لقد كان من الصعب على أحد أن يتخيل في صيف 1945 مع انتهاء الحرب العالمية الثانية أي مشروع سياسي أوروبي موحّد في ظل الخراب الذي لحق بهذه القارة والدمار الذي كانت كثير من المدن الأوروبية تعاني منه. ذلك أن ألمانيا صارت مقسمة بين الاحتلال السوفياتي والحلفاء، وبينما خضعت كيانات شرق أوروبا لسلطة «الدب الروسي» العسكرية سيطرت الولايات المتحدة على أوروبا الغربية. ومن ثم، بدأت عملية إدارة السياسة الدولية تتمحور حول القارة الأوروبية بين أميركيين يرغبون في حفظ الأمن والسلم الغربيين، وأوروبيين يأملون في إيجاد وسيلة تقضي على فرص اندلاع حرب عالمية ثالثة، واتحاد سوفياتي طموح يهدف إلى تغيير البنية السياسية في أوروبا من خلال الاشتراكية والجيش الأحمر.
وبدأت لعبة التوازنات الاستراتيجية والأمنية تسيطر على مجريات القارة الأوروبية، ولم يكن لدى العامة في غرب القارة يومذاك مشروع أممي، بل مجرد أفكار لا تخرج عن الرومانسية السياسية كما تابعنا في الأسبوع الماضي. ولكن في باريس نبتت فكرة «القومية الأوروبية» في ذهن اقتصادي فرنسي متميز هو جان مونيه Monnet، الأب الروحي لـ«القومية الأوروبية» الحديثة ممثلة في الاتحاد الأوروبي. لقد كان منبع فكر مونيه حماية المصالح الفرنسية من خلال التكامل مع ألمانيا، وحقًا خدمت الظروف فكر مونيه وفرنسا بشكل كبير مع انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لقد انقسمت أوروبا عمليًا وآيديولوجيًا إلى شرق اشتراكي وغرب رأسمالي/ ديمقراطي، وسرعان ما باتت الحرب الباردة على الأبواب. وكان الخطر الشيوعي لا يقلّ عن مخاطر أخرى بالنسبة لغرب أوروبا، إذ سعت الحكومات للعمل على الحفاظ على شرعية نظم الحكم فيها وتفعيل المبادئ المرتبطة بهذه الشرعية، وهو ما أوجد هدفًا أوروبيًا - أميركيًا موحدًا يتمثل في ضرورة إنجاح النموذج التنموي الرأسمالي في أوروبا بعد الحرب. وإلى جانب «مشروع مارشال» الشهير لإعادة بناء الاقتصادات في غرب أوروبا، كانت أوروبا بحاجة إلى مشروع آخر لتضافر الجهود الأوروبية، وبالتالي، أصبحت فكرة التكامل قابلة للتنفيذ لحماية المصالح الاقتصادية المشتركة.. شريطة وجود رؤية واضحة بعيدة عن الرومانسية التي طغت على الفكرة «القومية» على مدار العقود السابقة.
فرنسا كانت من أكثر الدول تأثرًا ولا سيما صراعاتها الممتدة مع ألمانيا. ولم يتيسر احتواء التهديد الألماني لفرنسا من خلال «الكسر السياسي» لألمانيا، كما حدث بعد «صلح فرساي» الذي دفع النازية لتوجيه جام غضبها وآلياتها العسكرية لاحتلال فرنسا بمجرد أن سنحت الفرصة. وعليه، كان الهدف إيجاد وسيلة لضمان التنمية الاقتصادية الألمانية والإيطالية في إطار تكاملي مع فرنسا وباقي الدول الأوروبية في الغرب، وهو الإطار الذي كان كفيلاً بنزع فتيل القومية الألمانية المتطرفة التي ظلت متوهجة على مدار قرن من الزمان. ومن ثم كانت هناك ضرورة لتنفيذ المشروع القومي الألماني من خلال مشروع قومي أوروبي يمكن أن يجمع نواة من الدول الأوروبية تمثل قاعدة لانطلاقة مشروع «الفيدرالية» الأوروبية، وهو سيناريو يصب في مصلحة الجميع لا خاسر فيه إلا التطرف وانعدام التنمية والحرب. ولكن بقي السؤال الأهم.. ألا وهو كيفية إتمام هذا المشروع في ظل الظروف السياسية القائمة في أوروبا وسيطرة الولايات المتحدة عسكريًا واقتصاديًا على القارة.
لقد طرحت فرنسا مشروعها بدايةً خلال اجتماعات وزراء خارجية «اتفاقية بروكسل» وشمل فكرة تأسيس برلمان فيدرالي لدول غرب أوروبا من خلال «مجلس أوروبا»، غير أن الفكرة لم ترق لمستوى التنفيذ، إذ اعتبرها الساسة الأوروبيون حلمًا مثاليًا فوقيًا غير منطقي وغير قابل للتنفيذ. كذلك لم يكن هناك ما يكفي من الحوافز التي تجعل الدول تقبل إدارة فيدرالية فوقية تسيطر على مجريات السياسة بينها، خاصة فكرة التنازل عن السيادة - ولو جزئيًا - لم تكن مطروحة. وهكذا فشلت المبادرة الفرنسية ولكن ليس فكرة القومية ذاتها. إذ أدرك مونيه أن المطلوب هو إيجاد سلسلة من الحوافز العملية القادرة على دفع مشروع القومية قدمًا على أن يتحقق على مراحل، وأنه كان يحتاج إلى عنصرين أساسيين: العنصر الأول، النتائج الإيجابية في قطاع ما بما يساهم في الدفع نحو إنجاح التكامل في قطاع آخر في المشروع القومي أو ما يعرف بال Ramification، أما العنصر الثاني فكان مرتبطًا بتقليل جرعة الانتقاص من «السيادة» لدى الدول الأوروبية، فلن تقبل أية دولة بفكرة الانصياع لمؤسسة فوقية تدير أمورها، خاصة وأن الفكر القومي أو الوطني يكون على أشده بعد الحروب.
وعند هذا الحد طرح الفرنسيون مشروعين أساسيين، الأول من رينيه بليفان Plevin الذي تجسد في «الجماعة الأمنية الأوروبية» التي ضمنت نوعًا من الحد الأدنى للدفاع المشترك للدول الأوروبية ولاقت بعض النجاح المحدود للغاية. وفي الوقت نفسه تقريبًا طرح وزير الخارجية الفرنسي روبير شومان (عام 1950) الخطة التي كان مونيه قد صاغها وهي «جماعة الفحم والصلب الأوروبية». وكان لب الفكرة خلق كيان فيدرالي بين ألمانيا وفرنسا لإدارة إنتاج الفحم والصلب، كون هذه الصناعة هي الأساس الاقتصادي لأي إنتاج حربي. وهنا بدأ التكامل بين الفحم والصلب يخلق التكامل بين فرنسا وألمانيا من خلال مشروع يوفر المكاسب المشتركة للدولتين، ويسيطر في نفس الوقت على المُدخل الأول لصناعة الأسلحة من خلال إيجاد سلطة عليا تدير هذا القطاع عبر قوانين منافسة مشتركة وإدارة إنتاج موحّدة والتدخل في التسعير إذا ما لزم الأمر. وكانت الفكرة تدفع نحو أن تكون صناعة الصلب وإنتاج الفحم الأداة الأولى للتكامل الاقتصادي بين الدولتين بمشاركة دول أخرى. ومع أن رئيس الوزراء الألماني كونراد أديناور كان يدرك أن «الجماعة» المطروحة ستفيد فرنسا أكثر من ألمانيا، لكن بُعد نظر هذا السياسي الداهية جعله يقبل الفكرة ويتحمس لها، خصوصا أن ألمانيا كانت مقسمة وكان أديناور يعتقد أن نجاح فكرة التكامل الأوروبي أحد الأدوات السياسية الأساسية التي كانت ستسمح له بتوحيد ألمانيا مستقبلاً. وفعلاً صدق حدس الرجل وتم ذلك لأسباب مختلفة من ضمنها وجود ألمانيا كقوة دفع أساسية في الاتحاد الأوروبي بعد ذلك.
قبل أديناور «خطة» شومان الذي كان قد أعلن عند طرحها أن «جماعة الفحم والحديد» بداية للفيدرالية الأوروبية، وتم التوقيع على اتفاقية إنشاء «جماعة الفحم والصلب» في مايو (أيار) 1951 وانضمت لها ست دول هي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا ولوكسمبورغ وهولندا. ومع أن الولايات المتحدة لم تكن رافضة لهذه الفكرة من الأساس، خصوصًا أنها كانت تدفع نحو تطوير الاقتصاد الأوروبي وإعادة تأهيله، كان لبريطانيا تحفظاتها. فبريطانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية مؤمنة بـ«العلاقة عبر الأطلسية الخاصة» Transatlantic Link مع أميركا على حساب المكوّن الأوروبي. ومعلوم أن بريطانيا - الدولة الجزيرية - بنت سياستها الخارجية تقليديًا على تفتيت القارة الأوروبية سياسيًا. ومن ثم، فهي لم تكن تحبذ فكرة الفيدرالية وإن كانت قد قبلت بفكرة التكامل فقط. كذلك رأت لندن أن الكيان الجديد سيمثل خطرًا على صناعة الصلب البريطانية التي كانت مؤممة وتديرها الدولة. ولذا تباطأت لندن في قبول الفكرة وصارت تماطل في المفاوضات أملاً في وأدها. وساعد على ذلك أن بريطانيا خرجت من الحرب كأقوى اقتصاد نسبي في القارة الأوروبية وكانت فرنسا بالإضافة لحلفائها مدينين لها، وكانت التسويات تجري على أساس ما هو معروف بـ«منطقة الإسترليني Sterling Area»، ومن ثم لم تتحمس كثيرًا لفكرة التوحد في هذا المجال. وعندما أيقن الفرنسيون والألمان أن لندن تماطل، وُضع سقف زمني للمفاوضات، وعندما لم تنجح المفاوضات مع بريطانيا، أعلنت فرنسا وألمانيا تأسيس «الجماعة» على الفور تحت أساس فيدرالي بحت، ولم تعد فرنسا أو ألمانيا أو أي من الدول الأربع الأعضاء قادرة على التحكم في صناعات الصلب أو إنتاج الفحم بمعزل عن الدول الأخرى من خلال إدارة عليا مشتركة لهاتين الصناعتين. وكانت هذه هي بداية القومية الأوروبية ممثلة في الاتحاد الأوروبي، وسرعان ما دفع النجاح في هذا القطاع إلى نجاحات أخرى في قطاعات أخرى إلى أن وصلنا لمحطة الاتحاد الأوروبي كما سنرى.
من التاريخ: التجسيد الأول للقومية الأوروبية
من التاريخ: التجسيد الأول للقومية الأوروبية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة