في فيرغسون، من ضواحي مدينة سنت لويس (ولاية ميزوري)، بدأت التوترات الأخيرة بين السود والشرطة، بعد أن قتل الشرطي الأبيض دارين ويلسون الشاب الأسود مايكل براون. يمر الطريق رقم 70 بمطار سنت لويس، ثم بفيرغسون، ثم يتجه نحو قلب سنت لويس. يتفرع منه الطريق رقم 64. وبعد شارع جفرسون، ثم شارع أوليف، يوجد شارع لوكست. هنا، في البيت رقم 2635 ولد توماس ستيرن إليوت، الذي عرف فيما بعد باسم «تي إس إليوت»، الكاتب والشاعر الأميركي البريطاني، الذي فاز بجائزة نوبل في الأدب، ومؤلف قصائد شهيرة، مثل: «أغنية حب ألفريد بروفروك»، و«الأرض اليباب»، و«الرجال الجوف»، و«أربعاء الرماد».
في ذكرى قتل الشرطي الأبيض للشاب الأسود، أقام طلاب سود في جامعة واشنطن في سنت لويس ندوة بعنوان: «10 أميال بين فيرغسون وشارع لوكست». إنهم طلاب سود ينتمون لجماعة «بلاك لايفز ماتر» (أرواح السود مهمة)، إشارة إلى كثرة قتل السود على أيدي الشرطة.
(من المفارقات أن جد إليوت كان من مؤسسي جامعة واشنطن، وتقع على مسافة ليست بعيدة من البيت الذي ولد فيه إليوت).
كانت الندوة خليطا من تهريج وشتائم، ومن بحوث علمية، وركزت على أن إليوت كان عنصريا. لم يكره السود فقط، بل كره اليهود أيضا. (حتى الآيرلنديين، بعد أن هاجر إلى بريطانيا، ونال الجنسية البريطانية). فقد كتب، كما يقولون، عن «نيغر (زنجي) كله أسنان وضحك»، وعن «عندما صار العبد الزنجي حرا»، وألف قصيدة طويلة عن «بولو»، ملك قبلي في أفريقيا، لا هم له غير صيد النساء. ووصفه بأنه «بريء ولعوب، لكنه قذر جدا». وثانيا، قال عن اليهود: «تظل مجموعة كبيرة من اليهود، بسبب دينهم وعرقهم، غير مرغوب فيها، ولا بد من تحاشي التسامح الكثير معهم».
الدفاع عن إليوت
فيما يخص كراهيته للزنوج، قال كرستوفر ريكز (ألف عن إليوت كتابا): «لم تكن كراهية إليوت للزنوج من أعماقه. كانت من مواضيع كتب عنها». وعن اليهود، قال البريطاني ويليام أمسون: «كان عداء إليوت لليهود مجرد انعكاس للعصر الذي عاش فيه».
2635، شارع لوكست
في الحقيقة، لا يوجد بيت برقم 2635 شارع لوكس، فقد دمر قبل أكثر خمسين عاما. صار مكانا لموقف سيارات. ولا يبدو أن أحدا يعرف لماذا حدث ذلك، أو ربما لأن أحدا لم ينتبه إلى أهمية البيت في ذلك الوقت، بل توجد لافتة تقول: «مكان ميلاد وطفولة تي إس إليوت، ولد عام 1888، وتوفي عام 1965. شاعر، فيلسوف، ناقد أدبي، فائز بجائزة نوبل في الأدب».
ليس هذا الحي من أرقى أحياء سنت لويس، ولا كان كذلك في عهد إليوت. كان يسمى «حي السيارات»، بسبب وجود كثير من محلات بيع وإصلاح السيارات. ورغم أن عائلة إليوت كانت غنية، فإنها سكنت في هذا الحي فترة طويلة.
في وقت لاحق، بعد أن ذهب إليوت إلى جامعة هارفارد (عام 1909)، انتقلت العائلة إلى بيت آخر في حي راق (4446 شارع ويستمنستر). وهذا البيت ما يزال في مكانه حتى اليوم. لكن، طبعا، ليست له الأهمية التاريخية للبيت الذي ولد، وتربي، فيه إليوت.
عندما كان إليوت في هارفارد، عاد كثيرا إلى بيت العائلة. وكتب عن ذكرياته عن البيت، وعن سنت لويس، وعن نهر مسيسبي (يقع على مسافة نصف ميل تقريبا من البيت)، حيث كان يمشى مع أصدقائه، خاصة عندما يفيض النهر، ويكاد يبتلع سنت لويس.
وكتب عن كتاب «رباعيات عمر الخيام» (ترجمها من الفارسية، قبل ميلاد إليوت بعشر سنوات تقريبا، الشاعر والأديب البريطاني إدوارد فتزجيرالد). كان عمر إليوت 14 عاما، قبل أن يذهب إلى جامعة هارفارد، عندما اشترى له والده الرباعيات. قرأها في البيت الذي ولد فيه، وهناك كتب أول قصائده (لم تعجبه، ومزقها). وقال عن الرباعيات: «كانت بالنسبة إلي مثل أن أتحول من دين إلى دين، فجأة. ظهر لي العالم جديدا، ملونا بألوان زاهية، ولذيذة، ومؤلمة».
الهجرة إلى بريطانيا
في عام 1914، ترك إليوت جامعة هارفارد، وذهب إلى جامعة أكسفورد. وبعد أن تخرج منها، بقى في بريطانيا، وتزوج البريطانية فيفيان وود، وفي عام 1927 حصل على الجنسية البريطانية.
في عام 1953 (قبل وفاته بعشر أعوام تقريبا)، عاد إلى سنت لويس لحضور حفل مرور مائة عام على تأسيس جامعة واشنطن (التي أسهم جده في تأسيسها). وكان قد صار مشهورا (نال جائزة نوبل للآداب عام 1948). وألقى خطابا قال فيه: «أحس بسعادة قوية أنني ولدت هنا في سنت لويس. أحس بذلك أكثر مما إذا كنت قد ولدت في نيويورك، أو لندن».
ليس مؤكدا إذا كان زار البيت (او مكان البيت) الذي ولد فيه.
لكن يقال إنه زار مطعم وبار «شلافي» القريب من المكان. يظل «شلافي» في مكانه القديم. وتوجد فيه إشارات إلى إليوت، منها أنه كتب واحدة من قصائده هنا. قال: «كتبتها في ثلاث أرباع ساعة، صباح يوم أحد، بعد أن ذهبت إلى الكنيسة، وقبل الغداء».
ويقال إنه زار «فاونتين شارع لوكست» (محل لبيع الأيس كريم). ومرة أخرى، توجد هنا إشارات إلى إليوت، وإلى أيس كريم مخلوط بجين «بوث»، ومسمى على اسمه.
الأرض اليباب
لم تكن ندوة الشبان والشابات الأميركيين السود عن إليوت كلها نقدا بسبب عنصريته. كانت فيها إشارات إلى بعض قصائده. أشهرها قصيدتان:
أولا: «أغنية حب جوزيف ألفريد بروفروك». وفيها: «بعد الكؤوس، والشاي، ومربة المارماليد. بعد غروب الشمس، وإغلاق الأبواب. بعد الموائد، والفساتين التي تلامس الأرض. بعد هذا، وبعد أكثر من هذا، لا اقدر أن أقول ما أقصد.. ليس هذا هو، ليس هذا ما أقصد».
تتقسم القصيدة إلى خمسة أقسام: «دفن الموتى»، و«لعبة شطرنج»، و«موعظة النار (فلسفات شرقية)»، و«الموت بالماء»، و«صوت الرعد (يوم القيامة)».
وأخيرا، يظل أدباء أميركيون وبريطانيون يتجادلون عن إذا كان إليوت، حقيقة، أميركيا أو بريطانيا. ويقول الأميركيون إنه، حتى مع تحوله إلى الجنسية البريطانية، كانت أسعد سنوات حياته هي التي قضاها في أميركا (في سنت لويس، وفي هارفارد).