بينما تتواصل المباحثات المكثفة بين الخبراء الأميركيين والروس في جنيف للتوصل إلى اتفاق صلب لوقف الأعمال العدائية في سوريا، وإيصال المساعدات الإنسانية والتعاون المشترك في الحرب على «داعش» سبيلا لمعاودة البحث في العملية السلمية من خلال وساطة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، أبدت مصادر فرنسية رسمية «تشككها» إزاء ما يجري في المدينة السويسرية، وإزاء ما يمكن أن ينتج من هذه المحادثات التي تأتي استكمالا للاجتماع الماراثوني الجمعة الماضي بين وزيري الخارجية جون كيري وسيرغي لافروف.
بيد أن تصريحات الرئيس الروسي، أمس، لوكالة «بلومبيرغ» التي تحدث فيها عن إمكانية التوصل «قريبا» إلى اتفاق روسي ــ أميركي، وعن إحراز تقدم «شيئا فشيئا» في هذه المباحثات الثنائية جاءت لتعطي صورة مغايرة عن الصورة السلبية المتكوّنة لدى الجانب الفرنسي، الذي أشار إلى أن الطرفين الروسي والأميركي أعلنا مرارا في السابق عن التوصل إلى تفاهمات وهدنات «إما لم تتحقق أو تهاوت». وتضيف المصادر الفرنسية، أن بوتين نفسه قال: إنه «من المبكر» الحديث عن التوصل إلى اتفاق، رغم أن الطرفين «يتقدمان في الاتجاه المطلوب». وكانت «الشرق الأوسط» قد نشرت خبرا الأربعاء الماضي، نقلا عن مصادر أميركية، جاء فيه أن «اتفاقا سيتم التوصل إليه بحر الأسبوع المنتهي».
هذه الرؤية الفرنسية وعنوانها «التشكيك» جاءت خلاصة مجموعة من اللقاءات مع دبلوماسيين فرنسيين رفيعي المستوى معنيين بالشأن السوري أجرتها «الشرق الأوسط» في الأيام الثلاثة الأخيرة على هامش مؤتمر «السفراء الفرنسيين عبر العالم»، وهي تصب كلها في خانة اعتبار أن المباحثات الثنائية «أقرب إلى طبخة بحص» لا طائل منها، لسبب أساسي هو أن النظام وخصوصا داعميه الروسي والإيراني «لم يتخليا بعد عن الخيار العسكري»، وأن جنيف غرضها «ملء الوقت بانتظار أن يبان مصير المعارك الرئيسية الجارية حاليا في سوريا، وأولها مصير حلب ومنطقتها».
وتشير هذه المصادر بداية إلى أن البحث في تفاصيل الاتفاق بين خبراء الطرفين بدأ مباشرة عقب زيارة كيري إلى موسكو في 14 يوليو (تموز) الماضي، وأن الموضوعات التي أعيد البحث فيها في لقاء جنيف «لا تختلف عما سبق بحثه». وبالتالي، فإن الطرفين «يدوران في حلقة مفرغة» هي أقرب إلى «إدارة الوقت أكثر مما هي السعي لإيجاد مخرج من الحرب المستعرة».
تعتبر باريس أن ثمة خللا في «ميزان القوى السياسي والدبلوماسي» بين طرفي المحادثات، حيث ثمة في جانب طرف «يستعجل الوصول إلى تفاهم» «الطرف الأميركي»، فيما الجانب الآخر «الروسي» يرى أن «الخيارات مفتوحة أمامه»، وأنه «قادر على إبرام تفاهم اليوم أو انتظار أشهر عدة» إضافية. وتسود في باريس قراءتان: الأولى ترى أن موسكو يمكن أن تعتبر أنها اليوم «قادرة على انتزاع أفضل اتفاق يلائم مصالحها في سوريا من إدارة أميركية ضعيفة جعلت همها الأول الحرب على (داعش)، والرغبة في تحقيق إنجاز ما قبل نهاية ولاية الرئيس باراك أوباما». وبحسب هذه القراءة، فإن «التنازلات التي يمكن أن تحصل عليها روسيا اليوم لن تحصل عليها غدا من الرئيس الأميركي الجديد، أكان ذلك المرشح الجمهوري أو المرشحة الديمقراطية».
