فشلت التجربة البائسة لأول قومية أوروبية مبنية على مفهوم الأممية المسيحية تحت شعار «إله واحد وإمبراطور واحد» فشلاً كاملاً، بسبب ظهور مفهوم الدولة الوطنية أو القومية المبنية على أساس شخص الملك وسيادته على أرضه. وكان ذلك منذ مطالع القرن الثالث عشر في إنجلترا، وتبعتها فرنسا ثم باقي الدول الأوروبية على مر القرون. ومن ثم قسمت أوروبا دولاً مستقلة ذات سيادة بشكل شبه كامل بحلول أواخر القرن السابع عشر، ولقد تابعنا في الأسبوع الماضي تطوّر هذه التجربة الأممية التي سعت الكنيسة الكاثوليكية إلى تطبيقها بكل قوة بالتعاون مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة في وسط أوروبا، رغم وجود الاختلاف في بعض الأحيان بين الكيانين.
ولقد لعبت حركة الإصلاح الديني (المسيحي) الدور الأكبر في هذا الإطار، إذ فتّتت القدرة السياسية للبابا والإمبراطورية على حد سواء، من خلال كسر احتكار الكنيسة لمفهوم تعاليم الدين، وهو ما أدى إلى ظهور حركة معارضة قوية عُرفت باسم «البروتستانتية»، حدّت من السلطة الروحية للبابا، ثم أضعفت «شرعية» المفهوم القومي للأممية الأوروبية ضمن أمور سياسية أخرى. وكانت الحصيلة اندلاع أول حرب أوروبية شبه شاملة في القارة، هي تلك التي عُرفت بـ«حرب الثلاثين سنة»، التي انتهت باتفاقية «صلح وستفاليا» عام 1648. هذه الاتفاقية أقرت مبدأ سيادة الدول، وأن لا سلطة أعلى من الحاكم، أي سيادة الأخير على أراضيه على أساس مبدأ «الرعية على دين ملوكهم» Cuius regio، eius religio.
وهكذا خرجت أوروبا من مفهوم «الأممية» إلى مفهوم «القومية»، أو «الوطنية القُطرية»، وأصبح حلم القومية الأوروبية على أساس أممي مسيحي غير مطروح من الأساس، بل العكس هو الصحيح، إذ سعت القوى الكبرى إلى محاولة الهيمنة على النظام الإقليمي الأوروبي، مما أدخل القارة في حروب ضروس لا حصر لها منذ ذلك التاريخ وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ولكن على الرغم من كل هذه التطورات، حتى أثناء الحروب الدائرة في القارة الأوروبية، كانت هناك أصوات فكرية تنادي بمفهوم «الهوية الأوروبية»، ليس على أساس مفهوم أممي فوقي يُفرض على أوروبا من قبل سلطة دينية متعاونة مع أخرى سياسية، ولكن على أساس البُعدين الثقافي والحضاري للقارة الأوروبية المرتبط بمفهوم «الغرب» (West) ودور أوروبا في صناعته. إذ إن الولايات المتحدة لم تكن خلال هذه الفترة التاريخية قد تطوّرت بعد، بل إن البعض قد يستغرب بشكل كبير أن المسيحية لعبت دورًا محوريًا في تطور هذا المفهوم الأوروبي الجديد، ولكن هذه المرة ليس على أساس سلطة الكنيسة، بل النسيج الثقافي الموحد لغرب أوروبا، باعتباره القاسم المشترك الذي يمكن معه تطوير فكرة أوروبا. والواقع أن دول القارة وإن لم تتكلّم لغة موحدة، فإنها تأثرت تأثرًا كبيرًا بعدد من القواسم المشتركة على رأسها الأصول اللاتينية والهيلينية التي بُنيت عليها، الأولى من خلال القانون الروماني الشهير، والثانية من خلال تطوير الأسس الفكرية اليونانية القديمة على النحو الذي صار واضحًا بعد ذلك.
وعلى الرغم من اندلاع الحروب الأوروبية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فإن بعض المفكّرين، من أمثال فولتير (فرنسوا ماري آرويه) وإدموند بورك وغيرهما، لعبوا دورًا هامًا في صياغة الفكر السياسي الأوروبي. ويلاحظ أن فكرة القومية الأوروبية بدأت تظهر مرة أخرى تدريجيًا على أسس مختلفة عن فكرة الأممية المسيحية، إذ بدأ هؤلاء يطورون تدريجيًا فكرة «الأمة الأوروبية» ويركّزون على المفهوم القومي، مستخدمين المسيحية مصدرًا للبعد الثقافي والإنساني المشترك بين الشعوب الأوروبية، ولكن دون السعي في جعل هذه القومية مشروعًا دينيًا. فعليًا، طلّقت أوروبا الدين من السياسة فكريًا، ثم عمليًا في مرحلة تاريخية لاحقة، ونادى المسيحي الشهير ويليام بن (Penn) بفكرة البرلمان الأوروبي المشترك على أساس وجود أسس مشتركة فرضتها المسيحية على كل معتنقيها في أوروبا. ولعل من المفارقات في هذا الصدد أن «البرلمان الأوروبي»، الذي أصبح يمثل آخر مراحل التكوين القومي للاتحاد الأوروبي، لم يأخذ نصيبه من السلطات السياسية إلا بعد أكثر 4 عقود من نشأة مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
الكاتب الفرنسي الشهير فولتير ركّز على فكرة القومية الأوروبية من خلال وصفه القارة الأوروبية بأنها «جمهورية كبيرة مقسّمة إلى مجموعة دول، إما ملكية أو مختلطة لها جميعًا نفس الأسس الدينية. وهي حتى إن انقسمت إلى مذاهب مختلفة، فهي جميعًا لها نفس مبادئ القانون والسياسة المعروفة لدى الدول الأخرى». وتبعه الكاتب الفرنسي الشهير جان جاك روسو بالتأكيد على أنه لم يعد هناك فرنسي أو إنجليزي أو هولندي.. فقط أوروبي، وحتى رائد الفكر المحافظ «بورك»، أكد أنه لا يمكن لأوروبي أن يكون معزولاً في أي بقعة في أوروبا.
وهكذا انتشرت فكرة «الهوية أو القومية الأوروبية» دون وضع إطار محدد لنشأتها، سواء جغرافيًا أو سياسيًا أو ثقافيًا. فالبعد الجغرافي ظل يداعب الحلم القومي الأوروبي بشكل واضح، خصوصًا بعد ظهور الدولة الروسية القوية ودفع قادتها منذ القيصر بطرس الأكبر إلى القيصرة كاترينا الكبرى بالهوية الأوروبية لهذه الدولة، التي تناقضت بعض الشيء مع الهوية السلافية/ الأرثوذكسية لها. ومع ذلك اعتنق كثير من المفكرين المفهوم السائد والمعروف بمحور الأطلسي - الأورال، أي من المحيط الأطلسي إلى سلاسل جبال الأورال شرقًا، واعتبر حفنة من المفكرين روسيا امتدادًا طبيعيًا لهذا المشروع، بينما رفضه آخرون.
أما من الناحية الثقافية، فإن أي مفكر لم يخلط الواقع بالفكرة. إذ اعتبر الجميع أن أوروبا يمكن صناعتها على الأسس المشتركة المبنية على الهوية المسيحية والقانون الروماني والروح الهيلينية لتمييزها عن الباقي، فقد عبّر الأديب البريطاني الأميركي الشهير ت. إس. إيليوت عن هذا من خلال وصفه الثقافة على اعتبارها «شيئًا حيًا، مثل الشجرة التي لا يمكن بناؤها، ولكن يمكن وضع بذرتها وريها ورعايتها لتصبح شجرة مع مرور الوقت». ووصف المسيحية في أوروبا على أنها الأساس الثقافي وتحتها روافدها المختلفة.
وعلى الرغم من هذا، فإن مفهوم «القومية الأوروبية» دخل في منحنى خطير للغاية على الأقل فكريًا مع دخول القرن العشرين. ذلك أن الأساس المسيحي للآليات الاجتماعية المشتركة بين الشعوب الأوروبية بدأ يهتز بقوة، بسبب ظهور آيديولوجيات جديدة هي النازية والفاشية والشيوعية. وهي ثلاث آيديولوجيات لم تأبه كثيرًا بالهوية الأوروبية أو الهوية المسيحية، خصوصًا الشيوعية التي أعلن مؤسسها صراحة «أن الدين أفيون الشعوب»، وهو ما بات يهدد الإرث والمخزون الثقافي المسيحي داخل القارة الأوروبية ويفتح المجال أمام التكامل أو التوحّد الأوروبي على أساس طبقي مرتبط بالطبقة العاملة أو البروليتاريا.
كذلك لوحظ ظهور رصيد من الأفكار غير المرتبطة بالأساس الثقافي للمسيحية، وعلى الرغم من طرح البعض في فترة ما بين الحربين العالميتين مشروع القومية الأوروبية على أساس أنه المشروع الواقي للقارة الأوروبية من الحروب المدمرة، فإن قوة السلاح ودخان الحروب وبروز الآيديولوجيات الثلاث ترك المنادين بهذا الفكر على هامش الواقع، وبالأخص، مع دخول الحرب العالمية الثانية وبروز الدول السلطوية المرتبطة بالفاشية والنازية. عند هذا الحد فقط أصبحت الأرض ممهدة لفكرة «القومية الأوروبية»، لا سيما أن أوروبا شهدت من الدمار ما لم تشهده في تاريخها الحديث أو القديم، وأصبحت اقتصاداتها في حالة يرثى لها وبنيتها الأساسية شبه منتهية.
واقع الأمر أن أشباح الحروب الكبرى ولّدت قناعة أوروبية بأن الماضي لا يمكن تكراره، ومن ثم ضرورة استشراق مستقبل مبني على فكر جديد يقي القارة الأوروبية ويلات تكرار الحروب، وحقًا وجد الأوروبيون في «القومية الأوروبية» والتكامل الاقتصادي بينهم الضمان الوحيد للسلام. ولكن مشروع الاتحاد الأوروبي لم يكن له خريطة فكرية واضحة المعالم وقوية البنيان وقت انطلاقه، بعكس يومنا هذا الذي تنتشر فيه الرؤى المختلفة في علم التكامل الدولي والإقليمي في العلاقات الدولية والاقتصادية، منها «المدرسة الوظيفية» (Functionalism)، و«الوظيفية الجديدة» (Neo - Functionalism)، ونظرية «المجتمعات الآمنة» (Security Community)، إلخ... وكلها بنيت على خلفية الاتحاد الأوروبي، وأصبحت في أغلبها لاحقة للفكرة وليست سابقة لها، وذلك على عكس الفكر القومي العربي على سبيل المثال، ولكن لهذا الأمر حديث آخر بعد أن نتفقد نشأة وتطور الاتحاد الأوروبي.
من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»
من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة