قبل عشر ساعات فقط من عملية الدهس الرهيبة، على كورنيش مدينة نيس الساحلية الفرنسية المسمى «متنزه الإنجليز»، كان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند يعلن وقف العمل بحالة الطوارئ ويشيد بالإجراءات الأمنية التي اتخذتها حكومته لمنع تكرار العمليات الإرهابية التي ضربت باريس في شهري يناير (كانون الثاني) ونوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2015.
ورغم النجاحات التي أشار إليها هولاند، فإن الإرهاب كشر عن أنيابه بقسوة في مدينة نيس الفرنسية، حيث وقع أكثر من 284 شخصا على الأقل بين قتيل وجريح، بعد أن دهست شاحنة حشدًا من الجماهير أثناء احتفالات بالعيد الوطني في فرنسا (يوم الباستيل) في مدينة نيس، جنوب البلاد. وقال الرئيس الفرنسي، هولاند، إن 50 من المصابين في الهجوم يصارعون الموت في المستشفيات، وإن كثيرًا من الأطفال والأجانب بين القتلى.
ومما قاله هولاند، في حديثه، ظهر أول من أمس، إلى التلفزيون الفرنسي، عن الإرهاب والتهديد الذي ما زال ظله يطأ على فرنسا وضرورة محاربته ما يلي: «إن (داعش) يتراجع ويخسر مواقعه الحصينة، ولذا فمن الضروري أن نضربه بقوة». وأضاف هولاند: «علينا أن نضرب وأن ندمر هناك (أي في سوريا والعراق) الذين يرتكبون الاعتداءات ضدنا هنا»، على الأراضي الفرنسية. فهل كانت عملية الدهس ردا على تهديدات هولاند؟
السؤال مطروح والطابع الإرهابي لمجزرة نيس، واضح ودامغ ولا مجال لنكرانه مهما كانت المبررات. لكن حتى بعد ظهر أمس، لم تتبن أي جهة العملية ولم يتم حتى تلك اللحظة العثور على أدلة تفيد بانتماء هذا الرجل، وهو رب عائلة من زوجة وثلاثة أطفال، إلى «جند الخلافة» أو أنه ينفذ دعوة أبو محمد العدناني الذي حث هؤلاء الجند في تسجيل صوتي شهير يعود لربيع عام 2014 إلى استخدام «ما يقع تحت أيديهم» بما فيها السيارات لقتل أعداء التنظيم والإسلام. وإذا كان مرتكب العملية الإرهابية قد عمل بـ«نصيحة» العدناني، فإن نتيجة عمله التي عنوانها 84 قتيلا و50 جريحا بين الموت والحياة، إضافة إلى عشرات الجرحى والمصدومين، تبين أنه «أحسن» تنفيذ الوصية.
وبعد ثمانية أشهر على مذبحة الباتاكلان ومقاهي ومطاعم باريس ليل 13 نوفمبر 2015. جاء ليل 14 يوليو لينضم إلى لائحة التواريخ الدامية في الذاكرة الفرنسية وليعيد إلى الأذهان أجواء الرعب التي خيمت نهاية العام الماضي على فرنسا. ولم تخطئ الصحيفة الفرنسية المكتوبة التي ظهرت صباح أمس في إبراز كلمة «الرعب» على صدر صفحاتها الأولى ما يعكس مشاعر الناس الذين وجدوا أنفسهم ليل الخميس - الجمعة في مواجهة شاحنة مبردة بيضاء اللون قدر وزنها بـ19 طنا وهي تسير فوق الأجساد في مشاهد مروعة امتنعت القنوات التلفزيونية والصحافة المكتوبة عن إبراز صورها بسبب عنف ما تظهره.
حصل ذلك في الساعة الحادية عشرة والنصف بتوقيت باريس «التاسعة والنصف بتوقيت غرينتش». الأسهم والألعاب النارية التقليدية التي تطلق بمناسبة العيد الوطني الفرنسي كانت قد هجرت سماء نيس وكورنيشها وفنادقها الشهيرة مثل «النيغرسكو» و«بالية دولاميديترانيه» والكازينو وقد بدأ الجمهور الذي قدر عدده بثلاثين ألف شخص يتحرك من الكورنيش عندما ارتفعت أصوات خائفة وبدأ الكثيرون بالجري هربا من الشاحنة المجنونة التي سبق لمنفذ العملية الارهابية أن استأجرها قبل أيام قليلة ونجحت شرطة المدينة في إعادة رسم مسارها وحتى وصولها إلى الكورنيش. استخدم المنفذ خدعة للدخول إلى منطقة الكورنيش التي كان السير منع فيها بسبب احتفالات العيد الوطني وتركت تماما للمشاة إذ أبلغ أحد رجال الشرطة السيارة أنه يحمل كميات من البوظة والمثلجات وأنه يتعين عليه تسليمها في المنطقة. وعندما تمكن من الدخول إلى المنطقة المحظورة بدأت عملية القتل الجماعي. وتفيد الشهادات التي توافرت يوم أمس أن الإرهابي تعمد توجيه الشاحنة يمينا ثم يسارا وبالعكس، ما يفيد أنه كان يسعى للإجهاز على أكبر عدد من الناس. واستمرت فعلته لمسافة 2000 متر على الأقل قبل أن ينجح رجال الشرطة المولجون حماية الاحتفال في توقيف الشاحنة وقتل الارهابي.
ووفق شهادات متطابقة، فإن الأخير كان يدهس الناس بشاحنته وفي الوقت نفسه يطلق النار من مسدس صغير عثرت عليه الشرطة لاحقا في قمرة القيادة كما عثرت على قنبلة غير قابلة للاستخدام وألعاب بشكل أسلحة حربية سارع رئيس بلدية نيس ونائبها كريستيان أستروزي إلى اعتبارها أسلحة حربية بينما هي في الواقع ألعاب بلاستيكية.
سريعا جدا، تعرفت الأجهزة الأمنية على هوية المنفذ الذي قدم بداية على أنه فرنسي من أصل تونسي بينما تبين لاحقا أنه لا يحمل الجنسية الفرنسية. فهذا الرجل ترك بطاقة هويته وإجازة القيادة وبطاقة ائتمانية في القمرة ما سهل التأكد من هويته. أما صورته في مكان إقامته، فتعكس، بحسب شهادات جيرانه، صورة رجل «متوحد» و«قليل الكلام». وسارع القضاء إلى فتح تحقيق عهد به إلى النيابة العامة المولجة الأعمال الإرهابية. لكن ما صدم سكان نيس وكل الشعب الفرنسي هو الصورة المروعة التي تركتها العملية الإرهابية إذ تحول كورنيش المدينة إلى ما يشبه ساحة حرب حيث تناثرت الجثث والأشلاء وهرب من استطاع الهروب في حال من الفوضى لا توصف لا بل إن الكثير من الضحايا وبينهم أطفال ماتوا بفعل التدافع فسارت الناس على أجسام بعضها البعض ومن استطاع الخلاص سعى للاحتماء في مداخل الأبنية أو في المقاهي والمطاعم فيما سارعت بلدية نيس إلى دعوة المواطنين إلى الامتناع عن الخروج من منازلهم. بعدها جاء دور الشائعات وبعضها أفاد بوجود إرهابيين آخرين وبوقوع عمليات احتجاز رهائن. وككل مرة، ساهمت الوسائل الإعلامية وخصوصا القنوات الإخبارية في زيادة منسوب القلق بنقل معلومات تبين لاحقا أنها غير دقيقة أو ملفقة..
لم تتوقف الشاحنة إلا بعد أن نجح رجال الشرطة في إصابة إطاراتها وبعدها استطاعوا إصابة الرجل الذي كان يطلق النار عليهم كذلك فتدلى رأسه من قمرة القيادة. وبعدها، ضربت الشرطة التي خسرت أحد ضباطها في العملية طوقا أمنيا وسارعت سيارات الإسعاف إلى المكان لكن ضخامة المجزرة جعلت المسعفين والأطباء عاجزين عن مواجهة الفاجعة الضخمة.
