الأصولية الداعشية في مرآة المثقفين الفرنسيين

قسم منهم يرى أن فرنسا دخلت في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية المقبلة

عبد النور بيدار - ميشيل أونفري
عبد النور بيدار - ميشيل أونفري
TT

الأصولية الداعشية في مرآة المثقفين الفرنسيين

عبد النور بيدار - ميشيل أونفري
عبد النور بيدار - ميشيل أونفري

السؤال المطروح الآن هو التالي: ما رأي مثقفي فرنسا فيما يحصل في بلادهم من أحداث جسام؟ سأقتصر على بعض الأسماء؛ لأن الموضوع شاسع وواسع ويملأ كتابا كاملا بسهولة.
ماذا يقول لوك فيري مثلا؟ يرى أنه من الغباء أن نتهم القتلة الذين يرتكبون التفجيرات بأنهم مرضى نفسانيون كما فعل القضاة الذين أخلوا سراح أحد القتلة قبل فترة قصيرة من ارتكابه الجريمة، بل ونصحوا بمعالجته نفسيا ومتابعته طبيا! وهذه حماقة منقطعة النظير. هذا خطأ قاتل ينبغي تحاشيه بأي شكل؛ فالحقد الديني أو التعصب الأعمى ليس مرضا نفسيا تمكن معالجته عن طريق علماء النفس وأطباء المصحات العقلية. هذا وهم وتضييع وقت. فالشاب الذي «تمرجل» على شيخ عجوز عمره 86 سنة وذبحه لم يكن مريضا عقليا أبدا، وإنما كان في كامل صحته النفسية والعقلية. ولكنه كان مفعما بالحقد الديني على كاهن مسيحي لسبب بسيط هو أنه كافر من وجهة نظره وعدو للإسلام. أو هكذا لقنه شيوخه؛ لأنه هو ربما يجهل كل شيء عن الإسلام. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقل. وإلا كيف يتجرأ على قتل شخص عجوز في عمر جده، أو جد جده وليس والده. كان يكفي أن ينفخ عليه نفخة بسيطة لكي يسقط على الأرض. وعلى أي حال فالداعشيون القتلة ليسوا أقل جنونا من النازيين الذين قتلوا الناس بالملايين، وأحيانا كثيرة على الشبهات. وإنما هم ككل أتباع الآيديولوجيات التوتاليتارية العمياء مفعمون بالحقد على كل من لا يشاطرهم عقيدتهم. وما الحل في رأي لوك فيري؟ الموقف الصارم بلا هوادة ضد الدواعش من جهة، والموقف الأخوي المتضامن مع الجالية المسلمة الكريمة من جهة أخرى. ولكن ينبغي عليها بالمقابل أن تتحرك أكثر لتحييد هؤلاء القتلة الذين يخرجون من أحشائها ويقتلون باسمها، أو باسم معتقدها ودينها. لا ينبغي أن تبقى صامتة أو مكتوفة الأيدي تتفرج؛ فإدانتها الصريحة لهؤلاء المنحرفين الضالين وتبرؤها منهم علنا هو أضعف الإيمان. لكن لنعد إلى مسألة الاضطرابات العقلية. في كل مرة يرتكب أحدهم جريمة نكراء، كما حصل في نيس مثلا، يطلع عليك بعض المثقفين أو أشباه المثقفين لكي يقولوا لك: يا أخي هذا الشخص مجنون. يا أخي لا علاقة للدين بذلك، يا أخي هذه مؤامرة، الخ.. وهم بذلك يريدون صرف الأنظار عن المشكل الأساسي. إنهم يرفضون الاعتراف بالمرض الحقيقي الذي ينخر في أحشاء المجتمعات العربية والإسلامية منذ عقود، بل وقرون: أي منذ أفول العصر الذهبي والدخول في عصر الانحطاط والجمود. ويجن جنونهم إذا ما تحدثت لهم عن إسلام الأنوار، أو عن ضرورة مرور العرب والمسلمين بالمرحلة التنويرية كما حصل للشعوب الأوروبية. كل الثقافة القديمة المهترئة البالية لا تشكل أي مشكلة بالنسبة لهم. كل العفن التاريخي المتراكم لا وجود له في نظرهم. كل الفتاوى التكفيرية التي تدعو علنا إلى ذبح الآخرين على الهوية الطائفية بريئة مما يحصل حاليا في رأيهم. من المسؤول إذن؟ بمثقفين كهؤلاء سنصل إلى حضيض كهذا! لحسن الحظ؛ فإن عبد النور بيدار ليس من هؤلاء الديماغوجيين؛ فهو يقول صراحة ما يلي: «ينبغي على العالم الإسلامي أن يعترف بأن جذور المرض التي تسرق اليوم وجهه موجودة في داخله لا خارجه».
أما الفيلسوف ميشيل أونفري، فيرى أن فرنسا دخلت في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية المقبلة لا محالة. وهي حرب ستخاض بين طرفين اثنين: أتباع النظام الديمقراطي الأنواري من جهة، وأتباع النظام الثيوقراطي الظلامي من جهة أخرى. ونضيف من عندنا: ولكنها لن تكون حربا بين المسلمين ككل من جهة وعددهم خمسة ملايين - والفرنسيين الأصليين ككل من جهة أخرى وعددهم ستون مليون. هذا خطأ قاتل ينبغي تحاشيه بأي شكل. لماذا؟ لأن أتباع الحداثة والأنوار موجودون أيضا داخل الجالية الإسلامية ذاتها، بل وموجودون بكثرة لحسن الحظ. فالنخب العربية والإسلامية المتنورة أصبحت ضخمة في بلاد فولتير وموليير. يضاف إلى ذلك أنه داخل الفرنسيين أنفسهم فإن أعداء الأنوار يشكلون أقلية لا يستهان بها: غلاة اليمين المتطرف. في كل الأحوال، يعترف ميشيل أونفري بأنه سيكون هناك تياران للإسلام في فرنسا: التيار المتزمت الظلامي - والتيار الآخر المضاد له. إسلام الظلمات ضد - إسلام الأنوار؟ ربما. لم لا؟ بل وبالتأكيد. هذا هو أيضا أحد رهانات المستقبل ليس فقط داخل فرنسا، وإنما في العالم العربي أيضا. وهذا هو رأي المفكر الجزائري مالك شبل مؤلف كتاب «من أجل إسلام الأنوار». للأسف توجد في التراث فتاوى تكفيرية وأفكار متطرفة تبرر للدواعش ذبحهم ضحاياهم من الوريد إلى الوريد. وهي فتاوى لبعض شيوخ الظلام مترجمة إلى الفرنسية من قبل جماعات «داعش» وموضوعة على الإنترنت. والذي ذبح الكاهن الفرنسي كان يعتقد أنه يتقرب إلى الله تعالى بذبحه شخصا «كافرا ينجس الأرض بوجوده». في حين أن هذا الكاهن المسكين كان تقيا ورعا، ويفعل الخير من حوله باعتراف الجميع. ولكن لحسن الحظ توجد فتاوى أخرى وآراء رحيمة تمنع ذلك منعا باتا. التراث تراثان يا جماعة! أو وجهان. هذه حقيقة. وابن سينا أو ابن عربي يساوي عندي كل مشايخ التكفير والظلام ماضيا وحاضرا. ولكن المشكلة هي أن الوجه المكفهر لهذا التراث العظيم هو المتغلب منذ نحو الألف سنة: أي منذ إغلاق باب الاجتهاد والدخول في عصر الانحطاط. عدنا إلى المشكلة نفسها، إلى نقطة الصفر.. فما العمل إذن؟ ينبغي أن ينتصر يوما ما إسلام الأنوار على إسلام الظلمات. لا يوجد حل آخر. في الحالة الراهنة للأمور فإن إسلام الإخوان الدواعش هو المنتصر وهو المتغلب على برامج التعليم العربية وعقول الشبيبة الإسلامية، ناهيك عن الفضائيات! وناهيك عن أشباه المثقفين العرب الذين يتواطأون مع التيارات التكفيرية والإخوانية من جهة، ثم يتشدقون بالديمقراطية والحرية وثورات الشعوب من جهة أخرى! ومن قلب باريس عاصمة الأنوار العالمية يعتقدون بأن حيلتهم الواهية هذه يمكن أن تنطلي على الناس. لتسقط الأقنعة إذن! شاهت منهم الوجوه.
أما إمام جامع بوردو الشيخ المستنير طارق أوبرو، فيخترع مصطلحا جديدا هو: اللاهوت الوقائي. فما الذي يقصده بذلك؟ إنه يقصد أنه ينبغي على أئمة الجوامع في فرنسا أن يعرفوا كيف يعظون المسلمين ويثقفونهم ويعلمونهم دينهم بشكل صحيح. ينبغي أن يختاروا الآيات والأحاديث والتفاسير التي تتماشى مع العصر، ومع المجتمع الحديث الذي يعيشون فيه. نحن لم نعد في القرون الوسطى، ولا في عصر السلطنة العثمانية، ولا في أيام حسن البنا والإخوان المسلمين! بمعنى آخر ينبغي نشر ثقافة التسامح والتعايش في الجوامع الفرنسية التي يزيد عددها على الألفين وخمسمائة على الأراضي الفرنسية كافة. باختصار شديد: ينبغي تقديم تفسير جديد لهذا الدين الحنيف، تفسير قادر على تحقيق المصالحة بين الإسلام والحداثة. هذا هو معنى اللاهوت الوقائي أو التفسير الوقائي والأنواري للإسلام. وهو الحل الوحيد لمواجهة الإرهابيين الدواعش الذين يعتمدون على مقولات لاهوتية عتيقة بالية: أي فتاوى قروسطية تكفيرية لا تزال تحكم العالمين العربي والإسلامي كليهما حتى الساعة. بمعنى آخر، فإن المشكل الأساسي اليوم هو: مادة التربية الدينية. إنها أخطر من القنبلة الذرية! فإما أن تخرج أجيالا صالحة وإما طالحة، إما عقلاء مستنيرين وإما ظلاميين تكفيريين، إما نخبا رائعة وإما كاميكاز انتحاريين. ولكم الخيار! وبالتالي، فالمعركة أصبحت داخل الإسلام ذاته. وستكون بين لاهوت قديم ضد لاهوت جديد، أو فقه العصور الوسطى - ضد فقه العصور الحديثة. ثم يضع إمام جامع بوردو الكبير يده على الجرح؛ إذ يحمل الطرف الآخر بعض المسؤولية، ويقول: نتغنى بقيم الجمهورية الفرنسية والعلمانية والديمقراطية والأنوار، ولكن ماذا فعلنا ضد الفقر المدقع الذي يصيب الجالية إلى حد كبير، وكذلك البطالة والعطالة وانسداد الآفاق؟ ماذا فعلنا ضد التهميش والاحتقار والإقصاء؟هل تعتقدون ألا علاقة لذلك بما يحصل؟ على هذه الأرضية المدقعة تنمو الأفكار المتطرفة السوداء وتنتعش الدواعش. أخيرا، ينبغي القول بأن جاليتنا في أغلبيتها الساحقة مسالمة طيبة لا تبحث إلا عن الخير لنفسها وللآخرين. وهي جادة، عاملة، مخلصة، صبورة. من يعرف المغاربة جيدا يفهم ما أقول. ولكن هناك أقلية خرجت من أحشائها وقلبت في الجهة الأخرى: جهة التطرف الديني، بل وحتى الانحراف الخلقي والمخدرات والإجرام. كل الذين ارتكبوا التفجيرات الوحشية الأخيرة في فرنسا لهم سوابق إجرامية قبل أن ينتقلوا إلى صفوف «داعش» ويتبركوا ببركتها.. كلهم دون استثناء.
أخيرا، سأقول ما يلي: من الواضح أن العالم العربي، بل والعالم كله انقسم الآن إلى معسكرين اثنين: معسكر التكفيريين الدمويين الذين ينتمون إلى عصور غابرة منقرضة، ومعسكر الآخرين، كل الآخرين الذين يقبلون بأن يعيشوا بسلام مع بعضهم بعضا على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم. ولن تنتهي هذه القصة قبل انتصار أحد المعسكرين على الآخر بشكل قاطع ونهائي.



العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي. ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية. ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار. ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية. وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف. وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع. وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق. وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي. ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا. وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