لا يزال زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر يمثل أزمة مستمرة للحكومات العراقية منذ عام 2003 حتى اليوم. فهذا الزعيم الشيعي، الذي ورث الزعامة الدينية - السياسية من والده المرجع الشيعي محمد محمد صادق الصدر الذي اغتيل في عهد النظام العراقي السابق عام 1999، يبدو مختلفا من حيث الطروحات والتوجهات التي تحكم الغالبية العظمى من رجال الطبقة السياسية، ممن حكموا العراق بعد الغزو الأميركي لهذا البلد عام 2003.
فبالإضافة إلى كونه يمثل إرثا شعبيا كبيرا، يضم أكثر الطبقات المسحوقة في المجتمع العراقي، فإنه لم يغادر العراق حتى بعد مقتل والده، ولذلك فإنه يجعل لنفسه ميزة عن سواه من رجال الطبقة السياسية وكثيرين من رجال الدين بأنه لم يأت على ظهور الدبابات الأميركية.
وبينما اتهم هو وأنصاره بالضلوع في مقتل رجل الدين الشيعي البارز عبد المجيد الخوئي، نجل أحد أكبر مراجع الشيعة في القرن العشرين (آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي، الذي يعد أستاذا للمرجع الحالي علي السيستاني)، فإنه أسس في وقت مبكر «جيش المهدي» الذي حله عام 2011 بعد انسحاب أميركا من العراق، ليواجه الآلاف من أنصاره أحكاما بالإعدام من المحاكم العراقية.
وبينما تصالح تياره، عبر دخوله الانتخابات، وتشكيله كتلة سياسية - برلمانية (كتلة الأحرار)، وحصوله على عشرات المقاعد في البرلمان وعدة وزارات (6 في الوزارة السابقة التي ترأسها نوري المالكي، و3 في الوزارة الحالية التي يترأسها حيدر العبادي قبل تقديمهم استقالتهم أخيرا وقبولها)، فإنه شخصيا لا يبدو متصالحا مع أحد.
فرغم تبنيه للتظاهرات الجماهيرية الكبرى التي انطلقت خلال الشهور الأخيرة، وإيعازه لأنصاره باقتحام المنطقة الخضراء مرتين (الأولي في العشرين من أبريل (نيسان)، والثانية في الثلاثين من مايو (أيار)، الماضيين)، التي ترتب عليها احتلال البرلمان في الأولى ومجلس الوزراء في الثانية، فإن تهديداته الأخيرة للجنود الأميركان، وعددهم 560 جنديا، الذين أرسلتهم الولايات المتحدة الأميركية إلى قاعدة القيارة، قرب الموصل، ووضعهم هدفا له، وكذلك الأمر نفسه مع البريطانيين في حال فكروا في المجيئ إلى العراق ,مثلت ذروة تعامله بلا تحفظ مع توجهات الحكومة العراقية من أجل تحرير الأراضي المغتصبة من «داعش»، بالتعاون مع التحالف الدولي.
فعلى صعيد استهدافاته للأجانب، أعلن، أول من أمس، في بيان له: «لن يكونوا محررين، بل سنعاملهم كمحتلين». وكانت بريطانا قد أعلنت، على لسان وزير دفاعها مايكل فالون، أن لندن ستضاعف قواتها في العراق إلى 500 جندي، للمساهمة في تدريب القوات العراقية لمواجهة تنظيم داعش.
وياتي تهديد الصدر للبريطانيين بعد أيام من تهديد مماثل للأميركيين، تعقيبًا على إعلان وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر نية بلاده إرسال جنود إلى العراق لمهام فنية ولوجيستية، تتعلق بمعركة استعادة مدينة الموصل.
ومع أن الصدر لديه قوات «سرايا السلام» التي تشارك الآن في قتال تنظيم داعش، لكن وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري لم يتعامل، ولأول مرة، مع تهديدات الصدر بالجدية التي كانت تتعامل معه الحكومة سابقا، أو على الأقل القيادات البارزة في المشهد الشعبي، لا سيما أن الجعفري فضلا عن كونه وزيرا للخارجية، فإنه لا يزال رئيسا للتحالف الوطني الذي يضم مكونات وكتل التحالف الشيعي، ومن بينها كتلة الأحرار التابعة للصدر نفسه.
ففي معرض رده على تهديدات الصدر، جاء رد الجعفري صاعقا هذه المرة حين عدها بأنها تندرج في إطار «حرية التعبير» في البلاد، الأمر الذي قد يثير المزيد من التساؤلات لرجل يملك عشرات الآلاف من الأنصار المدربين على السلاح. وطمأن الجعفري، في تصريحات صحافية، أعضاء التحالف الدولي بأن بعثاتهم الدبلوماسية في بغداد محمية، مؤكدا أن «الدعم الدولي مطلوب عسكريا وإنسانيا»، ومضيفا أن «البعثات الدبلوماسية محمية في العراق، وأن أمنها يدخل في سياق الأمن العراقي». مع ذلك، فإن الصدر الذي لا يزال يعتقد أنه «الوحيد القادر على تحريك الشارع العراقي» عبر عن زهده بما قد يترتب على ذلك من مغانم، قائلا إنه «لا يريد بذلك مطلبا دنيويا».
وزارة الدفاع العراقية، على لسان مستشارها الفريق الركن محمد العسكري، قالت لـ«الشرق الأوسط» إنه «لا توجد قوات برية في العراق من أية دولة من دول العالم، بمن فيها دول التحالف الدولي التي تقاتل تنظيم داعش بموافقة الحكومة العراقية، لكي يتم التعامل معها بوصفها قوات احتلال، إذ إن موقف الحكومة واضح من هذا الأمر، وهو رفض التدخل البري لعدم حاجة العراق إليه». وأضاف العسكري أن «الموجودين في العراق هم مستشارون من عدة دول، ومن بين هذه الدول الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وكندا وألمانيا وغيرها، بالإضافة إلى إيران، وكل هؤلاء دخلوا بموافقة الحكومة والتنسيق معها، وهم يؤدون مهمات استشارية، فضلا عن التدريب والدعم اللوجيستي، ولا يشاركون في أية عمليات قتالية»، مبينا أن «الأميركيين يطلقون صفة جندي على أي مستشار يرسلونه إلى العراق»، وشدد العسكري على أن «العراق يرفض مطلقا دخول أية قوات برية إليه لأن لديه ما يكفي من جيش، وأن ما يحتاجه هو الأسلحة والعتاد والتدريب والتجهيز».
من جهته، أعاد القيادي في التيار الصدري حاكم الزاملي صياغة خطاب الصدر الموجه للأجانب، بالقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «ما تحدث به السيد الصدر واضح، ولا يحتاج إلى تأويل لأنه ينطلق من مبدأ عام، ولا يدخل في تفاصيل. وإن وصول هذا العدد أو ذاك من الأميركيين أو البريطانيين أو سواهم من الأجانب، يقتضي التعامل معهم كمحتلين في حال دخلوا كقوات برية قتالية على الأرض». وأضاف الزاملي أنه «طالما هذه الصفة لا تشملهم، لكونهم مستشارين مثلما تقول الحكومة، فإن هذا الاستهداف لا يشملهم لأن مهمة المستشارين معروفة، وهي مهمة ليست قتالية».