والأدباء، حيث يملأون المكان بحواراتهم ونقاشاتهم حول مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية».

عندما سألناه عن سر تمسكه بالمقهى العتيق، رغم اتجاه الكثيرين للتخلي عن مقاهي آبائهم لصالح محلات حديثة تواكب متطلبات العصر، أجاب بثقة: «تمسكنا بالمقهى هو حفاظ على ماضينا وماضي آبائنا وأجدادنا، ولإبراز هذه الجوانب للآخرين، الناس اليوم يشتاقون للمقاهي والمجالس القديمة، للسيارات الكلاسيكية، المباني التراثية، الأنتيك، وحتى الأشرطة القديمة، هذه الأشياء ليست مجرد ذكريات، بل هي هوية نحرص على إبقائها حية للأجيال المقبلة».

يحرص العديد من الزوار والدبلوماسيين على زيارة الأماكن التراثية والشعبية في البحرين (الشرق الأوسط)

اليوم، يشهد الإقبال على المقاهي الشعبية ازدياداً لافتاً من الشباب من الجنسين، كما يوضح محمود النامليتي، مشيراً إلى أن بعضهم يتخذ من هذه الأماكن العريقة موضوعاً لأبحاثهم الجامعية، مما يعكس اهتمامهم بالتراث وتوثيقه أكاديمياً.

وأضاف: «كما يحرص العديد من السفراء المعتمدين لدى المنامة على زيارة المقهى باستمرار، للتعرف عن قرب على تراث البحرين العريق وأسواقها الشعبية».