أما القراءة الأخرى، فتشدد على أن «مصلحة» الرئيس الروسي الذي نجح في فرض «الثنائية» الروسية ــ الأميركية وحدها إطارا للحل، لا تكمن اليوم في تقديم تنازلات محددة لرئيس «مغادر»، بل إنه من الأجدى له أن ينتظر وصول إدارة جديدة يمكن أن يجري معها عملية «مقايضة» بين تساهل ما في سوريا مقابل تنازلات أميركية وغربية في مكان آخر «العقوبات الاقتصادية أو أوكرانيا مثلا». وفي الحالتين يستطيع الجانب الروسي أن يضمن المحافظة على مصالحه في سوريا والمنطقة الشرق أوسطية والبحر المتوسط. يضاف إلى ذلك أن الجانب الروسي قد يعتبر أن «لا فائدة» من تبديد ورقة سوريا اليوم من خلال المساعدة على التوصل إلى حل قريب؛ إذ عندها سيتراجع موقف موسكو القوي والمؤثر «لأنها تكون قد خسرت ما مكّنها من العودة بقوة» إلى الساحة الدولية ودفع الأميركيين «لاستجداء» حل ما زالت حتى اليوم تمانع في توفيره.
ثمة من يرى أن روسيا، رغم امتلاكها ناصية المبادرات ميدانيا ودبلوماسيا ومهارتها في المناورة، لا تحتكر جميع الأوراق لا سياسيا ولا ميدانيا. وهذا من شأنه أن يدخل عنصر «فقدان اليقين» في السياسية الروسية. وتعتبر المصادر الفرنسية، أن «مفتاح الوضع» العسكري والسياسي اليوم في سوريا هو معركة حلب، وأن مصير عاصمة الشمال السوري هو الذي سيدفع بتوجهات موسكو بهذا الاتجاه أو ذاك. وبحسب هذه المصادر، فإن نجاح النظام، بدعم روسي ــ إيراني كثيف، في وضع اليد على كامل مدينة حلب سيُفهَم على أن الحرب «يمكن أن تحسم عسكريا» وهي في طريقها لذلك. وفي هذه الحال: «لن يكون للمعارضة السورية ما تفاوض بشأنه»، وبالتالي، فإن المباحثات التي يمكن أن تحصل لاحقا في جنيف أو غيرها «ستكون فقط لترجمة النتائج العسكرية إلى قرارات سياسية». وعندها يمكن أن تعتبر موسكو أنها «ربحت الحرب».
أما إذا عجز النظام، رغم كل المساندة والدعم اللذين يتوفران له عن حسم معركة حلب، فسيكون ذلك مؤشرا لعجزه طويل المدى عن تغيير الواقع الميداني، وعندها ستضطر موسكو إلى استخلاص العبر والسعي لتلافي «الغرق» لسنوات في الحرب السورية، وهو بالطبع ما لا يريده بوتين وفريقه. وفي هذه الحال، ترجح المصادر الفرنسية أن تعمد روسيا إلى البحث جديا عن حل سياسي متوازن ومقبول من الجانبين ويكون عنوانه الأول المحافظة على مصالحها الاستراتيجية. وعندها «لن يكون لمصير الرئيس السوري وزن كبير».
لا تغفل باريس أهمية العامل الإيراني ولا تطورات المواقف التركية وتأثيرها على مسار الأزمة السورية. فمن جانب، باريس تعتبر أن التوافق الإيراني ــ الروسي «يمكن أن يستمر طالما أن الطرفين يعملان على حماية النظام وتمكينه من الصمود»، لكنها ترى أن لكل وضعه «الخاص»، حيث مصالح طهران مربوطة عضويا، بحسب المصادر الفرنسية، ببقاء الأسد ونظامه، بينما وضع روسيا مختلف وهي قادرة على التأقلم وحفظ حصتها «مع الأسد أو من دونه». ونتيجة ذلك أن طهران وموسكو يمكن أن «تختلفا» غدا إذا بدت مصالحهما «متناقضة». أما بالنسبة لتركيا، فالملاحظة الفرنسية الأولى هي أن أنقرة أرادت في تدخلها، إلى جانب ما هو واضح «سعيها لمنع إيجاد تواصل جغرافي للمناطق الكردية السورية الثلاث، وضرب وحدات حماية الشعب الكردية، ولاحقا منع إقامة دولية كردية ملاصقة لمئات الكيلومترات للحدود التركية» إبراز «استقلاليتها» وقدرتها على اتباع سياسات لا تحوز سلفا على رضا الحليف الأميركي رغم إبلاغه في «آخر لحظة» بعمليتها في جرابلس ومحيطها. لكن باريس، رغم ذلك، ترى أن ثمة الكثير من الأسئلة الخاصة بالتدخل التركي التي لا تتوافر بشأنها أجوبة واضحة، مثل إمكانية تقارب أنقرة والنظام السوري، وموقف الأخيرة المستقبلي من المعارضة السورية التي دعمتها منذ البداية، ومدى اتساع تدخلها العسكري وبقاء قواتها على الأراضي السورية، وتصورها للحل بعد أن برزت «مؤشرات» أولية لتبدل في سياستها إزاء الأسد.
ثمة بعد تركي آخر للأزمة السورية - بحسب المصادر الفرنسية - التي ترى أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان «لا يريد أن يرى إيران تفرض هيمنتها التامة على العراق وسوريا» بحيث يتحول هذا البلدان إلى «محميتين إيرانيتين» فيما للبلدين مصلحة مشتركة في منع تنامي قوة الأكراد في سوريا «وإيران» واستنساخ نموذج أكراد العراق الذين نجحوا في بناء كيان شبه مستقل داخل الدولة العراقية، وربما يصبح يوما ما مستقلا.
إزاء كل هذه الإشكاليات، تبدو الدبلوماسية الفرنسية «قلقة» من الغموض الأميركي. فباريس ــ وهذا ما يعترف به دبلوماسيوها ــ «لا تعرف تفاصيل ما يدور بين كيري ولافروف»، وتجهل «التنازلات» التي يمكن أن يقدم عليها الوزير الأميركي لتحقيق إنجاز دبلوماسي يحسب في خانة نجاحات الرئيس أوباما الذي جاء إلى البيت الأبيض عام 2008 لإغلاق ملفات حروب أميركا في الخارج. وتعي باريس أن «الغموض» يوفر للوزير كيري «ليونة وهامشا للمناورة»، لكنه «قد يخفي غيابا لخط سياسي مفهوم ولأهداف محددة» ما يشرع الباب لمناورات روسيا، وينعكس سلبا على شركاء واشنطن وحلفائها.
وأمس، لم يتردد وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت، في كلمته الختامية لمؤتمر السفراء في تأكيد أن أحد عوامل اختلال ميزان القوى في الشرق الأوسط سببه «تراجع الولايات المتحدة الأميركية». واتهم إيرولت روسيا وإيران بتشجيع خيارات النظام السوري باعتماد العنف «أي الحرب» الذي لا يقود سوى إلى «طريق مسدود»، منبها إلى أن «لا أحد» قادر على الانتصار فيها، وأن النظام السوري «لن يستطيع البقاء «في مكانه» بعد هذه المأساة «الحرب»». ورغم انتقاده الواضح لدور روسيا، فإن الوزير الفرنسي حرص على تأكيد أن موسكو «شريك» ولها «الحق» في أن تلعب دورها على المسرح الدولي.
مصادر دبلوماسية في باريس لـ«الشرق الأوسط»: محادثات جنيف غرضها «ملء الوقت»
وزير خارجية فرنسا يتهم موسكو وطهران بتشجيع النظام السوري على التمسك بخيار الحرب
مصادر دبلوماسية في باريس لـ«الشرق الأوسط»: محادثات جنيف غرضها «ملء الوقت»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة