يشارك وزير خارجية فرنسا اليوم في اجتماع «النواة الصلبة» لأصدقاء الشعب السوري الذي تستضيفه العاصمة البريطانية فيما المحادثات الحالية بين واشنطن وباريس ما زالت تصطدم بعوائق أساسية حالت دون التوصل إلى تفاهم رغم قمة الرئيسين أوباما وبوتين وخصوصا الساعات الطويلة من المناقشات التي أمضاها الوزيران جون كيري وسيرغي لافروف في الأسبوعين الماضيين.
وقالت مصادر فرنسية رسمية معنية عن كثب بالملف السوري، إنها «لم تفاجأ» بعجز الجانبين الأميركي والروسي عن التوصل إلى اتفاق لأسباب خاصة بكل طرف من جهة وللدرجة العالية من التعقيد التي تتميز بها المسائل العالقة. وبحسب باريس، فإن الطرف الأميركي الساعي لإبرام اتفاق مع روسيا لتعجيل دحر تنظيم داعش في سوريا والعراق على حد سواء، يعي «ضعف» موقعه إزاء الجانب الروسي. لكنه في الوقت عينه، كما قالت مصادر فرنسية لـ«الشرق الأوسط»، يرفض أمرين: الأول، إبرام اتفاق ناقص فاقد للضمانات ويكون صعب التطبيق، وبالتالي سيحسب على إدارة أوباما وسيلتصق بالرئيس شخصيا وسيعد بمثابة «انتكاسة» سياسية ودبلوماسية له. ولكل هذه الاعتبارات، فإن الوزير كيري يبدو هذه المرة أكثر حرصا على التفاصيل وعلى انتزاع اتفاق متوازن من الروس قابل للحياة. وقد سبق لـ«الشرق الأوسط» أن نشرت موضوعا نقلت فيه عن كيري قوله إنه إن لم يتمكن من الحصول على اتفاق كهذا فإن بلاده «ستنفض يدها» من الملف السوري وستترك الروس يتدبرون الأمور بأنفسهم. وجاء الرد الروسي على كيري من جانب لافروف شخصيا الذي نقلت عنه الوسائل الإعلامية الروسية قوله إنه «لا حاجة للمزايدة».
أما السبب الثاني للتردد الأميركي فيعود، بحسب باريس، إلى أن إدارة أوباما غير راغبة في تمكين الرئيس بوتين من تحقيق «نصر» سياسي - دبلوماسي - عسكري في سوريا، الأمر الذي سيستخدمه على المسرح الدولي كدليل على عودة النفوذ الروسي عبر العالم وعلى «شرعيته» كرئيس لدولة كبرى ذات تأثير كبير على أزمات العالم. وجاءت دعوة بوتين لرئيس السلطة الفلسطينية ولرئيس الوزراء الإسرائيلي للاجتماع في موسكو «وقبولهما ذلك» لتبين مدى رغبة موسكو في «استثمار» عودتها بقوة إلى الساحة الدولية.
بيد أن للقضية وجها آخر، إذ بينما كان الطرفان الروسي والأميركي يتفاوضان على هامش قمة العشرين في هانغتشو «الصين» للتوصل إلى تفاهم يعيد تفعيل اتفاق وقف العمليات العدائية المبرم في فبراير (شباط) الماضي ويفتح الباب مجددا لمعاودة المسار السياسي، كان الطيران الروسي يكثف من هجماته على مواقع المعارضة في حلب لتمكين النظام من إعادة تطويق مناطقها الشرقية ووضع الجميع أمام أمر واقع جديد. وترى باريس في ذلك دليلا على أن موسكو والنظام «وإيران بالطبع» لم يتخلوا عن الخيار العسكري وبالتالي فإن زمن المحادثات ليس سوى «وقت مستقطع» بين جولتين من الحرب.
أما من الجانب الروسي، فإن باريس تعتبر أن الكلام المكرر والمغرق في التفاؤل الذي صدر مرارا في الأيام الأخيرة عن الرئيس بوتين، هدفه «جر واشنطن» إلى اتفاق يسعى إليه كيري وأوباما اللذان يريدان تجميع كافة الأوراق التي تساعد على إلحاق الهزيمة بـ«داعش» ومنها الورقة الروسية. وكانت مصادر دبلوماسية فرنسية قالت لـ«الشرق الأوسط»، على هامش مؤتمر السفراء الفرنسيين الأسبوع الماضي، إن مدرستين تتصارعان في موسكو: الأولى، تدفع إلى استغلال «ضعف» الإدارة الأميركية الحالية من أجل انتزاع أفضل اتفاق يحافظ على المصالح الروسية قبل رحيل أوباما عن البيت الأبيض وقبل وصول رئيس أميركي جديد يكون أقل استعدادا للتنازل من أوباما. والثانية ترى أنه يتعين الاحتفاظ بالورقة الروسية للمساومة عليها وطرحها للمقايضة و«بيعها» للإدارة الجديدة مقابل تنازلات في ملف العقوبات أو على مستوى تدابير الحلف الأطلسي العسكرية في الجوار الروسي أو حتى في أوكرانيا. وبحسب هذه المصادر، من الصعب عمليا الفصل بين هذه الملفات والملف السوري خصوصا أن «النظرة الروسية» تصدر عن استراتيجية شاملة بينما يميل الغربيون إلى «تجزئة» مواضيع الخلاف مع موسكو.
