تتبدى الخطورة في حالة التطرف العنيف وحضور جماعاته أن هذه الحالة ليست تنظيمًا واحدًا، رغم البروز المدوي لأبرزها وهو تنظيم داعش الذي يسيطر على المشهد، ويدوي خطره في أسماع وأصقاع العالم. بيد أن التراجع الميداني لهذا التنظيم ليس في حد ذاته نهاية المطاف، خاصة مع بقاء الأزمات في سوريا والعراق وغيرهما التي أنتجته وأنتجت غيره من تنظيمات التطرف، وهي تنظيمات تشبهه آيديولوجيًا وإن اختلفت معه تنظيميًا أو طائفيا أحيانًا، فضلا عن قدرة هذه التنظيمات على التكيف الذي نعرض له، ممثلين بالحالة الداعشية.
نجح تنظيم داعش المتطرف في التكيف مع الحرب التي تشن عليه، حتى ديسمبر (كانون الأول) 2015، في خوض 20000 معركة ميدانية ضد أطراف رسمية وغير رسمية من أعدائه، قضى فيها أكثر من 6000 عنصر على الأقل. كذلك نجح التنظيم بين يونيو (حزيران) 2014 - تاريخ إعلان خلافته المزعومة - وديسمبر 2015 وهو تاريخ تفعيل استراتيجيات المكافحة واليقظة الدولية ضده، أن يشن خمسين هجوما على الأقل في 18 دولة، قتل فيها أكثر من 1100 فرد وأصاب أكثر من 1700 فرد، حسب مؤشر السلام الدولي الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام هذا العام.
ولكن مع تفعيل جهود مكافحة «داعش» والحرب عليه دوليا، منذ نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر 2015، في أعقاب هجمات باريس وغيرها من الهجمات في البلدان الأوروبية، والتنسيق بين عدد من الأطراف نحو تفعيل الحرب عليه، اضطر التنظيم المتطرف وغيره من التنظيمات المتطرفة الأخرى كـ«جبهة النصرة» - قبل تحولها إلى «جبهة فتح الشام» - للتراجع في بؤر الصراع.
لكن بينما دفعت «جبهة النصرة» لفك ارتباطها بـ«القاعدة» في 29 يونيو الماضي، ظل «داعش» يمارس ما يسمى بـ«استراتيجية السمكة»، كرًا وفرًا، صعودًا وهبوطًا، وانتقالا من جبهة إلى أخرى.. من الشرق الأوسط إلى أوروبا وبالعكس.
تراجع وليس اندحارًا
لا يمكن الحسم قولاً واحدًا أن التراجع سيستقيم في اتجاهه، ليصل إلى نقطة اندحار واندثار «داعش»، التنظيم الأكثر خطورة في تاريخ التطرف العنيف وغيره من التنظيمات، ولكن يمكن القول: إن المراوحة بين الصعود والهبوط، وبين التراجع والتقدم، وبين تراجع السيطرة الميدانية وارتفاع معدل العمليات الانتحارية، هي السمة الأبرز لهذا المشهد.
ويجب هنا أن نشير إلى أن عوامل الإرهاب وروافده متعدّدة. وأهمها في السياق العربي، الذي يشهد أكثر من 80 في المائة من مجموع عمليات الإرهاب في العالم منذ عام 2000، ما لحقه بعد زلزال الانتفاضات العربية من ضعف بعض دوله وصراعات السلطة فيها، وهي الحالة التي تشهد أكثر من 75 في المائة من هذه العمليات. وثانيها، عربيًا ودوليًا، المشاركة الفعالية في الحرب الدولية على تنظيماته رغم قوة هذه الدول. ولكن ثمة محاولة دؤوبة من التنظيم المتطرف للضغط على دول لا يواجهها مواجهة مباشرة كما هو الشأن في بؤر الصراع، وكذلك في عملياته ضد عدد من البلدان الأوروبية والخليجية خلال العام الأخير.
أيضًا، من عوامل بقاء المراوحة في مشهد التطرف العنيف، رغم تراجعه، استمرار وبقاء الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطائفية والجهوية. وهي أزمات وفرت لتنظيمات التطرف العنيف في المنطقة تربة التوحش التي يجيد الإرهاب المعولم وفروعه وفصائله المختلفة إدارتها. وبالتالي، نجح في تجديد وجوده والحفاظ على حضور خطره عبر عدد من التحولات الواضحة:
أولا: انتقال وتحول الإرهاب العالمي من «عمليات القاعدة الاستنزافية العابرة» للسيطرة على مناطق واسعة في سوريا والعراق عام 2014، ثم في ليبيا عام 2015، ما وفر جاذبية تحقيق حلم «خلافة داعش المزعومة» التي أعلنت في 29 يونيو 2014 كـ«دار للإسلام» تجتذب المقاتلين الراديكاليين من كل مكان في العالم.
ثانيا: توظيف واستثمار الاحتقان الطائفي الصاعد بعد اندلاع الثورة السورية في مارس (آذار) 2011. وأزمة الحكم في العراق وسياسات التمييز والتهميش الطائفي التي مارسها نظام نوري المالكي ضد العرب السنة في العراق، وهو ما أتاح لـ«قاعدة العراق» – «داعش» فيما بعد - الانبعاث والولادة من جديد بشكل أكثر قوة عن ذي قبل، بعد اندحار وسقوط دولته المزعومة عام 2007.
ثالثا: نجح تنظيم داعش وغيره من تنظيمات الإرهاب في توظيف الإمكانات اللوجيستية والتمويلية المختلفة بين عامي 2012 و2014. وهي وإن تراجعت منذ أخريات العام 2015 فإنها ما زالت تحتفظ بحيويتها وتوسعها في مناطق مختلفة من العالم. استمرار تهديدها للاستقرار الإقليمي والعالمي يأتي بين آن وآخر بأبشع المفاجآت، كما تجلى في «تفجير الكرادة» الأخير في بغداد خلال شهر يوليو (تموز) الماضي، أو في هجمات أوروبا في الشهور الثمانية الأخيرة.
مطرقة الحرب الدولية
وكما سبقت الإشارة، منذ بداية عام 2016، برزت مؤشرات تراجع كثيرة لتنظيم داعش ولسائر تنظيمات التطرف العنيف في المنطقة، دفعته إليها الصحوة الدولية لجهود مكافحة الإرهاب، خاصة بعد تفجيرات باريس في نوفمبر عام 2015، وتلك التي طالت أوروبا خلال الشهور الماضية. ثم ما استتبع ذلك من تنسيق دولي وإقليمي ركز على ضرب وقصف وتراجع هذه التنظيمات، خاصة في معاقلها الرئيسية في بؤر الصراع في سوريا والعراق، ثم في ليبيا لاحقًا.
وراهنًا يقوم تصور التحالف الدولي للحرب على «داعش» على إدراك أبعاد رئيسية، تمثل مقومات هذا التنظيم وأسس فعاليته الرئيسية، نوجزها فيما يلي:
1 - استهداف المركز في العراق وسوريا (الخلافة المزعومة الزائفة).
2 - استهداف الشبكات العالمية (المقاتلين الإرهابيين الأجانب وشبكات التمويل وشبكات التراسل).
3 - استهداف فروع التنظيم وخلاياه النائمة عبر العالم، والمنتسبين الدوليين له في مختلف بلدانه.
ويدرك التحالف الدولي أن أي حملة ناجحة للتصدي لـ«داعش» يجب أن تتعامل مع هذه الأبعاد الثلاثة معًا، وتحقيق الجهود المتكاملة لاستهداف هذه الأبعاد الثلاثة. لكن المواجهة الفكرية والآيديولوجية لهذه التيارات والأفكار المتشددة ما زالت بحاجة لكثير من الجهد يتوازى مع الجهد الأمني الاستباقي والوقائي منها. وهذه هي المسألة المهمة التي لم تأخذ حقها من الاهتمام والدعم حتى الآن، ووقفت في أحيان على إنشاء منصة تواصلية أو عند متابعة الأخبار دون النفاذ للقيم والأفكار.
غير أن تركيزًا على الأبعاد الثلاثة اللوجيستية والتنظيمية والتواصلية، تضمنت استراتيجية التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في بؤر الصراع الرئيسية عبر مسارات أساسية، أهمها ما يلي:
أولا: العزل الخارجي بقطع الاتصال الحيوي بين التنظيم المتطرف في الساحة السورية والعراقية بالسيطرة على المعابر والمناطق الحدودية، والعزل الداخلي على الجبهات لتفكيك التنظيم.
ثانيا: مسار التطهير القطاعي من الهامش إلى المركز بحيث يصار إلى ضرب مواقع سيطرة التنظيم خارج المركز ثم الاتجاه صوب المركز لضربه.
ثالثا: استراتيجية المطرقة الصلبة، ويقصد بها ضرب رؤوس التنظيم عبر استهداف القيادات الرئيسية والميدانية فيه، ما يؤدي لارتباكاته وخلخلته وفقدان عناصره الثقة والاتصال في كثير من الأحيان، وكذلك ضرب تجمعات التنظيم وآلياته، ومناطقه المركزية وحلقاته الاستراتيجية. ولقد لوحظ تأثير تصفية عدد من القيادات العليا من التنظيم المتطرف على أدائه في الكثير من المعارك الأخيرة في الفلوجة خلال يونيو الماضي، وكذلك في مدينة منبج السورية ومدينة مصراتة الليبية. ومن هذه العناصر كان عبد الرحمن القادولي، ثاني أبرز قيادات التنظيم والمرشح الأول لخلافة أبو بكر البغدادي الذي سقط في مارس الماضي، وأبو عمر الشيشاني الذي سقط مطلع يوليو الماضي، و«جون» الذباح المعروف الذي سقط في نوفمبر الماضي.
سمى «داعش» استراتيجيته في التكيف مع الحرب الدولية المتصاعدة عليه بـ«استراتيجية السمكة»، حيث يقوى على الغوص والاختفاء، وامتصاص الأزمات والانتقال السريع بين مكان وآخر، وتشتيت فكر خصومه واهتماماتهم في مناطق مختلفة ومتباعدة.
وكشف التنظيم عن هذه الاستراتيجية عام 2015 في تقرير أصدره وتداوله أنصار للتنظيم المتطرف على مواقع التواصل الاجتماعي، وفيه استعرض «داعش» آخر العمليات العسكرية التي نفذها عناصره في مختلف المناطق التي ينشط فيها في كل من سوريا والعراق ودول أخرى في المنطقة، إضافة إلى استعراض أسماء «الولايات» الـ24 التي يعتمدها في تلك المناطق. ولقد استوحى التنظيم هذه الاستراتيجية من «السمكة الصحراوية» (السحلية) التي تتنقل من مكان إلى مكان من خلال الغطس في الرمال، وتهرب من مكان لتظهر في مكان بعيدًا عن أعين أعدائها.
ومن بين «الولايات» الـ24 التي استعرض التنظيم أسماءها 16 في سوريا والعراق، في حين أن العدد المتبقي كان يحمل أسماء اليمن والجزائر وسيناء (مصر) وبرقة وفزان وطرابلس (الثلاث في ليبيا)، وبلاد الحرمين (المملكة العربية السعودية)، وخراسان (مناطق غرب العراق ومن ضمنها إيران).
ومن أمثلة ذلك أنه مع زيادة الضغط على تنظيم كـ«داعش» في سوريا والعراق، لجأ التنظيم للانسحاب من عدد من المناطق والمدن التي سبق أن سيطر عليها، مثل تدمر والرمادي والفلوجة وغيرها. ووجه عناصره لاستخدام استراتيجيته في «العمل الفردي» المشهورة إعلاميًا بـ«الذئاب المنفردة» والتي نفذت بها أكثر من 90 في المائة من عمليات الإرهاب في الشرق الأوسط وأوروبا في الشهور الأخيرة. كما لجأ لممارسة التهديد والترويع لفئات مختلفة كعلماء الأزهر الذين أحل دماءهم في بيان للتنظيم في 17 نوفمبر 2015 أو بعض علماء المملكة العربية السعودية في إصدار له في 19 أبريل (نيسان) 2016 وغيرها.
أيضًا، اتجه «داعش» للاستثمار في العائدين من بؤر الصراع في سوريا والعراق، الانتقال بين ملاذات آمنة متعددة، وحصلت تحركات وانتقالات لعدد من عناصر التنظيمات المتطرفة من شبه جزيرة سيناء المصرية إلى ليبيا أو للداخل الفلسطيني أو سوريا والعراق، أو العكس، حين يشتد الضغط.
ومن جهة أخرى، كان التكيف واضحًا مع ازدياد الضغط وصحوة الحرب على الإرهاب في بؤر الصراع، وذلك عبر توظيف المجندين الجدد بسرعة دون عمليات تدريب وتأهيل طويلة. وتم ذلك بموجب تكليفات سريعة، استدعت الشك فيها، ليقوموا بعملياتهم الفردية - بأي أدوات متاحة - ضد أهداف ناعمة غير متوقعة، شأن المطارات والمطاعم ودور العبادة، بدلاً من الأهداف الصلبة كالمقار الأمنية والعسكرية الأكثر صعوبة بشكل رئيسي.
ختامًا، يرجح المتابعون أن يبقى «داعش» وغيره من تنظيمات التطرف العنيف حالة مقلقة للعالم أجمع، طالما بقيت مبرراتها. والقصد أنه لن تزول أعراض المرض إلا بزوال أسبابه. وما زال هناك الكثير من الحسم الدولي والإقليمي المطلوب لحل هذه الأزمات، خاصة في سوريا والعراق، ودعم الشرعيات في اليمن وليبيا، وأيضًا لوقف التدخلات الطائفية المتحيزة لنظام الولي الفقيه الإيراني. وهذه كلها مفاتيح جوهرية لتجفيف تربة التنظيم الأكثر تطرفًا التي ينمو فيها.
مطرقة التحالف و«سمكة داعش»
تراجع لا اندحار حتى الآن.. لتنظيمات التطرف العنيف
مطرقة التحالف و«سمكة داعش»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة