ما زالت كلمة «أبو محمد الجولاني» في 28 يوليو (تموز) 2016 تثير نقاشا واسعا بين الباحثين والمتخصصين في الموجة الجديدة الثالثة من الإرهاب التي أفرزتها انتكاسات التحولات الديمقراطية خاصة بعد الحراك المجتمعي - أو «الربيع العربي» - في المنطقة العربية عام 2011م. ذلك أن خطاب الجولاني ما كان كلامًا في الدين والسياسة وحسب، بل هو تعبير جديد على ظهور فاعل متميز، يتشابك، ويتعارض، ويتحارب، مع قوى وطنية قُطرية، وأخرى إقليمية حاول الاستئثار بالنفوذ ولعب دور الزعامة محليا وإقليميا. كذلك يخوض هذا الفاعل معركة متعددة الأطراف يظهر فيها تنظيم «الجولاني» وما شاكله من التنظيمات السورية، في تناقض مع قوى دولية كبرى؛ تحاول بكل قوة، الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية بالشرق الأوسط، وصولا للبحر الأبيض المتوسط.
يرى مراقبون أن إعلان «أبو محمد الجولاني»، الزعيم البارز في «جبهة النصرة» تأسيس «جبهة فتح الشام» وفك التنظيم الوليد الارتباط بـ«القاعدة»، يجد تفسيره في الوعي المتنامي لدى الجيل الجديد من الراديكاليين بالطبيعة المعقدة للصراعات الوطنية ذات البعد الدولي. إذ عملت «جبهة النصرة» منذ بداية تشكلها، على التقاطع الكبير مع «القاعدة» فكريا بالبيعة، وممارساتيا بالقتال؛ غير أنها خلقت لنفسها بعدًا وطنيًا سوريًا مستقلاً، ومنتجًا لخطاب وممارسة مرنة، تفتقر إليهما «قاعدة» أيمن الظواهري، و«الخلافة» المزعومة لـ«أبو بكر البغدادي».
صحيح أن البعض فسر هذه الخصوصية لـ«جبهة النصرة» بكونها مجرد «التعمية على دورها في الحرب السورية». وأبعد من هذا ذهب كل من ديفيد روس، الباحث في «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» (FDD) وتوماس جاسلن، المحرر الأول في مجلة «الحرب الطويلة» إلى التأكيد على أن المستجدات التنظيمية لـ«جبهة النصرة» على الأراضي السورية، هي استراتيجية جديدة، توجت مسيرة من سياسة زرع «القاعدة» لقياداتها داخل الحركات، والتنظيمات السورية المحاربة للنظام الوحشي للأسد.
* الخصوصية السورية
غير أن هذا الرأي، لا يعطي الأهمية المستحقة لطبيعة تصورات «النصرة» الخاصة بالتكفير وممارسة الحرب، وطبيعة علاقاتها داخل وخارج سوريا. فمعلوم أن الرؤية الفقهية لـ«جبهة النصرة» لم تقتصر مع مرور الزمن على تنظيرات وكتابات «أبو مصعب السوري»، التي جمعها في كتبه، «دعوة المقاومة الإسلامية العالمية» و«ملاحظات التجربة الجهادية في سوريا»، وكتابه الثالث «أهل السنة في الشام في مواجهة النصيرية والصليببية واليهود».
كذلك فإن هذا الطرح لا يولي الأهمية البالغة للنسق الفكري والتنظيمي السوري، الذي شكل «جبهة النصرة»، فهذا التنظيم الذي شهد تطورات مثيرة خلال سنوات قليلة، ينتظر أن يشهد تحولات أكثر إثارة وجلبا لانتباه الباحثين في الحركات الراديكالية والإرهابية. ذلك أن «أبو محمد الجولاني» وتنظيمه يجسدان نموذجا من الزعامات والتنظيمات غير التقليدية في المسار التاريخي للحركات المشار إليها. ومعلوم أن «جبهة النصرة» لم تكن وحدة منسجمة من حيث القيادة الفقهية، ولا من حيث القيادة العسكرية؛ بل كانت سرايا وألوية مستقلة عن الحركات الإرهابية بالشرق الأوسط، وهو ما منحها خصوصية محلية، وصلت إلى درجة القتال مع «داعش».