وفيما خص النقطة الأولى، لم ينجح الوزير لافروف حتى الآن في دفع نظيره الأميركي ومعه البيت الأبيض إلى تبن كامل للرؤية الروسية فيما خص مستقبل النظام السوري وعلى رأسه الأسد. وتعتبر باريس أن «المرونة» التي أبدتها واشنطن لجهة القبول ببقاء الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية أو في جانب منها، لا تحوز كامل الرضا من الطرف الروسي الذي يريد إخراج موضوع الأسد من المعادلة وفرض بقائه طيلة المرحلة الانتقالية واعتبار أن له الحق في الترشح لولاية جديدة. وترى باريس أن أمرا كهذا «سيعني أن الحرب سوف تستمر إلى ما لا نهاية، لأن المعارضة لا يمكن أن تقبل بمخرج كهذا». والدليل على ذلك الوثيقة التنفيذية للمرحلة الانتقالية كما أعدتها اللجنة العليا للتفاوض، وفيها رفض لبقاء الأسد في السلطة مع بدء المرحلة الانتقالية. وبين موقف موسكو ومطالب المعارضة، تتراوح مواقف أطراف «المجموعة الصلبة» وآخرها موقف تركيا التي أخذت تقبل بدور للأسد في المرحلة الانتقالية، حيث لكل رأيه في طبيعة الصلاحيات التي ستبقى بين يديه، خصوصا تحكمه بالأجهزة الأمنية والقوات المسلحة.
بالنظر لهذا الاختلاف «البنيوي»، بين الطرفين، تبدو المواضيع التي لم يتم التوصل إلى تفاهم بشأنها بين كيري ولافروف «تفصيلية». وتلاحظ المصادر الفرنسية أن الرسالة التي أرسلها مايكل راتني، السفير الأميركي المولج الملف السوري إلى فصائل المعارضة المسلحة بتاريخ 3 سبتمبر (أيلول)، بالغة الأهمية من حيث دلالتها إذ إنها لا تتناول سوى المواضيع «الفنية» الخاصة بتفاصيل وقف العمليات العسكرية ولا تشير إلى العملية السياسية ومضمونها إلا بفقرة واحدة. وترى باريس أن المعارضة المسلحة «لن توقف العمل العسكري ما لم يتبين أفق سياسي» للخروج من الحرب السورية.
إزاء هذه العقد، سيكون الاجتماع اللاحق المرتقب بين الوزيرين كيري ولافروف «في اليومين القادمين» بالغ الأهمية، لأنه سيبين حقيقة ما إذا كان الطرفان قد توصلا إلى «تفاهم مقبول» رغم تباعد الأهداف من أجل السعي لإعادة العمل بالهدنة السابقة، وخصوصا إذا كان الاتفاق الموعود سيطبق ميدانيا أم أن مصيره سيكون شبيها بمصير الهدن السابقة. أما الاستحقاق الآخر بالنسبة للملف السوري فسيحل في 21 الحالي بمناسبة انعقاد جلسة خاصة لمجلس الأمن. وإذا لم تسفر هاتان المحاولتان عن شيء ملموس، فإن باريس تستبعد مع اقتراب الاستحقاق الرئاسي الأميركي أن يطرأ جديد على الملف السوري «قبل وقت طويل» مهما تكن هوية الرئيس القادم الذي سيدخل البيت الأبيض بداية عام 2017.
وأمس، قالت الخارجية الفرنسية إن اجتماع لندن سيوفر الفرصة لمتابعة الحوار بين مجموعة «النواة الصلبة» والهيئة العليا للمفاوضات «المنخرطة كليا لصالح عملية الانتقال السياسي» مضيفة أن الوزير أيرولت سيعيد تأكيد دعم فرنسا لحل سياسي «يفترض» أن تتوافر الشروط المؤاتية له، وأولها وقف الأعمال العدائية وإيصال المساعدات الإنسانية ومعاودة المفاوضات. كذلك جددت باريس دعمها للمعارضة «المعتدلة» التي تتحلى بحس المسؤولية في التزامها بهذا الحل ما يعني دعم باريس للورقة التي أعدتها هيئة التفاوض.
بيد أن مصادر دبلوماسية أخرى قالت لـ«الشرق الأوسط»، إن تشدد المواقف الفرنسية في الملف السوري يمنع باريس من «المناورة» أو «المرونة»، وبالتالي لا يسهل لها إمكانية القيام بدور أكثر نشاطا.
واشنطن ترفض اتفاقًا فاقدًا للضمانات وموسكو تريد تبنيًا كاملاً لرؤيتها للحل في سوريا
مصادر فرنسية لـ«الشرق الأوسط»: واشنطن لا تريد «انتصارًا» دبلوماسيًا لبوتين يستثمره دوليًا
واشنطن ترفض اتفاقًا فاقدًا للضمانات وموسكو تريد تبنيًا كاملاً لرؤيتها للحل في سوريا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة