فتح قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي كثيرا من التكهنات والاستفسارات المشروعة، ليس فقط حول مستقبل بريطانيا، بل الأهم مستقبل مفهوم القومية الأوروبية. فالاتحاد الأوروبي ليس وليد الفكرة الأولى لمفهوم القومية الأوروبية، بل إنه في واقع الأمر التطور الثاني أو الثالث لهذا المفهوم. ويهمنا هنا إبراز التجربة الأولى التي تمثلت في مفهوم «الجمهورية المسيحية».
لقد ارتبط هذا الحلم الذي جسّدته الكنيسة الكاثوليكية وأتباعها وحواريوها بكثير من الكتابات التي تمحورت حول دور المسيحية في لمّ شمل القارة الأوروبية لكي تصبح كيانًا موحدًا أمام الله بالحكم الروحي للإله، ممثلاً في البابوية. وهنا يكون الدين هو عامل القومية الأساسية، خصوصا أن أوروبا لم تكن تتمتع بقوة مركزية، لا سيما في القرن الثامن الميلادي. إذ كانت الخلفية التي توقع باباوات روما (الفاتيكان، حقًا) أن تبنى عليها القومية هي البعد الديني على أساس السلكة الروحية للكنيسة باعتباره ذلك القاسم المشترك الوحيد الذي يجمع شعوب أوروبا التي لم تكن أقطارها موحدة إثنيًا أو فكريًا أو ثقافيًا. والحقيقة أن القاسم الوحيد الذي يربط مدينة مثل غنت (البلجيكية اليوم) في الشمال وأخرى مثل نابولي (الإيطالية اليوم) في الجنوب هو الانتماء للكنيسة الكاثوليكية. وقد ساهم في هذا الدفع الفكري أيضًا اتباع الكنيسة القانون الروماني الذي مثل قاسما مشتركًا إضافيا توقع معه الباباوات أن يكون الورقة التي سيرسم عليها مفهوم الوحدة.
ولكن ظهور الإمبراطورية الرومانية المقدسة بقيادة الإمبراطور شارلمان الكبير كقوة مركزية شملت أراضي أوروبية شاسعة، وسعي البابا لترسيمه إمبراطورًا عام 800م، فتحا المجال لمفهوم جديد بدأ يظهر وهو «إله واحد وإمبراطور واحد»، أي أن القومية هنا صارت مبنية على مركزية الدولة السياسية للإمبراطورية الجديدة، ومركزية السلطة الروحية ممثلة في البابا والإكليريوس الخاص به في كل الأقطار الأوروبية.
وعلى الرغم من أن العلاقة بين الإمبراطور والبابا شهدت توترات كثيرة، منها عائد إلى سعي الأول للخروج من العباءة الروحية للثاني، فإن هذا التوتر فتح المجال أمام ظهور مفهوم «القُطرية» حين سعى الأمراء والملوك للخروج من عباءة الاثنين معًا، خصوصا بعد عام 1054 عندما حدث الانشقاق بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية على خلفية الخلاف حول طبيعة السيد المسيح ورغبة بابا الفاتيكان في إخضاع كنيسة القسطنطينية لقبضته. هذا أدى إلى تقوية الشراهة السياسية للبابا في بسط سلطته الروحية ومعها بدرجة أقل السياسية على غرب أوروبا.
ولكن حلم الباباوات لم يتحقق بل شهد القرن الحادي عشر خطوات مهمة للغاية لتأكيد سلطة الدولة القُطرية التي تمثلت في نموذجي إنجلترا وفرنسا بالتحديد بعدما ضعف الإمبراطور، وهو ما أدى لظهور فكرة الدولة الوطنية أو مجازًا «القومية». ولعل أحد الأسباب الرئيسية لتسمية الكيان البازغ أنه «وطني» أكثر منه «قومي» هو أن هذه الكيانات لم تكن بالضرورة مبنية على وحدة عرقية أو إثنية، ولا حتى وحدة اللغة. ولكنها كانت في واقع الأمر كيانات وطنية مبنية على الآمال المشتركة للمواطنين على أساس حكم الملك، فضلاً عن الأهداف المشتركة التي بدأت تظهر خصوصًا مع زيادة وتيرة الحروب التي غالبًا ما تستخدم من الساسة في مناسبات كثيرة لتوحيد الصف الداخلي. ويضاف إلى ذلك بداية تطور مفهوم اللغة المشتركة للمواطنين وهو ما أضاف رصيدًا كبيرًا لقوة الدولة الوطنية مع مرور الوقت.
وما يهمنا إبرازه هنا أن فكرة «الوطنية» أو «القومية» في أوروبا لم تولد من الأب والأم الشائعة لهذا المفهوم، أي اللغة المشتركة والوحدة الإثنية، ولكنها الوحدة القومية التي ولدت من أب وحيد هو الملك الشرعي للبلاد ورغبته في الانفراد بالحكم بغير سلطات خارجية أو مؤثرات روحية.
من الطبيعي أن يشعر متابع التاريخ الأوروبي أن الدولة الوطنية تأخرت بعض الشيء في الظهور في أوروبا الغربية، ويرجع ذلك في التقدير إلى عنصرين أساسيين: الأول سلطة البابا المتغولة، والثاني سلطة البارونات أو الإقطاع، والتغلب على هذين العنصرين كان ما أخر هذا التطور.
العنصر الأول فرض على الملوك سلطة روحية امتدت إلى التدخل في قرارات الملوك وتهديدهم بالعزل الكنسي في أسوأ الأمور، فضلاً عن تدخلها في النظام القضائي وإشعارها المواطن أن الملك ليس المنفرد بالحكم مع وجود سلطة روحية مرتبطة بالبابا والكنيسة تعلو عليه. كذلك فقد أصبح للكنيسة دورها في الحصول على أموال الدولة الوطنية من خلال الضرائب الكنسية التي كانت تفرض، التي كانت معفية من أي تدخل سيادي من خلال ما عرف بالـAnnates، ناهيك عن عدم خضوع ممتلكات الكنيسة للضرائب أو حتى سلطة الملك، وهو ما جعلها دولة داخل الدولة.
أما العنصر الثاني فكان الدور السلبي للإقطاع الذي ظل يناطح سلطات الملوك بقوة، فهؤلاء البارونات كانوا أيضًا نموذجًا للدولة داخل الدولة، وسيطرة الملوك عليهم تكاد تكون ضعيفة. ولقد أضعف الصراع الكلي مع البابا والجزئي مع البارونات سلطة الملوك الذين كان هدفهم تقليم أظافر الإقطاع تدريجيًا، خصوصا أن الإقطاعيات كانت تفرض ضرائبها الخاصة على المواطنين أو على التجارة المارة عبر أراضيها، وهو ما يتعارض مع مفهوم مركزية السلطة. ومن ثم خرج ملوك أوروبا من الصراعات الكلية مع البابا والجزئية مع الإقطاع بقوة مركزية جديدة، هي ما قضى على المفهوم الأول للقومية الأوروبية المبنية على الأساس الكاثوليكي وسلطة البابا.
وكالعادة، كانت إنجلترا أول دولة بدأت بكسر المفهوم الأممي السائد في ذلك الوقت، وكان هذا أمرًا طبيعيًا لأسباب جغرافية وتاريخية واجتماعية خاصة بها. فمنذ احتل ويليام الفاتح إنجلترا، سعى هذا الرجل إلى تقليم أظافر الكنيسة ومعها الفكر الأممي، ولذلك فهو لم يترسخ كثيرًا في وجدان المواطن الإنجليزي. والحقيقة أن ويليام هو الذي دفع الإنجليزي نحو وعي وطني مستقل، وساعد في ذلك البعد الجيوسياسي لإنجلترا، الجزيرة بعيدًا عن القارة الأوروبية، وهو ما خفف من وطأة التأثر بالكنيسة وفكرها مقارنة بباقي القارة الأوروبية. ولكن ويليام أضاف أيضًا مفهوم «المركزية» من خلال فرض ولاء البارونات المطلق له منذ بداية حكمه، وهو ما صار عليه نفسه كثير من الملوك من بعده، خصوصا هنري الثاني الذي وحد النظام الإداري والقانوني للدولة الإنجليزية. ولكن أهم ما فعله هذا الملك - أي هنري - في تقديري لخدمة مفهوم الوطنية كان إنشاء الجيش الوطني الموحّد للبلاد، الذي هو العمود الأساسي لأي دولة وطنية. وساهم هذا في إشباع الفكر الوطني لدى الدولة والمواطن الإنجليزي على حد سواء، وبدأت إنجلترا تأخذ الشكل المختلف لها مع مرور الوقت، خصوصا بعد حكم الملك إدوارد الأول الذي ساهم في تقليم أظافر الباباوات بإلغاء المحاكم البابوية الخارجة عن سلطة الدولة المركزية التي تسيطر على القضاء بها. كما أنه أوقف تدفق أموال الكنيسة من بلاده إلى روما، وهو ما مهد للاستقلال الروحي شبه الكامل من سلطة البابوية الذي أتى بسلاسة مع خلاف هنري الثامن والكنيسة وإعلانه الكنيسة الإنجليكية الموحّدة في 1534م بعد رفض البابا طلاقه، فأخذ الرجل الدين بيده وعين نفسه رئيسًا للكنيسة ولم يأبه كثيرًا بقرارات العزل الكنسي وغيرها من أدوات البابا، وفرض على إنجلترا كنيسته التي يتحكم فيها.
أما في فرنسا، فقد دخل الملوك في صراعات واسعة النطاق مع البابا، خصوصا فيليب الثاني ولويس التاسع وفيليب العادل، فقد قلموا أظافر البابا تدريجيًا إلى الحد الذي وصل للصدام المباشر مع الأخير الذي دفع البابا بونيفاس لعزله كنسيًا فرد عليه فيليب باحتلال الفاتيكان والتطاول عليه، ما دفعه للهروب من روما والاختباء وموته متأثرًا بإهانته سياسيا وتحقير شأنه روحيًا. واستمرت الصراعات إلى أن أخضع ملوك فرنسا البلاد لقوتهم الموحدة، ولكن الدولة الوطنية تأخرت بشكل كبير لقربها من مجريات الأمور في القارة الأوروبية ومن الفاتيكان من ناحية، إضافة إلى موجة التوتر السياسي المتولد عن حركة الإصلاح الديني التي ضربت فرنسا بقوة لقرابة قرن كامل من الزمان.
واقع الأمر أن حلم القومية الأوروبية المبني على مشروع الأممية المسيحية تم تدميره من الداخل وليس الخارج. وهذا التدمير جاء على مراحل وكان السبب الأساسي والأكبر في دماره ظهور مفهوم الدولة الوطنية التي ترسخت في أذهان المواطن الأوروبي، خصوصا في إنجلترا وفرنسا. ولكن مع ذلك ظل البابوات بالتضامن مع الإمبراطورية الرومانية المقدسة يسعون لإحياء هذا المفهوم القومي على أساس ديني وسلطة البابا.
هذا انتهى فعليًا في القرن السابع عشر بعد ظهور حركة الإصلاح الديني لمواجهة الفساد الكنسي التي استغلها الأمراء في صراعهم مع الإمبراطور لكسر آخر معاقل الفكر الأممي الديني في أوروبا، خصوصا بعد حرب الثلاثين سنة، التي انتهت باتفاقية وستفاليا عام 1648. هذه الاتفاقية رسخت مفهوم سيادة الملوك والأمراء على أراضيهم، وجعلت المذهب الديني على تبعية الملوك وليس البابا والإمبراطور، تاركة أوروبا لأحضان الدولة الوطنية المنعزلة بقيادة الملوك. ولكن مع ذلك بدأ الفكر القومي الأوروبي يأخذ منحى جديدًا يمكن اعتباره أساسا روحيا أو رومانسيا لحلم الاتحاد الأوروبي، كما سنتابع في الأسابيع المقبلة.
من التاريخ: تجربة الأممية الأوروبية الأولى
من التاريخ: تجربة الأممية الأوروبية الأولى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة