تحت عنوان «هذه ليسَتْ حقيبة»، صدر عن منشورات «ملتقى الطرق» بالدار البيضاء، وبدعم من وزارة الثقافة المغربية ومجلس الجالية المغربية بالخارج، كتاب جماعي من إعداد وتحرير الكاتب المغربي المقيم ببروكسل طه عدنان. الكتاب، الذي أسهمَتْ في بلورة فكرته لمّاتٌ أدبية حميمة احتضنتها صالونات بيوت ثلة من مبدعي بلجيكا العرب، هو عبارة عن سرود عربية تدوّن للإقامة تحت سماء بلجيكيّة خفيضة: مؤلّفٌ جماعي عن بلجيكا المتعدّدة، ومحكياتٌ عربية عن أماكن بلجيكية تضيء تجربة المبدع وملامح المكان على حدّ سواء.
هوشنك أوسي (سوريا)، علال بورقية (المغرب)، عماد فؤاد (مصر)، ماجد مطرود (العراق)، الهادي عجب الدور (السودان)، حازم كمال الدين (العراق)، بيسان أبو خالد (فلسطين)، نبيل أكنوش (المغرب)، زهير الجبوري (العراق)، نسمة العكلوك (فلسطين)، علي بدر (العراق)، هشام آدم (السودان)، أسعد الهلالي (العراق)، عبد الله مكسور (سوريا)، خالد كاكي (العراق)، مهند يعقوب (العراق)، وطه عدنان (المغرب): سبعة عشر كاتبا يحفرون تواريخهم الشخصية والمتخيّلة على رقعة الجغرافيا بإزميل الذاكرة ومِنْحَت الخيال. أما النصوص، التي حملت عناوين، حسب توالي كتابها: «قنينة في عرض بحر الشمال»، و«أحوال الصفصاف الباكي،» و«تفضل أيها الغريب»، و«بورخوروكو»، و«صدى الماس»، و«الجثمان الحي،» و«كراسي الأمل»، و«نزيل الغرفة 14»، و«ليلة في فندق أميغو»، و«هي، هو، وغزة»، و«حي السياسيين المنكوبين»، و«بطاريق سان لامبير»، و«آشوري في لييج»، و«نحن أبناء مخيم أيضا»، و«البوق الأحمر»، و«أشباح ديسمبر»، و«مملكة شجرة أعياد الميلاد»، فمرفقة بصور فوتوغرافية حاورت المدائن واشتبكت معها بحريّة فنيّة ولمسة إنسانية حانية وإحساس عالٍ بالمكان من إنجاز الفنان الفوتوغرافي العراقي المقيم ببروكسل كريم إبراهيم، فيما جاءت صورة الغلاف بعدسة الفنان ستار نعمة.
وعن دوافع إنجاز هذا المؤلّف الأدبي، كتب طه عدنان في توطئة للكتاب، حملت عنوان «وطن من كلمات»: «عكس التيار المساعد على تخصيب مشاعر الخوف والكراهية وترويج الأحكام المسبقة، ينبري سبعة عشر كاتبا عربيا للاشتباك مع أسئلة الهجرة واللجوء والعنصرية والتطرّف والإقصاء والتعايش، من خلال محكيات أدبية تراوح بين التسجيل والتخييل لتقارب القضايا الشائكة ضمن سياقاتها السياسية والاجتماعية والنفسية المعقّدة».
وتتوالى المحكيات والسرود على امتداد 222 صفحة حول الكثير من المدن والمناطق البلجيكية، تمّ ترتيبها حسب المنطقة الجغرافية (من الشمال إلى الجنوب): أوستند، بروج، الفلاندر الغربية، أنتوربن، سان تريدن، لوڤن، بروكسل، لييج، بييرزيت، نأمور، شارلروا، الأردين. سرودٌ معاصرة تدوّن للإقامة تحت سماء بلجيكيّة خفيضة. مؤلّفٌ جماعي عن بلجيكا المتعدّدة يرويها كتّابٌ بالعربية من المغرب والعراق وسوريا وفلسطين ومصر والسودان.
«فرغم سنوات الإقامة في هذه البلاد التي ارتضَوْها سكنًا، لم يبرحوا وطن الضاد متفادين ولوج المنفى اللغوي. ربّما نكاية بالحدود اللغوية المستفحلة هنا دونما حاجة إلى جمارك»، يضيف طه عدنان في تقديمه للكتاب: «نصوصٌ تروي تمثلات الهجرة في الوجدان الإبداعي العربي. محكياتٌ عربية عن أماكن بلجيكية، تشكّلُ عنصرًا جوهريًا للسّرد تارة، ومحض ذريعة لحكايات شرقية خالصة تارة أخرى. المهم، أنها تضيء تجربة المبدع وملامح المكان على حدّ سواء. فسواءٌ كان المكان ملجأ أو منفى، مسكنا أو موطنا، تتحدّد العلاقة به عبر أحداث تتنوّع خلالها المسارات وتتباين المصائر. مصائر شخصيات منها المهاجر واللاجئ والعامل والعاطل والطالب والفنّان والمثقف... منها طلاب العيش الكريم وطلاب الموت الرحيم. حكاياتٌ تكشف عن قلقنا وعن ضعفنا، عن عنفنا وعن رقّتنا، عن حلمنا وعن خيبتنا، عن ورطتنا وعن خلاصنا. تعبيرٌ حي عن هويتنا الكامنة في تعدّدها وعن جوهرنا الإنساني بكلّ تناقضاته. كِتَابٌ يمكن قراءتُنا فيه، كما نحن، خارج المساحيق والرّتوشات والأحكام الجاهزة. محاولة لكتابة الوجع عاريًا، دونما استخفافٍ ولا تهويل، وبعيدًا عن كلّ استيهام. فرصة لإعلان المحبة على المكان، للتغلغل داخله بتوجّسٍ حينًا، وبانطلاقٍ أحيانًا، وباقتحامٍ مندفعٍ حين يُسعِف النّزق. ثم إنّ هذا الذي بين أيديكم ليس كتابًا، بل خيمة حميمة نلتفّ داخلها بلا أوهام للتفاوض السلس بشأن المصيري والمستقبلي والمشترك».
وعن ما يكتبه أدباء العربية في بلجيكا، قال عدنان: «قد لا أملك عنوانًا لما يكتبه اليوم أدباء العربية في هذه المملكة الصغيرة المطلّة على بحر الشمال. ولا أهتمّ لمعرفة إن كان أدب هجرة أو منفى، أم أدب إقامة وتوطّن. إذ منهم من هاجر إليها بمحض اختياره، ومنهم من هُجِّر إليها منفيًّا من دياره، ومنهم من طوّح به (الربيع العربي) قسرًا إلى صقيعها طلبًا للأمان. المهم، أن كلاً من هؤلاء (اختار) في النهاية بلجيكا سكنًا أو وطنًا، وتأقلم معها، وأبدع داخلها أدبا يصنّفُ عربيًّا، تمامًا كما يمكن اعتبارُه رافدًا من روافد الأدب البلجيكي المعاصر متعدّد اللغات والثقافات. ربما لا يزعج الأديبَ العربي أن يحمل مدينته معه وأن ينقل وطنه داخل حقيبة. ألم يقل ستاندال إن العرب (أمة لا ديار لها). لن نُخيّب ظنّه حتى بعد زهاء قرنين على رحيله؛ لذا نعيش في بلجيكا حاملين بيتًا من أحلامٍ ووطنًا من كلمات. في النهاية، علينا أن نسكن إلى شيء، إلى اللغة مثلاً. فاللغة، كما قال هايدغر يومًا، مَسْكَنُ الكائن. وإذا كان من الطبيعي أن نكتب بلغة الوطن الأمّ، فَمِن غير اللائق أن نستقلّ المترو كلّ صباح لنكتب عن الرّاحلة والبعير. كما من غير المفهوم أن نحاكي المهجريين والمنفيين القدامى في تباكيهم على الوطن البعيد، في الوقت الذي عملت فيه الإنترنت والمواقع الاجتماعية وبرامج الاتصال عبر الهواتف الذكية وطائرات الشارتر ذات الأسعار الديمقراطية على تبديد هذا الإحساس الفادح بالبعد. خاصة، نحن الذين تنقّلنا في الجغرافيا بسلاسة دون أن نتعرّض يومًا للنّفي من أحد. مع الإقرار بوطأة هذا الشعور العنيف بالاقتلاع من الوطن الذي يعيشه اليومَ أشباهٌ لنا في الحرف والاغتراب بسبب الاحتلال والحرب والتقتيل والتعذيب والتهجير. إذ ليس هناك أقسى من أن يتحوّل الوطن أمام عينيك إلى حطامٍ، ثمّ إلى حقيبة، فذكرى موجعة تفيض بها سرودُ بعض المشاركين في هذا الكتاب».
صورة العربي على مستوى الإبداع والتلقي الغربيين، فضلا عن التفجيرات التي هزت بلجيكا، قبل أشهر، كانت حاضرة في توطئة الكتاب، حيث نقرأ: «صحيحٌ أن صورة العربي تعاني، أدبيًّا، من التعميم الذي يطالها على مستوى الإبداع والتلقّي الغربيين. لكن، هل هذه النظرة النمطية هي نتاج تاريخنا المعاصر فحسب؟ أعتقد أن الحكاية أكثر تعقيدًا. بل أبعد حتى من موجة الهجرة العربية الحديثة إلى الغرب. ففي القرن الثامن عشر، كتب مونتيسكيو في (روح القوانين) بأن العرب (شعبٌ مكوّنٌ من قطّاع الطرق). فولتير أحد رموز فكر الأنوار في فرنسا وأحد المناهضين الكبار لمحاكم التفتيش والحروب الدينية اعتبر بدوره العرب (شعبًا من اللصوص). هؤلاء وغيرهم أسهموا في خلق صورة غربية نمطية ومتعسّفة، حتى قبل أن ترمي سياسات الإقصاء ولا تكافؤ الفرص ببعض المهاجرين وأبنائهم إلى براثن الانحراف. وحتى قبل أن تعمل ماكينات الشر والحقد والتطرّف على استثمار مشاكل البطالة والسكن، في ظلّ الفراغ الفكري والخواء الرّوحي والجفاف العاطفي، لتصنيع قنابل بشرية موقوتة تنفجر بكل جبن في وجه الحياة. فمحض وجود العربي في الفضاء الغربي يُعَدّ نوعًا من «الاقتحام». «اقتحامٌ» يدعو إلى التبرير في معظم الأحيان. تبرير هذا الوجود الطارئ وغير المرغوب فيه تمامًا. وهو أمرٌ يبقى مفهومًا بين طرفين التقيا في ساحة الحرب أول مرّة، قبل أن يجْمعَهُما اليومَ قَدَرُ (التساكن) تحت سماء خفيضة مشتركة».
وحول ما إذا كان هذا الكتاب يأتي لتحسين صورة العرب في بلجيكا، يجيب معدّ ومحرّر الكتاب في توطئته: «نحن لسنا مجبرين على الاعتذار عمّا يقترفه السفهاء منّا. لكن، يمكننا أن نكتب بحرّية لكسر المزيد من التابوهات هنا وهناك. أن نجابه الصور النمطيّة دون إنكار ما تقوم عليه من حقائق أحيانا، ودون الركون إلى تمجيد الذات الذي يفقد الإبداع روحه النقدية القلقة. بمقدورنا أن نقترح مداخل جديدة للفهم عبر دروب الأدب. فلقد أنهكتنا التحاليل المشدودة من شعرها لخبراء لم يَخْبروا شيئا، والناس تحتاج إلى أشياء واضحة لعلّها تفهم. والأدب يقدِّم، ببيان لا يشوبه تبسيط، ما قد يتطلّب من الخبراء الجيوسياسيين الكثير من التقارير المعقّدة؛ لذا يمكن أن نحكي قصصا لا تسبب عسر الفهم. أن نساهم في رواية ذاكرتنا المعاصرة. أن نقدّم صورة واقعية، أو متخيّلة سيان، عنّا وعن هذه المملكة الصغيرة باعتبارها فضاء تخييليًّا غير مطروقٍ كفاية في أدبنا العربي».
الهجرة في الوجدان الإبداعي العربي
مؤلّف جماعي شارك فيه 17 كاتبًا من 6 دول عربية
الهجرة في الوجدان الإبداعي العربي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة