«وحيد القرن».. الدخول للرواية من باب المسرح

القضابي يخوض مغامرة تجريب جديرة بالاهتمام

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«وحيد القرن».. الدخول للرواية من باب المسرح

غلاف الرواية
غلاف الرواية

ربما لا تكون هي التجربة الأولى في المزج بين أنواع مختلفة من السرد، وربما اعتدنا على توظيف تلك الأنواع داخل النص الروائي، مثل الشعر والأغنية وغيرهما. ناهيك عن «التناص» بوصفه آلية مراوغة وجدت طريقها إلى النص الأدبي، وأثرته على المستويين الخاص والعالم، وربما سمعنا عن مصطلح «المسرح داخل المسرح»، لكننا هنا نواجه سردا روائيا يتخفى في غلالة «مونودراما»، دونما إحساس بغرابة نوع عن الآخر.. وربما مال السرد وانحرف إلى الكتابة التاريخية في بعض منه.. تلك هي رواية «وحيد القرن» للروائي أحمد عادل القضابي، الصادرة حديثا عن دار «ابن رشد» بالقاهرة، التي نحت إلى هذا كله، وامتازت بلغة سلسة استطاعت تحقيق قدر من الانسجام بين مختلف ما سبق وصناعة مادة سردية ثرية وشائقة، ذلك لأنها خاضت مغامرة التجريب بين كل هذه الأنواع.
اللافت أن هذا الأسلوب فرض في الكتابة السردية طريقة ما في التناول واستراتيجية مختلفة في القراءة، تحتاج تدريبا على قراءة النصوص في مظانها، ونسبتها إلى أنواعها المعروفة، مثل الوعي بالفرق بين النص الروائي والنص الدرامي (المسرحي). ويبدو أن نص «وحيد القرن» يدفعنا إلى الاطلاع على كل هذه الأنواع في لحظة زمنية واحدة، ويدفعنا أيضا إلى التمرس على كيفية قراءتها، وكذلك التسلح بأدوات نقدية أوسع وأشمل من التخصص في النوع الواحد، فالناقد الأدبي ليس هو الناقد المسرحي أو السينمائي، وربما الأخيران لا غنى عنهما في التوسل بالأدب عامة والرواية خاصة.
وإذا كان هذا المدخل هو التكئة المناسبة لقراءة النص، فإننا يجب أن نحذر من الافتتان بالتنوع ونحتاط من الإغراء بسرعة وسهولة الانتقال بين الأنواع المتباينة التي تنتمي إلى حقول ربما تكون متباعدة، ومرهقة في تجاورها للحد الذي يجعلنا نكرر عملية القراءة مرات، في محاولة الوصول إلى غاية النص، وإذا كانت تلك الغاية بعيدة المنال مع النص الواحد في النوع الواحد، فكيف يكون الأمر مع نص غامر بالإبحار في محيط هذا التنوع والاختلاف.
وعلى الرغم من أن النهج الذي اتخذه النص سبيلا في تشكله مشوق، فإنه فرض زيادة حجم النص، حيث إنه في محتواه ربما كان في غنى عن كثير من هذا الكم في عدد الأوراق لتوصيل رسالته - إذا اعتبرنا أن النص رسالة تحمل مضمونا - وإنه إذ يفرض علينا آلية ما في تشكله، فإنه كان عليه أن يحذر من الانصياع والانجراف وراء هذه الآلية؛ مما أثر على تماسك بنيته وصلابتها. لكن مع ذلك يخوض النص عملية تجريب سردية جديرة بالاهتمام والمناقشة.
ومن ثم «وحيد القرن» نص روائي يتوسل إلى قارئه بارتياد مدارج متعددة من السرود ما بين رواية ورواية داخل الرواية، ورواية ومسرحية داخل الرواية، ورواية وتدوين يوميات، وما بين هذا وذاك ينتقل من ضمير سارد إلى ضمير متكلم إلى ضمير غائب، مما دفعه إلى تداخل الأصوات بحسب تداخل الأنواع المختلفة، ومما دفع أيضا إلى بذل كثير من الجهد على مستوى الصياغة والقراءة معا، فعملية الفهم لا تكتمل إلا بزيادة الطاقة الذهنية المبذولة في القراءة، وربما لا تقل كثيرا عن عملية الطاقة المبذولة في الصياغة، مما أشكل عملية التلقي، التي تزداد تعقيدا بالتوازيات الكثيرة التي يتمثلها النص لخلق عدة معادلات موضوعية تنعكس بعضها على بعض، حيث إن حياة قطيع وحيد القرن الذي يحيا داخل الغابة تعد معادلا موضوعيا لحياة جماعة الطلبة في الجامعة الذين يمثلون معظم الشخصيات الرئيسية في النص، ويبدو ذلك جليا في عقد تشابه متعمد بين اسمي البطلين - وحيد القرن المهزوم ووحيد الإنسان - وحالة التمرد على القطيع والإحساس بالذات المتفردة (أزمة النص الكبرى)؛ الأمر الذي أدى بكل منهما إلى مواجهة مصيره وتحمل عاقبة خروجهما على حياة القطيع - الجماعة، وانتهى بوحيد القرن المهزوم إلى قفص بحديقة حيوان الجيزة، وبوحيد الإنسان إلى الانتكاس في تصوره أنه وحيد قرن حيوان بالفعل ضل طريقه إلى الجماعة البشرية.
يبدأ النص برصد رحلة جماعة وحيد القرن في الغابة الباحثة عن الماء والطعام، مع بعض التفاصيل عن حياة هذه الجماعة، ثم انتقال سريع إلى وحيد (الشخصية الرئيسية) الذي يعلن تمرده على حياته السابقة فور استيقاظه من النوم مع بداية القرن الجديد. ثم تمرد وحيد القرن المهزوم على جماعته. هنا يكشف النص بداية عن استراتيجية أساسية في بنيته السردية يمكننا أن نسميها المعادل الموضوعي، التي تؤكد وجودها في مواضع مختلفة؛ قطيع وحيد القرن في مقابل قطيع البشر (مجموعة الطلبة وحيد وعطوة وإلهام وسها الذين يمثلون معظم الشخصيات الرئيسية في النص)، نجلاء الممثلة في مقابل سعاد (الشخصية التي تقوم عليها الرواية داخل الرواية).. إلخ، تلك هي الجدلية القائمة بين المتن والهامش طوال عملية السرد.
ويحاول النص الكشف عن العلاقات القائمة في البنية الاجتماعية التي هي أشبه بالعلاقات القائمة في جماعة وحيد القرن الحيوان، في انسحاق تام للذات وذوبان الفرد في الجماعة، مما يقضي على الخصوصية الفردية والحؤول بين الذات وتحقيق تمايزها، ولا يفوت النص أن يفرد لذلك خلفية سياسية فرضت على الجماعة هذا الشكل في التعايش، ليتحول الفرد إلى جزء من القطيع لا يشعر بقيمته وغير قادر على الإنجاز. وبالتالي تشبه رؤيته في العمل والجنس والحب.. إلخ، حياة القطيع الذي يسير في الغابة من أجل البقاء، تلك المسيرة التي تتنافى مع التقدم والتطور والتحضر، بل تصبح عاجزة عن إدراك هدفها الأكبر في الرقي والسمو الإنساني. ومتى انتفت تلك القيم في حياة الفرد فإنه يصبح مجرد رقم في القطيع.
يعالج النص في أحد وجوهه موضوع الجنس كهاجس يتحول إلى آلية انتقامية أو تعويضية يلجأ إليها الإنسان حينما تغيب الرؤية المستقبلية ويجد نفسه مشوشا سياسيا واجتماعيا.. وفي تصور النص فإن الإنسان في هذا الظرف يتحول إلى فرد في جماعة تحيا حياة القطيع فينحرف سلوكه الغرائزي ويخرج عن إطاره الاجتماعي المنظم، وعندما يعجز عن تفسير سلوكه غير المقنن فإن التنازل عن فرديته وتمايزه هو المصير المنتظر. يمكن مقاربة ذلك المفهوم من خلال مراجعة علاقة وحيد بإلهام وسها، والخلط في التناول بين الحب والغريزة الجنسية.
كذلك اتسم الجانب السياسي في النص بوحدوية الرؤية (أفكار وحيد السياسية) في محاولة لإضفاء خلفية سياسية تنعكس على انهيار الأفراد.. لكنه لا يعبر عن وجهات نظر شخصيات النص، خصوصا حول أكثر الرموز جدلا في التاريخ المصري المعاصر (السادات)، لارتباطه الزمني بإسرائيل وما اتخذه من خطوات نحو ما يسمى السلام المزعوم، لكنه لم يضع تلك الآراء موضع نقاش وخلاف يعبر عن الذوات الفردية، لأن هذه الشخصيات وليدة تلك الفترة التاريخية على اختلاف ثقافتها وأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية.. لماذا أُهمل هذا الجزء؟! ولماذا وضع لمجرد طرح قناعات وحيد فقط في مثل هذه القضايا؟ فما رأي عطوة في السادات؟ وما رأي إلهام وسها؟ وما قناعات نجلاء؟
وفي فصل «الوحدة» نجد علاقة وحيد بـ«عاطف» عبارة عن مجرد حوار لإبراز رأي وحيد السياسي، لكن عاطف شخصية ليس لها ملامح في النص ولا هي صوت يعلن عن رؤية محددة. لقد وُجد ليحكي فصلا من تاريخ جماعة الإخوان، لذلك يسهل انتزاع هذا الجزء دون تأثير يذكر على بنية النص.
وعلى أي حال، فإن النص يطمع في مبناه لتذويب الأنواع الأدبية في بوتقة سردية لا تخلو من متعة.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.