ليلة أول من أمس، كان الرئيس هولاند في مدينة أفينيون التاريخية لمشاهدة إحدى المسرحيات في الموسم المسرحي السنوي للمدينة المعروفة عالميا بهذا النشاط. وقبل بدء المسرحية، تلقى هولاند اتصالا هاتفيا من وزير الداخلية برنار كازنوف فتوجه فورا إلى أقرب مطار ومنه باتجاه باريس حيث كان رئيس الحكومة مانويل فالس وكازنوف قد شغلا «غرفة عمليات» في وزارة الداخلية بانتظار وصول الرئيس الفرنسي، الذي انضم إليهما وإلى قادة الأجهزة الأمنية سريعا لاتخاذ التدابير والإجراءات المناسبة ومتابعة الوضع. وفي الساعة الرابعة فجرا، توجه هولاند لمواطنيه ليقول لهم إن الإرهاب «الإسلامي» ضرب مجددا فرنسا وإنه يتعين التضامن والصمود وعدم الاستسلام. وهي الرسالة التي كررها في مدينة نيس، التي زارها بصحبة مانويل فالس، رئيس الحكومة بعد اجتماع أمني مصغر دعا إليه صباح أمس في قصر الإليزيه. وكشف هولاند عن ثلاثة تدابير: الأول، التراجع عن وقف العمل بحالة الطوارئ التي كان يفترض أن تتوقف في 26 الحالي وتقديم مشروع قانون يوم الأربعاء المقبل إلى البرلمان لمد العمل بها لثلاثة أشهر إضافية. والثاني، التراجع عن خفض عديد العسكريين «من 10 آلاف إلى 7 آلاف» الذين يساهمون في توفير الأمن الداخلي والإبقاء على العديد نفسه إلى أجل غير مسمى. والأمر الثالث «وهو الجديد»، الاستعانة بالاحتياطيين من الجيش والدرك لمؤازرة القوى الأمنية على اختلافها في حراسة الأماكن الاستراتيجية والعامة. وهي المرة الأولى التي يتم اللجوء فيها إلى تدبير من هذا النوع.
أما على الصعيد الخارجي، فقد كرر هولاند العزم على ضرب «داعش» والتنظيمات الإرهابية بقوة وقسوة أكبر وزيادة المساهمة العسكرية الفرنسية في سوريا والعراق. هل هذه التدابير ستكفي؟ السؤال أكثر من مشروع لأن الحكومة عمدت منذ الخريف الماضي وفي ظل حالة الإرهاب إلى استصدار مجموعة من القوانين التي أعطت الأجهزة الأمنية صلاحيات شبه مطلقة مثل توقيف من تريد وفي الوقت الذي تريده وبمجرد قرار إداري لا يحتاج لضوء أخضر من القضاء وفرض الإقامة الجبرية. كما أن القوى الأمنية على اختلافها تلقت دعما بشريا وتقنيا وماديا وزاد أعضاؤها خصوصا في أجهزة المخابرات فيما تعزز التعاون بين الأجهزة الأمنية الأوروبية ومع تركيا. لكن ذلك كله لم يكن كافيا وبالتالي فإن نجاعة التدابير الجديدة تبقى محط تساؤلات خصوصا أن عملية نيس تختلف عما سبقها من العمليات الإرهابية التي ضربت باريس وبروكسل من ثلاث زوايا: الأولى أنها استهدفت مدينة نيس وليس العاصمة، والثانية أن منفذها استخدم «سلاحا» جديدا هو الشاحنة وليس الأسلحة النارية. والثالثة، أنه حتى الساعة تبدو العملية من صنع ما يسمى «الذئاب المنفردة» وبالتالي فإن تجنبها أو تعطيلها يبدو أكثر صعوبة.
يبقى أن الثابت، وفق ما قاله رئيسا الجمهورية والحكومة، هو أن فرنسا ما زالت في مرمى الإرهاب وأنه يتعين على الفرنسيين «التعايش» مع ظاهرة تبدو طويلة الأمد، ما يعني ضمنا أن التدابير والإجراءات المتخذة لن تكون بالضرورة كافية لمنع تكرار هذا النوع من المآسي.
الإرهاب يكشر عن أنيابه في نيس الفرنسية
إرهابي تونسي قاد شاحنة وأوقع اكثر من 284 قتيلاً ومصابًا خلال احتفالات العيد الوطني الفرنسي
الإرهاب يكشر عن أنيابه في نيس الفرنسية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة