تطور مشروع التكامل الأوروبي، كما تابعنا خلال الأسابيع الماضية، من مجرد فكرة لتنسيق السياسات في إطار جماعة الفحم والصلب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى سوق مشتركة بمقتضى «اتفاقية روما» عام 1957، وهو ما فتح المجال أمام توسيع التكامل تدريجيًا دون الانتظار لنقل النجاح من قطاع إلى آخر. إذ رأت الدول الست أن الفرصة مواتية لخلق السوق المشتركة، لضمان الحرية الكاملة للتنقل بين الأفراد ورأس المال، وهو ما بدأ يأتي تدريجيًا.
بعدها رأت بعض الدول الأوروبية غير المنضمة الفرص التي يوفرها مشروع التكامل الأوروبي الجديد، فسعت للانضمام وعلى رأسها بريطانيا، بينما شهدت السوق الأوروبية المشتركة نجاحًا نسبيًا لمؤسساتها ممثلة في المجلس واللجنة والبرلمان والمحكمة الأوروبية. وهذا ما فتح المجال أمام توسيع رقعة التكامل بين الدول ودفع بطموحات الأعضاء إلى خطوات تكاملية إضافية، ليس فقط للإدارة المشتركة لاقتصاداتها، مما دفع السوق الأوروبية لوضع أطر أكبر في هذا الاتجاه.
لعل أهم هذه الخطوات كان التجهيز لاتفاقية إطارية جديدة توسع السلطات المركزية للسوق وتفتح المجال أمام مزيد من التكامل. ولقد قادت ألمانيا وفرنسا هذه الخطوة منذ عام 1984 بدفع فكرة توسيع سلطات المؤسسات الأوروبية، ومطالبة الدول الأعضاء بمراجعة القوانين الداخلية لبناء السوق الداخلية الموحّدة لأوروبا، تمهيدًا لإنشاء الاتحاد الأوروبي بدلاً من الجماعة الأوروبية. وهو ما تمخض عن التوقيع على اتفاقية القانون الأوروبي الموحّد (Single European Act) عام 1987. هذه الخطوة وضعت هدف إنشاء الاتحاد الأوروبي الكامل على أساس كفالة الحريات الأربع كفالة كاملة؛ وهي حرية انتقال الأفراد والأموال والخدمات والسلع بحلول عام 1992. كما طالب بإقامة سياسة خارجية وأمنية مشتركة وأدخل التعديلات اللازمة على «اتفاقية روما»، لتوسيع سلطات المؤسسات الأوروبية وتحريرها، خصوصًا المجلس الذي أصبحت قراراته بالأغلبية المؤهلة بدلاً من الإجماع، وإنشاء نظام قضائي داخلي لتسوية المنازعات. وأضاف إلى سلطات بعض المؤسسات الأخرى على رأسها البرلمان الأوروبي. كما أنشئت مؤسسة لضمان الانصهار الاقتصادي والاجتماعي بين الدول الأعضاء، من خلال تقديم الدعم للدول الأقل نموًا في التجمع، لضمان التزامها بالخطوات المقبلة دون الإخلال بأوضاعها الاقتصادية أو الاجتماعية.
بهذه الخطوة بدأ الاندماج الأوروبي للأعضاء يخرج من مجرد فكرة التكامل إلى مرحلة الاتحاد، ونحا منحنى جديدًا باتجاه الفيدرالية من خلال كثير من الخطوات التالية؛ لعل أهمها التوقيع على «اتفاقية ماستريخت» الشهيرة عام 1992 التي أنشأت كيان «الاتحاد الأوروبي» بدلاً من «الجماعة الأوروبية». فلقد وضعت الاتفاقية كل المؤسسات الأوروبية؛ وهي «اليوروأتوم» و«جماعة الفحم والصلب» و«الجماعة الأوروبية» و«محكمة العدل الأوروبية»، تحت مظلة «الاتحاد الأوروبي». وقضت بمزيد من التطوير لهذه المؤسسات، لتضطلع بالمهام الجديدة التي صارت موكلة إليها. كذلك أنشأت قطاع السياسة الخارجية والأمنية المشتركة، بهدف توحيد السياسة الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد خلال السنوات التالية. ولكن أهم ما أقرته هذه الاتفاقية كان «الاتحاد النقدي الأوروبي» الذي يهدف في النهاية إلى اعتماد عملة أوروبية موحّدة في الدول الأعضاء، عبر ثلاث مراحل أساسية تتضمن: تنسيق السياسات النقدية بين الدول الأعضاء ومراقبة هذا التنسيق، ثم إقامة بنك مركزي أوروبي تمهيدًا لإدخال عملة «اليورو» لتحل محل العملة الحسابية للاتحاد، وهي «وحدة النقد الأوروبية»، ولتكون بديلاً عن العملات المختلفة لكل دولة. وكان الهدف من هذه الخطوة في الأساس، هو دعم الاندماج بين الدول الأعضاء وخفض تكلفة المعاملات الاقتصادية والتجارية وتحفيز الأسواق لمزيد من الاستفادة. كذلك، أقرت هذه الاتفاقية ما عُرف بالجنسية الأوروبية، وهي الجنسية التي يحصل عليها المواطن في أي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، التي يترتب عليها حقوق للأفراد في الخدمات والامتيازات.
ربما كان أهم ما ميز هذه المرحلة الجديدة في الاتحاد الأوروبي إدخال عملة «اليورو» الموحدة بين الدول، من خلال ما عرف بآلية الصرف الأوروبية التي كانت الدول منضمة إليها منذ عام 1979، عندما كان حلم العملة الموحدة يداعب الدول الأعضاء. وكانت هذه الآلية تهدف إلى تنظيم التعامل بالعملات المحلية للدول، من خلال نظام ثابت للصرف بينها يضمن قدرًا من الاستقرار، فلا يحق للدول خفض عملتها بما يزيد على نسبة معينة منعًا للتذبذبات، لتأثير ذلك على عملية التكامل. وبمجرد الاتفاق على إنشاء بنك (مصرف) مركزي أوروبي وبرئاسة شخصية هولندية مرموقة، فيم دفيسنبرغ، بدأ الاستعداد لنشر العملة الأوروبية الموحّدة، فأسست «منطقة اليورو» أولاً في عام 1999 بمشاركة 11 دولة، تمهيدًا لإدخال العملة الموحدة في عام 2002، وهو ما تم بالفعل.
ثم جاءت «اتفاقية شينغن» بين عدد محدود من الأعضاء، لتضيف خطوة إضافية نحو الاندماج من خلال توحيد معايير الحدود بينها للأجانب. وبمقتضى هذه الاتفاقية يتيسر للزائر التنقل بحرّية كاملة بين الدول الأعضاء أيًا كانت الدولة مصدر التأشيرة، وهو ما فتح المجال أمام توسيع حركة السياحة بين هذه الدول والخارج، إضافة إلى توحيد القواعد المصاحبة لذلك ومتابعة الجرائم العابرة للحدود. أيضًا أقر الاتحاد ميثاق الحقوق الأساسية، الذي أصبح قانونًا ملزمًا لكل الدول الأعضاء يتضمن قطاعًا عريضًا من حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وكذلك شمل عمل الاتحاد التعاون في كل القطاعات على مصراعيها، بما في ذلك عمل الشرطة والشؤون الاجتماعية والتعاون يبن النيابات والقضاء وغيرها من القطاعات.
لقد شهدت الوحدة الأوروبية نجاحًا كبيرًا في كل المجالات، غير أن السياسة الخارجية والأمنية المشتركة لا تزال متأخرة نسبيًا، مقارنة بالقطاعات الأخرى في الاتحاد. إذ لم تستطع دول الاتحاد الاستقرار على توحيد كل جوانب السياسة الخارجية حتى الآن، لأسباب متعلقة بالسيادة والتوجهات الخارجية المختلفة للدول الأعضاء، ولكن المحاولات مستمرة لتوحيد المعايير الخاصة بالعلاقات الخارجية على الأقل في بعض المجالات.
وهكذا تحوّل مشروع التكامل الأوروبي، من مجرد حلم يداعب الساسة على مرّ العصور إلى حقيقة مطلقة اليوم، إذ غدا الاتحاد الأوروبي (قبل انسحاب بريطانيا) يضم 28 دولة أوروبية، ويمثل ثاني أكبر قوة اقتصادية على المستوى العالمي بناتج قومي إجمالي وصل إلى 19.2 مليار دولار. وهو يأتي في المرتبة الثانية عالميًا، بعد المارد الصيني ومن بعده الولايات المتحدة، محققًا متوسط دخل للفرد يصل إلى 34 ألف دولار سنويًا. وهذا تحقق بفضل تضامن دوله وتكاملها اقتصاديًا ضمن أمور أخرى، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم أكثر من أي وقت، هو لماذا نجح هذا الاتحاد بينما فشلت محاولات لتكتلات أخرى لديها قواسم مشتركة أكثر من دول الاتحاد؟
من التاريخ: ظهور الاتحاد الأوروبي
من التاريخ: ظهور الاتحاد الأوروبي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة