من التاريخ: تجربة الأممية الأوروبية الأولى

من التاريخ: تجربة الأممية الأوروبية الأولى
TT

من التاريخ: تجربة الأممية الأوروبية الأولى

من التاريخ: تجربة الأممية الأوروبية الأولى

فتح قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي كثيرا من التكهنات والاستفسارات المشروعة، ليس فقط حول مستقبل بريطانيا، بل الأهم مستقبل مفهوم القومية الأوروبية. فالاتحاد الأوروبي ليس وليد الفكرة الأولى لمفهوم القومية الأوروبية، بل إنه في واقع الأمر التطور الثاني أو الثالث لهذا المفهوم. ويهمنا هنا إبراز التجربة الأولى التي تمثلت في مفهوم «الجمهورية المسيحية».
لقد ارتبط هذا الحلم الذي جسّدته الكنيسة الكاثوليكية وأتباعها وحواريوها بكثير من الكتابات التي تمحورت حول دور المسيحية في لمّ شمل القارة الأوروبية لكي تصبح كيانًا موحدًا أمام الله بالحكم الروحي للإله، ممثلاً في البابوية. وهنا يكون الدين هو عامل القومية الأساسية، خصوصا أن أوروبا لم تكن تتمتع بقوة مركزية، لا سيما في القرن الثامن الميلادي. إذ كانت الخلفية التي توقع باباوات روما (الفاتيكان، حقًا) أن تبنى عليها القومية هي البعد الديني على أساس السلكة الروحية للكنيسة باعتباره ذلك القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع شعوب أوروبا التي لم تكن أقطارها موحدة إثنيًا أو فكريًا أو ثقافيًا. والحقيقة أن القاسم الوحيد الذي يربط مدينة مثل غنت (البلجيكية اليوم) في الشمال وأخرى مثل نابولي (الإيطالية اليوم) في الجنوب هو الانتماء للكنيسة الكاثوليكية. وقد ساهم في هذا الدفع الفكري أيضًا اتباع الكنيسة القانون الروماني الذي مثل قاسما مشتركًا إضافيا توقع معه الباباوات أن يكون الورقة التي سيرسم عليها مفهوم الوحدة.
ولكن ظهور الإمبراطورية الرومانية المقدسة بقيادة الإمبراطور شارلمان الكبير كقوة مركزية شملت أراضي أوروبية شاسعة، وسعي البابا لترسيمه إمبراطورًا عام 800م، فتحا المجال لمفهوم جديد بدأ يظهر وهو «إله واحد وإمبراطور واحد»، أي أن القومية هنا صارت مبنية على مركزية الدولة السياسية للإمبراطورية الجديدة، ومركزية السلطة الروحية ممثلة في البابا والإكليريوس الخاص به في كل الأقطار الأوروبية.
وعلى الرغم من أن العلاقة بين الإمبراطور والبابا شهدت توترات كثيرة، منها عائد إلى سعي الأول للخروج من العباءة الروحية للثاني، فإن هذا التوتر فتح المجال أمام ظهور مفهوم «القُطرية» حين سعى الأمراء والملوك للخروج من عباءة الاثنين معًا، خصوصا بعد عام 1054 عندما حدث الانشقاق بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية على خلفية الخلاف حول طبيعة السيد المسيح ورغبة بابا الفاتيكان في إخضاع كنيسة القسطنطينية لقبضته. هذا أدى إلى تقوية الشراهة السياسية للبابا في بسط سلطته الروحية ومعها بدرجة أقل السياسية على غرب أوروبا.
ولكن حلم الباباوات لم يتحقق بل شهد القرن الحادي عشر خطوات مهمة للغاية لتأكيد سلطة الدولة القُطرية التي تمثلت في نموذجي إنجلترا وفرنسا بالتحديد بعدما ضعف الإمبراطور، وهو ما أدى لظهور فكرة الدولة الوطنية أو مجازًا «القومية». ولعل أحد الأسباب الرئيسية لتسمية الكيان البازغ أنه «وطني» أكثر منه «قومي» هو أن هذه الكيانات لم تكن بالضرورة مبنية على وحدة عرقية أو إثنية، ولا حتى وحدة اللغة. ولكنها كانت في واقع الأمر كيانات وطنية مبنية على الآمال المشتركة للمواطنين على أساس حكم الملك، فضلاً عن الأهداف المشتركة التي بدأت تظهر خصوصًا مع زيادة وتيرة الحروب التي غالبًا ما تستخدم من الساسة في مناسبات كثيرة لتوحيد الصف الداخلي. ويضاف إلى ذلك بداية تطور مفهوم اللغة المشتركة للمواطنين وهو ما أضاف رصيدًا كبيرًا لقوة الدولة الوطنية مع مرور الوقت.
وما يهمنا إبرازه هنا أن فكرة «الوطنية» أو «القومية» في أوروبا لم تولد من الأب والأم الشائعة لهذا المفهوم، أي اللغة المشتركة والوحدة الإثنية، ولكنها الوحدة القومية التي ولدت من أب وحيد هو الملك الشرعي للبلاد ورغبته في الانفراد بالحكم بغير سلطات خارجية أو مؤثرات روحية.
من الطبيعي أن يشعر متابع التاريخ الأوروبي أن الدولة الوطنية تأخرت بعض الشيء في الظهور في أوروبا الغربية، ويرجع ذلك في التقدير إلى عنصرين أساسيين: الأول سلطة البابا المتغولة، والثاني سلطة البارونات أو الإقطاع، والتغلب على هذين العنصرين كان ما أخر هذا التطور.
العنصر الأول فرض على الملوك سلطة روحية امتدت إلى التدخل في قرارات الملوك وتهديدهم بالعزل الكنسي في أسوأ الأمور، فضلاً عن تدخلها في النظام القضائي وإشعارها المواطن أن الملك ليس المنفرد بالحكم مع وجود سلطة روحية مرتبطة بالبابا والكنيسة تعلو عليه. كذلك فقد أصبح للكنيسة دورها في الحصول على أموال الدولة الوطنية من خلال الضرائب الكنسية التي كانت تفرض، التي كانت معفية من أي تدخل سيادي من خلال ما عرف بالـAnnates، ناهيك عن عدم خضوع ممتلكات الكنيسة للضرائب أو حتى سلطة الملك، وهو ما جعلها دولة داخل الدولة.
أما العنصر الثاني فكان الدور السلبي للإقطاع الذي ظل يناطح سلطات الملوك بقوة، فهؤلاء البارونات كانوا أيضًا نموذجًا للدولة داخل الدولة، وسيطرة الملوك عليهم تكاد تكون ضعيفة. ولقد أضعف الصراع الكلي مع البابا والجزئي مع البارونات سلطة الملوك الذين كان هدفهم تقليم أظافر الإقطاع تدريجيًا، خصوصا أن الإقطاعيات كانت تفرض ضرائبها الخاصة على المواطنين أو على التجارة المارة عبر أراضيها، وهو ما يتعارض مع مفهوم مركزية السلطة. ومن ثم خرج ملوك أوروبا من الصراعات الكلية مع البابا والجزئية مع الإقطاع بقوة مركزية جديدة، هي ما قضى على المفهوم الأول للقومية الأوروبية المبنية على الأساس الكاثوليكي وسلطة البابا.
وكالعادة، كانت إنجلترا أول دولة بدأت بكسر المفهوم الأممي السائد في ذلك الوقت، وكان هذا أمرًا طبيعيًا لأسباب جغرافية وتاريخية واجتماعية خاصة بها. فمنذ احتل ويليام الفاتح إنجلترا، سعى هذا الرجل إلى تقليم أظافر الكنيسة ومعها الفكر الأممي، ولذلك فهو لم يترسخ كثيرًا في وجدان المواطن الإنجليزي. والحقيقة أن ويليام هو الذي دفع الإنجليزي نحو وعي وطني مستقل، وساعد في ذلك البعد الجيوسياسي لإنجلترا، الجزيرة بعيدًا عن القارة الأوروبية، وهو ما خفف من وطأة التأثر بالكنيسة وفكرها مقارنة بباقي القارة الأوروبية. ولكن ويليام أضاف أيضًا مفهوم «المركزية» من خلال فرض ولاء البارونات المطلق له منذ بداية حكمه، وهو ما صار عليه نفسه كثير من الملوك من بعده، خصوصا هنري الثاني الذي وحد النظام الإداري والقانوني للدولة الإنجليزية. ولكن أهم ما فعله هذا الملك - أي هنري - في تقديري لخدمة مفهوم الوطنية كان إنشاء الجيش الوطني الموحّد للبلاد، الذي هو العمود الأساسي لأي دولة وطنية. وساهم هذا في إشباع الفكر الوطني لدى الدولة والمواطن الإنجليزي على حد سواء، وبدأت إنجلترا تأخذ الشكل المختلف لها مع مرور الوقت، خصوصا بعد حكم الملك إدوارد الأول الذي ساهم في تقليم أظافر الباباوات بإلغاء المحاكم البابوية الخارجة عن سلطة الدولة المركزية التي تسيطر على القضاء بها. كما أنه أوقف تدفق أموال الكنيسة من بلاده إلى روما، وهو ما مهد للاستقلال الروحي شبه الكامل من سلطة البابوية الذي أتى بسلاسة مع خلاف هنري الثامن والكنيسة وإعلانه الكنيسة الإنجليكية الموحّدة في 1534م بعد رفض البابا طلاقه، فأخذ الرجل الدين بيده وعين نفسه رئيسًا للكنيسة ولم يأبه كثيرًا بقرارات العزل الكنسي وغيرها من أدوات البابا، وفرض على إنجلترا كنيسته التي يتحكم فيها.
أما في فرنسا، فقد دخل الملوك في صراعات واسعة النطاق مع البابا، خصوصا فيليب الثاني ولويس التاسع وفيليب العادل، فقد قلموا أظافر البابا تدريجيًا إلى الحد الذي وصل للصدام المباشر مع الأخير الذي دفع البابا بونيفاس لعزله كنسيًا فرد عليه فيليب باحتلال الفاتيكان والتطاول عليه، ما دفعه للهروب من روما والاختباء وموته متأثرًا بإهانته سياسيا وتحقير شأنه روحيًا. واستمرت الصراعات إلى أن أخضع ملوك فرنسا البلاد لقوتهم الموحدة، ولكن الدولة الوطنية تأخرت بشكل كبير لقربها من مجريات الأمور في القارة الأوروبية ومن الفاتيكان من ناحية، إضافة إلى موجة التوتر السياسي المتولد عن حركة الإصلاح الديني التي ضربت فرنسا بقوة لقرابة قرن كامل من الزمان.
واقع الأمر أن حلم القومية الأوروبية المبني على مشروع الأممية المسيحية تم تدميره من الداخل وليس الخارج. وهذا التدمير جاء على مراحل وكان السبب الأساسي والأكبر في دماره ظهور مفهوم الدولة الوطنية التي ترسخت في أذهان المواطن الأوروبي، خصوصا في إنجلترا وفرنسا. ولكن مع ذلك ظل البابوات بالتضامن مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة يسعون لإحياء هذا المفهوم القومي على أساس ديني وسلطة البابا.
هذا انتهى فعليًا في القرن السابع عشر بعد ظهور حركة الإصلاح الديني لمواجهة الفساد الكنسي التي استغلها الأمراء في صراعهم مع الإمبراطور لكسر آخر معاقل الفكر الأممي الديني في أوروبا، خصوصا بعد حرب الثلاثين سنة، التي انتهت باتفاقية وستفاليا عام 1648. هذه الاتفاقية رسخت مفهوم سيادة الملوك والأمراء على أراضيهم، وجعلت المذهب الديني على تبعية الملوك وليس البابا والإمبراطور، تاركة أوروبا لأحضان الدولة الوطنية المنعزلة بقيادة الملوك. ولكن مع ذلك بدأ الفكر القومي الأوروبي يأخذ منحى جديدًا يمكن اعتباره أساسا روحيا أو رومانسيا لحلم الاتحاد الأوروبي، كما سنتابع في الأسابيع المقبلة.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».