في خطاب «الجولاني» الأخير، يتضح أن الانفصال عن «القاعدة» واتخاذ اسم جديد «جبهة فتح الشام»، جاء ليتوافق مع طبيعة المعركة الدائرة في سوريا، وطبيعة تحالفات القوى الوطنية المعارضة لنظام الأسد، من جهة؛ ومن جهة ثانية جاء هذا التطور كمحصلة ونتيجة من نتائج الصراع الدولي حول تعريف الإرهاب، وتحديد التنظيمات الإرهابية.
* في مواجهة «داعش»
لكن الانفصال في الواقع قد يشكل بداية مرحلة جديدة من بناء التنظيمات المحلية، المستقلة فكريًا وفقهيًا، وعسكريًا عن «القاعدة» الأم؛ وفي الوقت ذاته، المحاربة عمليًا لتنظيم داعش، وهو ما يعني أن فكرة الزعامة العالمية الموحدة للراديكالية المسلحة الرافعة ألوية الإسلام، وكذلك عقيدة «عالمية الخلافة، ووحدة المجاهدين»، هما محط تساؤل من الراديكاليين أنفسهم. بل يمكن القول إنهما فكرتان من الماضي ولا تتوافقان مع «الجيل الثالث» من الحركات الراديكالية، التي أصبحت تضع اعتبارات «شرعية» تحدد ممارسة ما تزعم أنه «الجهاد» وتضعه في سياق وحدود التفاعلات المحلية والإقليمية والدولية. وهذا ما يعني كذلك أن الوعي بهذا السياق أصبح «موجهًا للاجتهادات الفقهية»، الخاصة بالقتال والولاء والبراء الذي تؤمن به هذه التنظيمات.
أكثر من ذلك أظهر «الجولاني» في خطاب الانفصال توجهًا إصلاحيًا غير معهود من «القاعدة» وفروعها. فهو تبنى في حديثه عن الأهداف خطابًا لا يتوافق وآيديولوجية «القاعدة» وتصوّرها لنظام العلاقات الإقليمية والدولية القائمة على البيعة، والحرب مع الشيعة والدروز والصليبيين. فـ«الجولاني» تحدث عن إقامة وتحكيم دين الله وتحقيق العدل بين الناس، كما تحدث، عن خدمة المسلمين والتخفيف من معاناتهم. ويبدو أن تصور «الدولة الجامعة» القائمة على أساس المواطنة ليس في برنامج التنظيم الجديد، وتحتاج هذه القضية من «الجولاني» وفريقه الفقهي مزيدًا من المراجعات الفكرية، رغم ما أشار إليه من تحقيق للعدل «بين الناس.. جميع الناس».
ولكن، رغم هذا النقص التصوّري البيّن، فإن إيمان «جبهة فتح الشام» بالتوحّد مع فصائل المعارضة، دون شروط من قبيل بيعة زعيمها واعتماد مبدأ «الولاء والبراء» بالمفهوم التقليدي الذي يستعمل التكفير ضد المخالف يُعد تحولاً نوعيًا على المستوى الفكري. وإذا ما استطاع تنظيم «الجولاني» الجديد الدخول في مسار جديد من التوحّد مع الفصائل السورية الأخرى، فإن ذلك يعني بالضرورة، إحداث مزيد من القطيعة مع فكر «القاعدة»، والدخول في مزيد من المواجهات الإعلامية والعسكرية مع تنظيم داعش. ذلك أن خطاب الانفصال تبنى مبدأ «حماية الجهاد الشامي» وضرورة اتخاذ واعتماد كل الوسائل الشرعية الضامنة لهذه الحماية. وهو ما يعني من الناحية العملية والواقعية، أن التراث الفقهي الذي تبنته «القاعدة» ورسخته، لم يعد بإمكان «جبهة فتح الشام» المحافظة عليه والانطلاق منه، لبناء الوحدة والحفاظ على الثورة السورية ومصالح الناس في سوريا.
* مرونة.. أم انتهازية؟
وحينما يتكلم «الجولاني» عن «اعتماد كل الوسائل الشرعية المعينة على ذلك»، فهذا يعني أن إمكانية حدوث مزيد من المراجعات وارد في ذهن زعامة التنظيم - خاصة، أن هناك تنظيمات سورية قوية ليس لها سابق انتماء لفكر «القاعدة» وليس لها ولاء ولا امتداد خارجي، بل إن لها رؤية فقهية أكثر اعتدالا من «جبهة فتح الشام - وأن التقارب والتنسيق أو الاندماج سيؤثران حتما على «الفريق الفقهي» و«مجلس الشورى» في تنظيم «أبو محمد الجولاني».
في هذا الإطار يمكن القول إن التنسيق القائم مع جماعة «أحرار الشام» ذات النفوذ القوي، لم يكن ليحصل لولا بعض المرونة التي يتميز بها رجال الفقه في تنظيم «جبهة النصرة» سابقًا.. «جبهة فتح الشام» حاليًا.
مع هذا، علينا أن ننتبه ونحن نناقش هذا الانفصال المعلن من الطرفين «القاعدة» و«جبهة النصرة» أنه على طول أكثر من عقدين من الزمن - وتحديدا منذ «هجمات 11 سبتمبر (أيلول)» 2011 - كان المسار المعولم للإرهاب يعتمد على انضمام الأطراف للمركز وإعلان بيعة «الأمير». وأي خروج عنه يعتبر كفرًا وردة تستوجب قتال مرتكب هذه الكبيرة.
ولقد توسعت «القاعدة» وبعدها ظهر «داعش» وفقًا لهذا المبدأ الذي يحمل ثقافة يزعم القائمون عليها أنها دينية. ويبدو أن هذا المسار التاريخي قد ينكسر على صخرة الصراع السوري الذي يعود له الفضل في تسجيل بداية لخلخلة كثير من المنطلقات العقدية للحركات الإرهابية، خاصة بين «القاعدة» و«داعش»، وهو ينتقل لمرحلة جديدة بين «القاعدة» وفروعها.
في الأرض السورية شهدنا منذ سنة 2013 رفض «الجولاني» دعوة «أبو بكر البغدادي» لحل «جبهة النصرة» والانضمام لـ«داعش». واليوم يقود «الجولاني» وفريقه العسكري والفقهي مسارًا لا يخلو من التشدد الديني والتطرف، لكنه يخرج من دائرة الانضمام وتوسع «الجهاد» المزعوم والإرهاب المعولم، ليبدأ بقوة مسارًا جديدًا هو مسار الانفصال والاستقلال ومراعاة الظروف الدولية والإقليمية، والعرقية والمذهبية، وجعل هذه المتغيرات حاكمة لسلوك التنظيمات الراديكالية والإرهابية الجديدة.
صحيح أن التنظيم الجديد حليف موضوعي للثورة السورية، وللقوى الدولية ضد تنظيم داعش الوحشي؛ لكنه من السابق لأوانه الجزم بأن «جبهة فتح الشام» منفصلة انفصالاً آيديولوجيًا وفكريًا عن «قاعدة» أيمن الظواهري. ذلك أن «القاعدة» أمام كثير من المتغيرات قد تتجه لتبني استراتيجية جديدة تقوم على اعتماد التنظيم الشبكية والمرونة التنظيمية والابتعاد عن نظام الأطراف والمركز؛ ومن ثم العودة بقوة وبأقل التكاليف، في زمن يشهد فيه تنظيم «البغدادي» تراجعًا ملحوظًا على المستوى المادي والجغرافي والبشري، وعلى مستوى التعاطف مع فكرة التوحش في القتال، والمس بالمدنيين والأماكن المقدسة.
بكل تأكيد يبقى للزمن القريب دور مهم في إظهار جدية التحولات التي تخضع لها بعض التنظيمات الإرهابية. وستكون الأشهر القليلة المقبلة اختبارا لـ«الجولاني» وتنظيمه لإظهار جديته في الابتعاد الحقيقي عن عقلية وفقه تنظيم يهدد الأمن المحلي والإقليمي والدولي. كذلك ستظهر الأشهر المقبلة صدقيه نيات «جبهة فتح الشام» فيما يخص المساهمة الفعالة في الحفاظ والانضباط للشعارات التي رفعت في الثورة السورية، والمتعلقة بالديمقراطية والمواطنة، والوحدة الوطنية والجغرافية. فهل يكون مسار الانفصال بداية لتاريخ جديد من الاجتهاد الفقهي المعتدل بقيادة «الجولاني»؟ أم سيثبت أنه مجرد تكتيك يحافظ على التطرف والممارسة الإرهابية التي تتبناها «القاعدة» في زمن انكماش «داعش»؟
*أستاذ العلوم السياسية - جامعة محمد الخامس في الرباط