قراءات الصيف تخلو من الروايات «الأكثر مبيعًا».. ومن الشعر

مصر: السياسة والكلاسيكيات في أعلى القائمة

قراءات الصيف تخلو من الروايات «الأكثر مبيعًا».. ومن الشعر
TT

قراءات الصيف تخلو من الروايات «الأكثر مبيعًا».. ومن الشعر

قراءات الصيف تخلو من الروايات «الأكثر مبيعًا».. ومن الشعر

بعيدا عن صخب الروايات الأكثر مبيعا والضجة التي ترافق الإصدارات الحديثة من الكتب والأعمال الأدبية، تضم قائمة قراءات الصيف لدى الأدباء والكتاب المصريين روائع الأدب العالمي المترجمة وأفضل الروايات العربية التي صدرت في القرن الماضي، وفرضت كتب السياسة والروايات التي تتطرق لحال المجتمعات العربية في زمن الثورات نفسها.

الكاتب منير عامر يعتبر قراءات الصيف فرصة لاستعادة روائع الأدب العربي والغربي، ويقول: «أحب دوما أن أعيد قراءة ماركيز (الحب في زمن الكوليرا)، وقد قرأتها مرات كثيرة لكونها من أفضل الروايات التي عالجت افتقاد الحب والعاطفة في حياة الإنسان. وأعيد أيضا قراءة أعمال ديستوفيسكي خاصة رواية (مذلون مهانون)، فهو بالنسبة إليَّ الكاتب العالم بدواخل النفس البشرية، كما استعيد أعمال الروائي المصري فتحي غانم، فما زلت منذ خمس سنوات أواظب على قراءة أعماله الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. إننا سنجد في أعماله أنه تنبأ بظهور ما يشبه تنظيم داعش قبل وجوده. وأعيد كذلك قراءة رواية (البحث عن وليد مسعود) للروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، وهي رواية تنعش الخيال تعبر عن حالة البحث عن الذات في زمن التيه». وحول قراءته لأعمال كتاب شباب، يقول: «أكون كاذبا لو قلت إنني أتابع أعمالهم؛ لأنني أشعر أنهم هبطوا علينا من فضاء الإنترنت، لكن أحدث ما قرأت كان للروائي عصام يوسف، وهي رواية (ربع جرام)، وهي رواية شديدة الواقعية عن عالم المخدرات في مصر».
الأديبة السورية المقيمة بمصر رولا عبيد تكشف عن قراءاتها هذا الصيف بقولها: «مما قرأت هذا الصيف رواية (الدقل) للكاتب السوري الكبير حنا مينا، وهي تتحدث عن البحر وعالم البحارة وقصص النضال في الساحل السوري أثناء الانتداب الفرنسي على سوريا، ورواية (دمشق يا بسمة الحزن) للكاتبة السورية ألفة الإدلبي التي تصف فيها المجتمع الدمشقي بكل أطيافه الاجتماعية والسياسية أثناء الثورة السورية ضد الانتداب الفرنسي وتتناول بالتفصيل الوضع الاجتماعي الظالم للمرأة على الرغم من أنها كانت مشاركة في عملية النضال السياسي ضد الاستعمار الفرنسي. وقرأت (طواحين بيروت) للكاتب اللبناني توفيق يوسف عواد، وهي تصف الوضع المتأزم سياسيا وطائفيا بين اللبنانيين وتنبئ باندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. كما قرأت رواية (قيس ونيللي) للكاتب المصري محمد ناجي، وهي تدور حول شاب وفتاة يحاولان إيجاد مكان لهما في عالم انهارت فيه كل القيم الإنسانية والأخلاقية وغلب عليه الفساد والمحسوبيات. وأخيرا، قرأت رواية (نابروجادا) للكاتبة المصرية الشابة سلمى أنور، وتتناول فيها قصة امرأة تعمل في مجال حقوق الإنسان، متنقلة من القاهرة إلى الدنمارك للعمل وتقودها الرحلة في نهاية المطاف للتمسك بجذورها المصرية».
أما الروائي مكاوي سعيد فهو يفضل الكتب التاريخية: «التي توثق لحياة وسير الفنانين والسينما والفنون بشكل عام لأنها تنعش الذاكرة»، كما يقبل على قراءة الروايات المترجمة للاطلاع على الحركة الأدبية العالمية، ويقول: «أفضل استعادة كتب العمالقة مرة أخرى ومنهم: يحيى حقي، ويوسف السباعي. أما بالنسبة إلى الروايات الصادرة حديثا فلست ملما بها لكن مؤخرا قرأت (بيت العنكبوت) لمحمد عبد النبي وهي رواية رائعة».
الشاعر والصحافي المصري محمد الحمامصي غلبت الكتب السياسية على قراءاته الأدبية، وهي يبرر ذلك بقوله: «قبل ثورة الـ25 من يناير (كانون الثاني) 2011 كانت اهتماماتي تنصب على قراءة الأعمال الثقافية والفكرية والإبداعية روائية أو شعرية، لكن ما شهدته الساحة العربية من أحداث دفعني لقراءات جديدة لم تحل محل اهتمام قوي، فذهبت إلى الأعمال السياسية والتاريخية والاجتماعية التي ترصد وتحلل السياسات ذات الارتباط بالواقع الحالي وأحداثه الملتبسة سواء كانت محلية أو إقليمية أو عالمية، خاصة تلك التي تبحث في جذور ظاهرة التطرف والإرهاب». ويشير إلى أن قراءاته هذا الصيف تضمنت كتاب «تحولات الخطاب الإسلامي في أفريقيا.. من الصوفية إلى بوكو حرام» للدكتور حمدي عبد الرحمن، أستاذ العلوم السياسية بمعهد دراسات العالم الإسلامي في جامعة زايد بدبي، الذي يرسم صورة بالغة الأهمية بمنهج موضوعي للظاهرة الإسلامية في أفريقيا جنوبي الصحراء، متبنيا رؤية شمولية لفهم بيئة وأنماط هذا الخطاب الإصلاحي والتجديدي، وذلك عبر الزمان والمكان انطلاقا من صوفية الشيخ أحمد بمبا في السنغال، وسلفية عبد الله جومي في نيجيريا، ومرورا بفريد إسحق في جنوب أفريقيا، ومفهوم الحداثة عند حسن الترابي في السودان وانتهاء براديكالية الخطاب الثوري الذي تبنته جماعات إسلامية مثل بوكو حرام والشباب المجاهدين. كما قرأ «أثر الفكر الديني اليهودي والمسيحي على الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي» للباحثة الليبية هدى الفيتوري عبد الرحمن فرحات، التي تقدم رؤية جامعة للفكر الديني في الأديان السماوية، في إطار الأوضاع السياسية وتحليلها على أساس منهج يعتمد إلى حد كبير على الديالكيتك الهيجلي. وقرأ أيضا كتاب د.جورج فريدمان «الإمبراطورية والجمهورية في عالم متغير» الصادر باللغة الإنجليزية عام 2010 وبالعربية هذا العام، الذي يكشف أن نوايا الإدارة الأميركية الحالية في منطقة الشرق الأوسط، التي عمل عليها الرئيس باراك أوباما خلال فترة حكمه حتى الآن وأعرب عن بعضها أخيرا في حديثه لمجلة أتلانيتك، «ليست وليدة مجريات الأحداث الحالية في المشهد الإقليمي أو العالمي، لكنها استراتيجية مكتوبة منذ مطلع الألفية بوضوح سواء فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط أو أوروبا وروسيا والصين واليابان».
أما القاصة انتصار عبد المنعم فهي تفضل قراءة القصص القصيرة في فصل الصيف، فضلا عن تخصيص وقت كبير لكتب الإدارة والتربية والمتعلقة بمجال عملها، ومع ذلك تقول إنها قرأت «عسل النون» لمحمد رفيع، و«الحاج مراد» لسمير الفيل». ومن الكتب المترجمة، قرأت أعمالا لإيزابيل الليندي، وأليف شافاك.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.