من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»

من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»
TT

من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»

من التاريخ: الجذور الرومانسية لـ«القومية الأوروبية»

فشلت التجربة البائسة لأول قومية أوروبية مبنية على مفهوم الأممية المسيحية تحت شعار «إله واحد وإمبراطور واحد» فشلاً كاملاً، بسبب ظهور مفهوم الدولة الوطنية أو القومية المبنية على أساس شخص الملك وسيادته على أرضه. وكان ذلك منذ مطالع القرن الثالث عشر في إنجلترا، وتبعتها فرنسا ثم باقي الدول الأوروبية على مر القرون. ومن ثم قسمت أوروبا دولاً مستقلة ذات سيادة بشكل شبه كامل بحلول أواخر القرن السابع عشر، ولقد تابعنا في الأسبوع الماضي تطوّر هذه التجربة الأممية التي سعت الكنيسة الكاثوليكية إلى تطبيقها بكل قوة بالتعاون مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة في وسط أوروبا، رغم وجود الاختلاف في بعض الأحيان بين الكيانين.
ولقد لعبت حركة الإصلاح الديني (المسيحي) الدور الأكبر في هذا الإطار، إذ فتّتت القدرة السياسية للبابا والإمبراطورية على حد سواء، من خلال كسر احتكار الكنيسة لمفهوم تعاليم الدين، وهو ما أدى إلى ظهور حركة معارضة قوية عُرفت باسم «البروتستانتية»، حدّت من السلطة الروحية للبابا، ثم أضعفت «شرعية» المفهوم القومي للأممية الأوروبية ضمن أمور سياسية أخرى. وكانت الحصيلة اندلاع أول حرب أوروبية شبه شاملة في القارة، هي تلك التي عُرفت بـ«حرب الثلاثين سنة»، التي انتهت باتفاقية «صلح وستفاليا» عام 1648. هذه الاتفاقية أقرت مبدأ سيادة الدول، وأن لا سلطة أعلى من الحاكم، أي سيادة الأخير على أراضيه على أساس مبدأ «الرعية على دين ملوكهم» Cuius regio، eius religio.
وهكذا خرجت أوروبا من مفهوم «الأممية» إلى مفهوم «القومية»، أو «الوطنية القُطرية»، وأصبح حلم القومية الأوروبية على أساس أممي مسيحي غير مطروح من الأساس، بل العكس هو الصحيح، إذ سعت القوى الكبرى إلى محاولة الهيمنة على النظام الإقليمي الأوروبي، مما أدخل القارة في حروب ضروس لا حصر لها منذ ذلك التاريخ وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية.
ولكن على الرغم من كل هذه التطورات، حتى أثناء الحروب الدائرة في القارة الأوروبية، كانت هناك أصوات فكرية تنادي بمفهوم «الهوية الأوروبية»، ليس على أساس مفهوم أممي فوقي يُفرض على أوروبا من قبل سلطة دينية متعاونة مع أخرى سياسية، ولكن على أساس البُعدين الثقافي والحضاري للقارة الأوروبية المرتبط بمفهوم «الغرب» (West) ودور أوروبا في صناعته. إذ إن الولايات المتحدة لم تكن خلال هذه الفترة التاريخية قد تطوّرت بعد، بل إن البعض قد يستغرب بشكل كبير أن المسيحية لعبت دورًا محوريًا في تطور هذا المفهوم الأوروبي الجديد، ولكن هذه المرة ليس على أساس سلطة الكنيسة، بل النسيج الثقافي الموحد لغرب أوروبا، باعتباره القاسم المشترك الذي يمكن معه تطوير فكرة أوروبا. والواقع أن دول القارة وإن لم تتكلّم لغة موحدة، فإنها تأثرت تأثرًا كبيرًا بعدد من القواسم المشتركة على رأسها الأصول اللاتينية والهيلينية التي بُنيت عليها، الأولى من خلال القانون الروماني الشهير، والثانية من خلال تطوير الأسس الفكرية اليونانية القديمة على النحو الذي صار واضحًا بعد ذلك.
وعلى الرغم من اندلاع الحروب الأوروبية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فإن بعض المفكّرين، من أمثال فولتير (فرنسوا ماري آرويه) وإدموند بورك وغيرهما، لعبوا دورًا هامًا في صياغة الفكر السياسي الأوروبي. ويلاحظ أن فكرة القومية الأوروبية بدأت تظهر مرة أخرى تدريجيًا على أسس مختلفة عن فكرة الأممية المسيحية، إذ بدأ هؤلاء يطورون تدريجيًا فكرة «الأمة الأوروبية» ويركّزون على المفهوم القومي، مستخدمين المسيحية مصدرًا للبعد الثقافي والإنساني المشترك بين الشعوب الأوروبية، ولكن دون السعي في جعل هذه القومية مشروعًا دينيًا. فعليًا، طلّقت أوروبا الدين من السياسة فكريًا، ثم عمليًا في مرحلة تاريخية لاحقة، ونادى المسيحي الشهير ويليام بن (Penn) بفكرة البرلمان الأوروبي المشترك على أساس وجود أسس مشتركة فرضتها المسيحية على كل معتنقيها في أوروبا. ولعل من المفارقات في هذا الصدد أن «البرلمان الأوروبي»، الذي أصبح يمثل آخر مراحل التكوين القومي للاتحاد الأوروبي، لم يأخذ نصيبه من السلطات السياسية إلا بعد أكثر 4 عقود من نشأة مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
الكاتب الفرنسي الشهير فولتير ركّز على فكرة القومية الأوروبية من خلال وصفه القارة الأوروبية بأنها «جمهورية كبيرة مقسّمة إلى مجموعة دول، إما ملكية أو مختلطة لها جميعًا نفس الأسس الدينية. وهي حتى إن انقسمت إلى مذاهب مختلفة، فهي جميعًا لها نفس مبادئ القانون والسياسة المعروفة لدى الدول الأخرى». وتبعه الكاتب الفرنسي الشهير جان جاك روسو بالتأكيد على أنه لم يعد هناك فرنسي أو إنجليزي أو هولندي.. فقط أوروبي، وحتى رائد الفكر المحافظ «بورك»، أكد أنه لا يمكن لأوروبي أن يكون معزولاً في أي بقعة في أوروبا.
وهكذا انتشرت فكرة «الهوية أو القومية الأوروبية» دون وضع إطار محدد لنشأتها، سواء جغرافيًا أو سياسيًا أو ثقافيًا. فالبعد الجغرافي ظل يداعب الحلم القومي الأوروبي بشكل واضح، خصوصًا بعد ظهور الدولة الروسية القوية ودفع قادتها منذ القيصر بطرس الأكبر إلى القيصرة كاترينا الكبرى بالهوية الأوروبية لهذه الدولة، التي تناقضت بعض الشيء مع الهوية السلافية/ الأرثوذكسية لها. ومع ذلك اعتنق كثير من المفكرين المفهوم السائد والمعروف بمحور الأطلسي - الأورال، أي من المحيط الأطلسي إلى سلاسل جبال الأورال شرقًا، واعتبر حفنة من المفكرين روسيا امتدادًا طبيعيًا لهذا المشروع، بينما رفضه آخرون.
أما من الناحية الثقافية، فإن أي مفكر لم يخلط الواقع بالفكرة. إذ اعتبر الجميع أن أوروبا يمكن صناعتها على الأسس المشتركة المبنية على الهوية المسيحية والقانون الروماني والروح الهيلينية لتمييزها عن الباقي، فقد عبّر الأديب البريطاني الأميركي الشهير ت. إس. إيليوت عن هذا من خلال وصفه الثقافة على اعتبارها «شيئًا حيًا، مثل الشجرة التي لا يمكن بناؤها، ولكن يمكن وضع بذرتها وريها ورعايتها لتصبح شجرة مع مرور الوقت». ووصف المسيحية في أوروبا على أنها الأساس الثقافي وتحتها روافدها المختلفة.
وعلى الرغم من هذا، فإن مفهوم «القومية الأوروبية» دخل في منحنى خطير للغاية على الأقل فكريًا مع دخول القرن العشرين. ذلك أن الأساس المسيحي للآليات الاجتماعية المشتركة بين الشعوب الأوروبية بدأ يهتز بقوة، بسبب ظهور آيديولوجيات جديدة هي النازية والفاشية والشيوعية. وهي ثلاث آيديولوجيات لم تأبه كثيرًا بالهوية الأوروبية أو الهوية المسيحية، خصوصًا الشيوعية التي أعلن مؤسسها صراحة «أن الدين أفيون الشعوب»، وهو ما بات يهدد الإرث والمخزون الثقافي المسيحي داخل القارة الأوروبية ويفتح المجال أمام التكامل أو التوحّد الأوروبي على أساس طبقي مرتبط بالطبقة العاملة أو البروليتاريا.
كذلك لوحظ ظهور رصيد من الأفكار غير المرتبطة بالأساس الثقافي للمسيحية، وعلى الرغم من طرح البعض في فترة ما بين الحربين العالميتين مشروع القومية الأوروبية على أساس أنه المشروع الواقي للقارة الأوروبية من الحروب المدمرة، فإن قوة السلاح ودخان الحروب وبروز الآيديولوجيات الثلاث ترك المنادين بهذا الفكر على هامش الواقع، وبالأخص، مع دخول الحرب العالمية الثانية وبروز الدول السلطوية المرتبطة بالفاشية والنازية. عند هذا الحد فقط أصبحت الأرض ممهدة لفكرة «القومية الأوروبية»، لا سيما أن أوروبا شهدت من الدمار ما لم تشهده في تاريخها الحديث أو القديم، وأصبحت اقتصاداتها في حالة يرثى لها وبنيتها الأساسية شبه منتهية.
واقع الأمر أن أشباح الحروب الكبرى ولّدت قناعة أوروبية بأن الماضي لا يمكن تكراره، ومن ثم ضرورة استشراق مستقبل مبني على فكر جديد يقي القارة الأوروبية ويلات تكرار الحروب، وحقًا وجد الأوروبيون في «القومية الأوروبية» والتكامل الاقتصادي بينهم الضمان الوحيد للسلام. ولكن مشروع الاتحاد الأوروبي لم يكن له خريطة فكرية واضحة المعالم وقوية البنيان وقت انطلاقه، بعكس يومنا هذا الذي تنتشر فيه الرؤى المختلفة في علم التكامل الدولي والإقليمي في العلاقات الدولية والاقتصادية، منها «المدرسة الوظيفية» (Functionalism)، و«الوظيفية الجديدة» (Neo - Functionalism)، ونظرية «المجتمعات الآمنة» (Security Community)، إلخ... وكلها بنيت على خلفية الاتحاد الأوروبي، وأصبحت في أغلبها لاحقة للفكرة وليست سابقة لها، وذلك على عكس الفكر القومي العربي على سبيل المثال، ولكن لهذا الأمر حديث آخر بعد أن نتفقد نشأة وتطور الاتحاد الأوروبي.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.