تقلص دور الجماعة الإسلامية في باكستان حتى كاد وجودها يتلاشى تمامًا على الساحة السياسية الوطنية في البلاد، بعدما كانت تعد ذات يوم رمزًا للسياسة الإسلامية في باكستان. ولقد تضاءل دور الجماعة الإسلامية في السياسات البرلمانية إلى حد كبير بعد حصولها على أربعة مقاعد فقط في المجلس القومي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لعام 2013، مما يتناقض تمامًا مع نتائج انتخابات 2002 البرلمانية، عندما لمع نجم الجماعة الإسلامية كحزب سياسي بارز معارض لحكومة الرئيس السابق الجنرال برويز مشرف. والحقيقة أنه منذ الانتخابات البرلمانية لعام 2008، جرى تهميش الجماعة الإسلامية كليًا على الساحة السياسية الباكستانية، وبالتالي اختارت الجماعة مقاطعة الانتخابات البرلمانية بحجة أنه لا يمكن إجراء انتخابات عادلة تحت إشراف مشرف.
تسبب موقف الجماعة الإسلامية بمقاطعة الانتخابات في تفكك ائتلاف «متحدة مجلس عمل» المؤلف من ستة أحزاب دينية، نظرًا لرغبة الأحزاب الأخرى بالاتحاد في خوض الانتخابات. ولقد حاولت الجماعة الإسلامية في بادئ الأمر أن تقنع رئيس الوزراء نواز شريف بمقاطعة الانتخابات، ولكنها لم توفق في ذلك.
وفي الآونة الأخيرة، خفت ضوء الجماعة الإسلامية أمام جماعات مسلحة أكثر عنفًا وراديكالية مثل «جيش محمد» و«عسكر طيبة» التي اكتسبت زخمًا بفضل رفعها شعار «تحرير كشمير من الاحتلال الهندي». وأصبحت الأموال الطائلة التي كانت تتلقاها الجماعة الإسلامية من الباكستانيين من أجل «الجهاد في كشمير» تذهب إلى تنظيمات أخرى الآن مثل التنظيمين الراديكاليين «عسكر طيبة» و«جيش محمد».
ومن المثير للاهتمام أن الجماعة الإسلامية لم تعد تستمتع الآن بدورها التقليدي في وسط ولاية البنجاب - كبرى ولايات البلاد من حيث عدد السكان - كحزب بإمكانه التأثير على مواقف حكومة نواز شريف. وشرع المحللون في إسناد ذلك الدور إلى الجماعة الإسلامية، بصفتها حزبًا بمقدور ناخبيه أن يزيد من فرص فوز نواز شريف أو أن يتسبب في خسارة مرشحي الرابطة الإسلامية (حزب شريف) إن لم يدلِ ناخبو الجماعة بأصواتهم لصالحهم، بعد انتخابات عام 1993، عندما خاضت الجماعة الإسلامية الانتخابات منفردة وتسببت في خسارة مرشحي نواز شريف في أكثر من عشرين دائرة انتخابية في البنجاب.
وازدادت الأمور سوءًا في البنجاب بالنسبة للجماعة الإسلامية، إذ يبدو أن الجماعة الآن لم تعد تمتلك تلك القدرة التصويتية الفاعلة. ويرى المحللون السياسيون البارزون أن السياسات التي تتبعها الجماعة هي ما تسبب في تلك الخسارة، إذ يقول عاشر رحمان: «خسرت الجماعة الإسلامية قدرتها التصويتية من خلال السماح لنفسها بأن تكون تابعًا في خدمة الرابطة الإسلامية لفترة طويلة». ويعيد عظيم رندهاو، زعيم الجماعة الإسلامية في مدينة فيصل آباد، صياغة تلك الحقيقة بطريقة مختلفة قائلاً لـ«الشرق الأوسط» في لقاء معه: «اعتاد الناس في السابق أن يقولوا إنه في حال لم تطرح الرابطة الإسلامية والجماعة الإسلامية مرشحين منفصلين، فسوف يفوز حزب الشعب الباكستاني (حزب آل بوتو) في الانتخابات، غير أن الوضع تغير الآن».
في السياسات البرلمانية، قلصت الأحزاب السياسية المركزية مثل الرابطة الإسلامية بقيادة رئيس الوزراء نواز شريف (المعروفة باسم «جماعة نواز) دور الجماعة الإسلامية. وفي آخر دورتين للانتخابات البرلمانية (عام 2013، وعام 2008) برزت الرابطة مكللة بالنصر بشكل جعل من الجماعة شبه غائبة في الانتخابات البرلمانية.
ومن جهة أخرى، تتعرض الجماعة الإسلامية للضغط من الجماعات المتطرفة الأخرى، مثل «عسكر طيبة» و«جماعة الدعوة»، التي أزاحتها من مركز الصدارة من خلال نشاطهم في كفاح كشمير من أجل الحرية. ويقول كثير من المحللين السياسيين إنه وحتى التسعينات من القرن الماضي، كانت الجماعة الإسلامية في صدارة الصراع الكشميري من أجل التحرر من «الاحتلال» الهندي. أما الآن، فتنظيم «عسكر طيبة» هو من يقود الحرب ضد الجيش الهندي في المناطق الواقعة تحت السيطرة الهندية في كشمير. وبالتالي، صار «عسكر طيبة» يستقطب أكثر المساهمات المالية من معظم الباكستانيين العاديين.
الجدير بالإشارة أن الجماعة الإسلامية كانت قد كونت صلات متينة مع الجيش وأجهزة الاستخبارات الباكستانية إبان فترة الجهاد الأفغاني ضد السوفيات (في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي)، عندما كانت الأحزاب الإسلامية في أفغانستان تحارب الاحتلال السوفياتي بالدعم المالي والعسكري من الولايات المتحدة وباكستان وعدد من البلدان الأخرى. ولقد ظلت الجماعة في طليعة الجهاد الأفغاني بحكم صلاتها الوثيقة بالأحزاب الإسلامية في أفغانستان، وعلى رأسها الحزب الإسلامي الأفغاني بقيادة غلبدين حكمتيار والجمعية الإسلامية بقيادة برهان الدين رباني. ولكن، عندما تزايدت الضغوط من قِبل الولايات المتحدة والجيش الباكستاني وتراجعت أجهزة الاستخبارات عن رعاية «الجهاد» في المنطقة، تراجعت حظوظ الجماعة الإسلامية أيضًا.
في مطلع مارس (آذار) 2003، ألقى نحو عشرين من عناصر وكالة الاستخبارات الباكستانية القبض على خالد شيخ محمد، العقل المدبر لهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، في منزل خاص بمدينة روالبندي. وفي الليلة ذاتها، دعت وكالة الاستخبارات الباكستانية مجموعة مختارة من الصحافيين الباكستانيين والصحافيين الأجانب إلى حضور مؤتمر صحافي في مقر الاستخبارات بالعاصمة إسلام آباد، لإبلاغهم بتفاصيل عملية الاعتقال تلك.
كان معظم الحضور من الصحافيين على علم بأن خالد شيخ محمد قد جرى اعتقاله داخل منزل أحمد عبد القدوس، أحد الدعاة الدينيين البارزين في روالبندي، وهو على اتصال وثيق بالجماعة الإسلامية في باكستان، كما كانت أمه إحدى ناشطات الجماعة الإسلامية. وخلال المؤتمر الذي عقدته وكالة الاستخبارات الباكستانية، بدأ الصحافيون في توجيه الأسئلة إلى نائب المدير العام الذي تولى إدارة المؤتمر وكان يُطلع الصحافيين على تفاصيل العملية، حول احتمالية وجود صلة بين الجماعة الإسلامية وتنظيم القاعدة وغيرها من الجماعات الإرهابية. وأجاب قائلاً: «الجماعة الإسلامية بصفتها الحزبية لا تمت بأية صلة لتنظيم القاعدة أو أي من التنظيمات الإرهابية الأخرى». ولكن اتضح أن صلة تنظيم «القاعدة» بالجماعة الإسلامية محل جدل عميق، إذ إن الجماعة الإسلامية تعد الحزب الإسلامي الأكثر آيديولوجية في باكستان، وهو وثيق الصلة بالجيش والاستخبارات الباكستانية، وقد أخرج الكثير من الجماعات المتطرفة من تحت عباءته بدلاً من وكالة الاستخبارات الباكستانية، من أجل القتال في كشمير، كما ساعد الجيش مرتين في تقويض حكومة بي نظير بوتو في التسعينات من القرن الماضي. بيد أن السياسيين المعارضين للجماعة الإسلامية قد زعموا أن الجماعة تولت حماية مقاتلي «القاعدة».
أيضًا شاركت الجماعة الإسلامية بكثافة في «الجهاد» الأفغاني لدرجة أن الأحزاب السياسية العلمانية في باكستان اعتادت أن تتهمها بتنفيذ اللعبة الأميركية وبأنها تتلقى أموالاً من وكالة الاستخبارات المركزي الأميركية (سي آي إيه). بيد أن الروابط التي وثقتها مع الجيش وأجهزة الاستخبارات خلال فترة «الجهاد» الأفغاني لا تزال حاسمة من حيث تحديد وضع الجماعة الإسلامية في الشأن السياسي الداخلي للبلاد. وفي حين بقيت الجماعة دومًا على هامش الساحة الانتخابية السياسية، حيث لم تفز أبدًا بعدد كبير من المقاعد في الانتخابات البرلمانية الباكستانية. وبالتالي، لطالما حاولت التعزيز من مكانتها السياسية وأهميتها في البلاد من خلال تبني القضايا مثل قضية تحرير كشمير من الاحتلال الهندي والدخول في تحالفات سياسية مع القوى السياسية الموالية للجيش.
للعلم، أسست الجماعة الإسلامية كحزب سياسي عام 1941، حينما كانت الهند لا تزال واقعة تحت سيطرة بريطانيا. ولدى مؤسس الجماعة أبو الأعلى المودودي كتابات غزيرة في التعاليم الإسلامية الخاصة بشتى النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مما أضفى طابعًا مثاليًا على نشأة الدولة الإسلامية والمجتمع في باكستان.
إلا أن حزب الجماعة الإسلامية لم يحظ بأي شعبية تذكر في باكستان، فلطالما كانت رسالته محدودة الانتشار. وكانت المرة الوحيدة التي سجلت فيها الجماعة نفسها كلاعب رئيسي في السياسات البرلمانية في باكستان عام 2002 عندما انضمت إلى ستة أحزاب أخرى دينية أخرى لتشكيل ائتلاف «متحدة مجلس عمل» الذي حصل على 58 مقعد في الانتخابات البرلمانية. وتمكنت الجماعة الإسلامية والأحزاب الأخرى للائتلاف من النجاح في الانتخابات البرلمانية يومذاك نظرًا لأن القيادات الشعبية البارزة من أمثال نواز شريف وبي نظير بوتو لم يشاركا في انتخابات 2002 بعد نفيهما خارج البلاد.
وثمة آراء أخرى تذكر أسباب ملموسة للنجاح الذي حققه ذلك الائتلاف في الانتخابات البرلمانية لعام 2002 في باكستان، تفيد بأن الجيش ووكالات الاستخبارات تلاعبوا في نتائج الانتخابات لتمكين الجماعة وحلفائها من الفوز بـ58 مقعدًا في البرلمان. وفي هذا السياق، صاغ الكتّاب السياسيون الباكستانيون عبارة شهيرة واصفين فيها ذلك الرأي بـ«التحالف العسكري المولوي»، ومن ثم أكدت التطورات اللاحقة على وجود الروابط الوثيقة بين الجيش والجماعة الإسلامية. كذلك صوتت جميع الأحزاب السياسية، بما فيها حزب الجماعة الإسلامية، لصالح التعديلات الدستورية الـ17 التي منحت الشرعية والضمانة لتولى الحكم العسكري البلاد في 12 أكتوبر (تشرين الأول) 1999، التي جاءت بالجنرال مشرف إلى السلطة. ومع هذا، فإن الجماعة الإسلامية أبقت الباب مواربًا لعودتها للساحة من خلال الإبقاء على الصلات الوثيقة برئيس الوزراء السابق نواز شريف طيلة الأعوام الثمانية الماضية. ولقد توطدت العلاقات بين الجماعة الإسلامية ونواز شريف بشكل كبير منذ 1988، عندما تآزرا معًا من أجل الإطاحة ببي نظير بوتو من رئاسة الوزراء.
أخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أن لدى الجماعة الإسلامية وجودًا في الهند وبنغلاديش ومناطق كشمير الواقعة تحت سيطرة الهند. وبعد تأسيس دولة باكستان، انقسمت الجامعة إلى قسمين، وهاجر مؤسسها أبو الأعلى المودودي مع لفيف من كبار قادتها البارزين إلى باكستان للالتحاق بالجماعة الإسلامية في باكستان، في حين واصل القسم الآخر من الجماعة الإسلامية عمله في الهند تحت اسم «الجماعة الإسلامية في الهند». وبعد تفكك باكستان وانقسامها إلى قسمين في عام 1971، أنشأت الجماعة وحدة مستقلة في بنغلاديش. ويؤكد شهيد شمسي المتحدث الرسمي باسم الجماعة الإسلامية في باكستان قائلاً إن «الآيديولوجية واحدة وإن تعددت التنظيمات».
«الجماعة الإسلامية» في باكستان.. تحت المجهر
نجحت كحركة فكرية وفشلت كحزب سياسي
«الجماعة الإسلامية» في باكستان.. تحت المجهر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة