من التاريخ: بداية الديمقراطية البريطانية

الإيرل غراي
الإيرل غراي
TT

من التاريخ: بداية الديمقراطية البريطانية

الإيرل غراي
الإيرل غراي

بعيدًا عن تداعيات التصويت البريطاني للخروج من الاتحاد الأوروبي، الذي اعتبره البعض أكبر تجسيد للديمقراطية في السنوات الأخيرة، فإن فكرة التصويت على مستقبل الدولة البريطانية لم يكن متخيلاً أو ممكنًا منذ قرن ونصف من الزمان. ففكرة أن يتحكم العامة في سياسة الدولة لم تكن مطروحة من الأساس، على الرغم من القواعد السياسية المهمة التي أرستها «الثورة العظيمة» في عام 1699، بعد قرابة 5 عقود من التوتر السياسي، تخللتها الثورة الدموية والحرب الأهلية والنظام الديكتاتوري لأوليفر كرومويل. ذلك أن أجداد من صوتوا في هذا الاستفتاء كان السواد الأعظم منهم مهمشين تمامًا، ولم يكن لهم مكان على الخريطة السياسية أو الاجتماعية أو حتى الاقتصادية في بريطانيا، وهو ما يدعو إلى الحاجة للنظر في تطور الديمقراطية البريطانية خلال القرن التاسع عشر، والتي هي الجذور الحقيقية التي سمحت بإجراء هذا الاستفتاء من الأساس.
على الرغم من أن «الثورة العظيمة» أرست فكرة الملكية البرلمانية في بريطانيا، بحيث وضعت أساس فكرة أن الملك يملك ولا يحكم، فإن واقع الأمر أن الملك ظل يتمتع بقدر محدود من الصلاحيات التي سمحت له بالقدرة على بعض المناورة، بينما وُضعت السلطات السياسية الأساسية في أيدي البرلمان، وبخاصة مجلس العموم، إضافة إلى قدر أقل من السلطة للغرفة العليا للبرلمان، ممثلة في مجلس اللوردات، الذي كان يتكون من أبناء الطبقة الأرستقراطية والمسيطرة على الأراضي. أما مجلس العموم فكان مكونًا من طبقة الأغنياء والتجار ممن يملكون دخلاً يصل إلى 300 جنيه أو أكثر، إضافة إلى ذوي النفوذ المالي في البلاد، وخصوصًا أن هذه المرحلة شهدت بداية الثورة الصناعية التي تناولناها بالتفصيل في هذا الباب خلال العام الماضي، وهو ما يجعل العضوية في الأساس للطبقة البورجوازية التي أنبتتها الثورة الصناعية. وقد وُضعت القوانين لضمان ألا يخرج صنع القرار الإنجليزي عن هذه الطبقة العليا، وهو ما جعل كثيرين يصفون نظام الحكم بأنه بالفعل نظام تمثيلي، ولكن لتمثيل طبقة صغيرة للغاية من الشعب الإنجليزي فقط.
وزيادة في ضمان هذا التوجه، فإن الدوائر الانتخابية تم تفصيلها على نحو يتفق مع الهدف المنشود من هذه الديمقراطية المحدودة والصورية، والتي تقارب الديمقراطية التي تم تطبيقها في أثينا إبان الإغريق، والتي كانت مخصصة للطبقات العليا فقط. كما أن حق الانتخاب من ناحية أخرى ظل مقصورًا على نفس الطبقات تقريبًا، فمقاعد مجلس العموم الـ421 مقعدًا، كان ينتخبهم 84 ألف فرد فقط من نحو 8 ملايين ناخب. ويلاحظ أيضًا أن النساء لم يكن مسموحًا لهن بالتصويت من الأساس. ويضاف إلى ذلك أن تقسيم الدوائر لم يأخذ في الاعتبار أي تطورات، سواء ديموغرافية أو غيرها في الحسبان، فمثلاً مانشستر أكبر المدن الصناعية التي بدأت تظهر على الخريطة الديموغرافية، لم يجر تمثيلها على الإطلاق، كما أن مدينة دانويتش التي غرقت نتيجة ارتفاع منسوب البحر في الشمال، ظلت على الخريطة الانتخابية على الرغم من اختفائها من فوق سطح الأرض، وهكذا كانت الانتخابات شبه محسومة من قبل إجرائها في مناسبات كثيرة.
أدى استمرار هذا الوضع لخلق حالة من الفساد السياسي المتوقع، حيث ظلت الأسر الكبيرة مسيطرة تمامًا على النظام السياسي في البلاد، تُصدر القوانين التي تقع في صالح النخبة الضيقة للغاية. وبالتالي فيمكن القول إن النظام البريطاني لم يخدم إلا الطبقة الغنية وحدها من دون غيرها. وقد كان هذا ممكنًا إلى حد كبير خلال القرن الثامن عشر، ولكن عاملين أساسيين غيرا من فرص استمرار النظام السياسي الإنجليزي الفاسد: الأول كان اندلاع الثورة الفرنسية ونشر مطالبها المختلفة الخاصة بالمساواة والعدل والحرية وتساوي الفرص لدى المواطنين، أما العامل الثاني والأخطر فكان تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وبخاصة بعد اندلاع حروب الثورة الفرنسية في القارة الأوروبية، وتأثر بريطانيا بها أثناء وبعد الحرب.
واقع الأمر أن الثورة الفرنسية صدّرت الأفكار الليبرالية لبريطانيا ذاتها، وبدأ الشعب يتأثر بها كثيرًا. أما الجانب الاقتصادي فقد شابه ضعف عام في الصادرات البريطانية التي تأثرت بالحرب، وزاد الأمر صعوبة أزمة اختفاء السلع وانخفاض الطلب العام داخل السوق الإنجليزية. وأضيف إلى كل ذلك ضعف الحصاد الزراعي في بعض السنوات، مما جعل الشعب في حالة شبه ثورة ضد الحكومة، وبخاصة بعد تسريح أعداد كبيرة من الجيش الإنجليزي بعد الحروب النابوليونية التي أضافت إلى البطالة والزمجرة الشعبية.
لقد كان من المفترض أن تبدأ الحكومة الأخذ في الاعتبار هذه الظروف والأفكار الجديدة، وتسعى لامتصاص الغضب الشعبي وإصلاح التشوه السياسي في الحكومة والنظام البرلماني، ولكن العكس هو ما حدث، إذ تجمع المحافظون ومعهم التيار الأرستقراطي ورجال المال ضد الشعب، في محاولة منهم لكبح جماح الثورة بالعنف، معتمدين على أن الثورة الفرنسية قد أخمدت بالقوة العسكرية للتحالف الأوروبي. ولم تتهاون الحكومة في أي اتجاهات باستثناء إلغاء «الاحتجاز التعسفي Habeas Corpus» في عام 1817، والذي كانت وثيقة «الماغنا كارتا» ذاتها قد ألغته في القرن الثالث عشر!
كما أن الملك جورج الثالث كان بحالة سيئة، ولم يكن مهتمًا بأي خطوات إصلاحية، بل اقتصر دوره على اللهو والعبث، حتى أن أحد الشعراء أطلق عليه لفظ «أمير الحيتان» بدلاً من «أمير ويلز». وأما الحكومة فقد كتب أحد الشعراء ينعتها بشعره، بأنهم «حكام لا يرون شيئًا ولا يشعرون بشيء، ولا يعرفون شيئًا»!
وعندما بدأت المظاهرات تندلع وبقوة في المدن الكبرى، وعلى رأسها مظاهرات بيترلو، واجهها البرلمان بكل عنف وشدة من خلال زيادة أعداد الشرطة، ومع ذلك تبنت الحكومة ما عُرف بـ«القانون السداسي» عام 1819، الذي انقض على ما كان متبقيًا من حريات، ومنع التجمهر والاجتماعات العامة إلا التي تدعو لها الحكومة، إضافة إلى مصادرة الصحف وغيرها من الإجراءات، وهو ما وضع البلاد على حافة الثورة، وبخاصة أن الشعب كان عاقد العزم على التغيير، وهو ما وضع الدولة على المحك السياسي.
واستمر هذا الشد والجذب، وكل طرف مصمم على مواقفه، إلى أن اندلعت الثورة الفرنسية مرة أخرى في عام 1830، وأصبح على الحكام الإنجليز أن يدركوا أن الثورة آتية لا محالة، ولكن الانتخابات أتت بحكومة الإيرل غراي، الذي كان يرى أهمية بدء الإصلاح التدريجي في البلاد. وبدأ بالفعل يسن القوانين في هذا الاتجاه، ولكن الأغلبية لم تكن بالضرورة معه، فتقدم بمشروع قانون للإصلاح في 1831، ولكنه رُفض بفارق صوت واحد في إحدى غرف البرلمان. عندها تدخل الملك الجديد الذي ورث الحكم عن أخيه بتهديد واضح وصريح بأنه سيزيد من أعضاء مجلس اللوردات، لضمان التغلب على المعارضة الضيقة للقانون الجديد.
وبعد صراعات ممتدة داخل غرفتي البرلمان صدر القانون في عام 1832. وعلى الرغم من أنه لم يكن قانونًا شاملاً جامعًا للمطالب الشعبية والفئوية في البلاد، فإنه منح بعض التنازلات التي امتصت الغضب الشعبي، حيث سمح بتصويت الطبقة الوسطى في الانتخابات، وأضاف إليها طبقة المُستأجرين الذين يدفعون ما يزيد عن 10 جنيهات كإيجارات، وهو ما قلص من سيطرة العائلات الكبيرة على مجلس العموم البريطاني بعض الشيء. كما تم إجراء تغييرات في حجم وشكل الدوائر الانتخابية أدت إلى اختفاء كثير من الدوائر التي كان يُفترض أن تختفي منذ حقب ممتدة، كما تم وضع نظام انتخابي موحد داخل هذه الدوائر.
وعلى الرغم من أن هذا القانون استطاع أن يستوعب كثيرًا من الغضب الشعبي، وبدأ يمنح الطبقة الأوفر حظًا داخل الطبقة المتوسطة بعض الامتيازات، فإنه لم يلبّ المطالب الشعبية، وبدا واضحًا أن بريطانيا كانت على أعتاب صراع جديد من أجل ترسيخ الديمقراطية، والتي بدأت تأتي إليها على موجات وفترات زمنية ممتدة، كما سنرى في الأسبوع المقبل.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.