أكيهيتو.. والقرار الحاسم

إمبراطور اليابان.. هل يقدم على أول تنازل على العرش منذ 200 سنة

أكيهيتو.. والقرار الحاسم
TT

أكيهيتو.. والقرار الحاسم

أكيهيتو.. والقرار الحاسم

تناقلت وكالات الأنباء العالمية خلال الأيام القليلة الفائتة أخبارا وشائعات عن اعتزام إمبراطور اليابان أكيهيتو التنازل عن العرش، وتحدثت عن أن الإمبراطور البالغ من العمر 82 سنة الذي اعتلى «عرش الأقحوان» في مطلع 1989، الذي يعاني منذ بعض الوقت متاعب صحية، يفكر في التنحي خلال فترة غير بعيدة. ولو حصل هذا الأمر فإن أكيهيتو سيغدو أول إمبراطور لليابان يتنازل عن عرشه منذ نحو 200 سنة.

كانت النهاية المأساوية للحرب العالمية الثانية بالنسبة إلى اليابان، في عام 1945، مفصلا تاريخيا بالنسبة إلى دور الإمبراطور. ولئن كان تعرض مدينتي هيروشيما وناغاساكي للقصف بقنبلتين نوويتين، أحد أشهر الأحداث في تاريخ العالم العسكري، وهو الحدث الذي أجبر اليابان على الاستسلام وتجرع طعم هزيمة مريرة بجانب الخسائر البشرية الضخمة، فإن مكانة الإمبراطور التقليدية المقدسة كـ«ابن الشمس» انتهت؛ إذ بعد الهزيمة في الحرب ورضوخ اليابان للهيمنة الأميركية تحول الإمبراطور فعليا إلى ملك دستوري قريب من نموذج الملكيات الأوروبية في بلد تحكمه حكومات حزبية منتخبة، ويقوم فيه برلمان منتخب.
الإمبراطور الذي حدث في عهده هذا التحول التاريخي عام 1945 كان هيروهيتو (1901 - 1989) والد أكيهيتو، ولقد توفي الإمبراطور هيروهيتو يوم 7 يناير (كانون الثاني) 1989، وفور وفاته خلفه ابنه الأكبر وولي عهده على العرش.
* الإمبراطور الـ125
أكيهيتو هو الإمبراطور الـ125 بين أباطرة اليابان، ووفق التقاليد التي تقضي بإطلاق اسم على عصور هؤلاء (أي فترة توليهم العرش) عهد أكيهيتو بـ«عصر هايساي الإمبراطوري»، وسيُطلق على أكيهيتو نفسه بعد وفاته بأمر حكومي اسم «الإمبراطور هايساي»، وعندها سيطلق اسم جديد على عصر خلفه.
ولد أكيهيتو في القصر الإمبراطوري بوسط العاصمة اليابانية طوكيو يوم 23 ديسمبر (كانون الأول) 1933، وهو خامس أولاد الإمبراطور هيروهيتو (أو الإمبراطور شووا، كما يُعرف اليوم بعد وفاته) والإمبراطورة ناغاكو (الإمبراطورة كوجون)، لكنه الأكبر بين الذكور، ولقد عرف في صغره باسم الأمير تسوغو. ولقد تلقى تعليمه على أيدي معلمين خاصين في القصر قبل أن يلتحق بين العامين 1940 و1952 بمدرسة غاكوشوين - التي أسست في طوكيو لتعليم أبناء النبلاء - حيث أنهى دراسته الابتدائية والثانوية، وبعدها التحق لفترة بجامعة غاكوشوين؛ حيث درس العلوم السياسية من دون أن يتخرج.
وما يستحق الإشارة إليه هنا أنه إبان الحرب العالمية الثانية وبسبب تعرض العاصمة اليابانية للقصف عام 1945 أجلي أكيهيتو وشقيقه الأمير ماساهيتو خارج المدينة، وبعد الاحتلال الأميركي درس اللغة الإنجليزية وأصول اللياقة (الإيتيكيت) الأوروبية والغربية على أيدي مُدرسة أميركية. ومن ناحية أخرى، مع أن أكيهيتو كان الوريث الطبيعي للعرش منذ ولادته، فإنه لم يصبح وليا للعهد بصورة رسمية إلا في خريف عام 1952، وفي العام التالي، قام بأول مهمة رسمية دولية له بهذه الصفة عندما حضر مراسم تتويج الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا. غير أنه بخلاف أسلافه في العائلة الإمبراطورية لم يحمل رتبة عسكرية في الجيش بناء على رغبة أبيه.
وفي صيف العام 1957 التقى الأمير الشاب بحسناء من عامة الشعب اسمها ميتشيكو شودا في ملعب لكرة المضرب في منتجع كارويزاوا قرب مدينة ناغانو السياحية والرياضية. وبعد تطور العلاقة بينهما، أقر «مجلس شؤون البلاط الإمبراطوري» الذي يضم رئيسي الحكومة ورئيسي مجلسي البرلمان «الداييت» وكبير القضاة إلى جانب عضوين من الأسرة الإمبراطورية الخِطبة رسميا في نوفمبر (تشرين الثاني) 1958، وبعد الاحتفال بها في 14 يناير (كانون الثاني) 1959. أجريت مراسم الزواج يوم 10 أبريل (نيسان) من العام نفسه، وبهذا بات ميتشيكو شودا أول فرد من عامة الشعب تنضم إلى الأسرة الإمبراطورية. واليوم تتكون عائلتهما من ولدين وبنت هم: الأمير ناروهيتو، ولي العهد الحالي، وفوميهيتو (أو الأمير أكيشينو)، وساياكو (المعروفة سابقا بالأميرة نوري).
* النهضة اليابانية
أقام الإمبراطور أكيهيتو وقرينته الإمبراطورة ميتشيكو قبل أن يعتلي العرش بالكثير من الزيارات الرسمية لدول العالم، كما لعبا في اليابان دورا نشطا في تقريب العائلة الإمبراطورية التي كانت التقاليد تبعدها عن المواطنين. وبعد وفاة هيروهيتو الذي ارتبط بتاريخ كإمبراطور لأكثر من 62 سنة، خلفه أكيهيتو على «عرش الأقحوان»، وتواصلت في عهده مسيرة تعزيز الديمقراطية والحياة الحزبية التي يسيطر عليها منذ عقود الحزب الديمقراطي الحر (يمين الوسط) بأجنحته المختلفة. ولقد توج أكيهيتو رسميا (في احتفال رسمي) كإمبراطور يوم 12 نوفمبر 1990.
وفي عهد أكيهيتو استمرت، بل تعززت مكانة اليابان كعملاق اقتصادي عالمي بعدما كانت اللبنات الأولى للنهضة الصناعية والثقافية قد بدأت عمليا في «العصر الميجي» (1868 - 1912)، الذي يحمل اسم الإمبراطور «ميجي» (ماتسوهيتو)، جد هيروهيتو ووالد جد أكيهيتو. ومع أن المؤسسة العسكرية ذات الطموح الإمبريالي الذي تنامى كثيرا في النصف الأول من القرن الـ20 فرضت وجودها، وحظيت بنفوذ كبير أدى إلى زج البلاد في الحرب العالمية الثانية، فإن كارثة الهزيمة في تلك الحرب أثمرت لاحقا نقلة اقتصادية في الاقتصاد والصناعة والسياسة والثقافة.
ذلك أنه في أعقاب التغييرات البنيوية التي فرضها الأميركيون على اليابان المهزومة انطلقت في البلاد حياة حزبية سليمة. وفي المقابل أدى اندلاع الحرب الكورية (1950 - 1953) إلى اضطرار واشنطن إلى تشجيع نهضة الصناعة اليابانية التي وجدت ضروريا في مرحلة ما ضربها وتقليص حجمها وفرط تكتلاتها الكبرى، وذلك في ضوء تصاعد الخطر الشيوعي في شرق آسيا عبر الصين والاتحاد السوفياتي.
وبالفعل، أسهمت تحديات الحرب الكورية في إقناع الأميركيين بالتعامل مع اليابان كحليف في وجه «الأعداء الجدد» في مناخ «الحرب الباردة». وهكذا، عاشت اليابان نهضة من وسط الركام والرماد في فترة عهد هيروهيتو نفسها. ومن ثم، جاء عهد أكيهيتو عهد تثبيت للاستقرار وتأكيدا لدور اليابان كلاعب عالمي مؤثر، في مختلف المجالات.
أكثر من هذا، منذ تولي أكيهيتو العرش فإنه حرص على الانفتاح ليس على الداخل فحسب؛ حيث زار كل محافظات اليابان الـ47، بل على جيران اليابان أيضا، ولا سيما الجيران الذين عانوا حقبة تسلطها الحربي عليهم، وبالأخص كوريا، وبلغ عدد الدول التي زارها في نطاق زياراته الرسمية الخارجية 18 دولة.
* متاعب صحية
في مطلع العام 2003، مع تقدم السن، أجرى الإمبراطور الياباني عملية جراحية لعلاج سرطان في البروستاتا. غير أن وضعه الصحي قلما أثر في التزاماته وحرصه مع زوجته الإمبراطورة ميتشيكو على تشارك المواطنين في مسرَّاتهم ونكباتهم، وظهر هذا عبر إطلالاته وتشجيعه المواطنين بعد كارثتين حلتا بشمال اليابان، هما زلزال توهوكو وأزمة التسرب النووي في فوكوشيما عام 2011، ولكن في نهاية العام تعرض لالتهاب رئوي حاد استدعى نقله إلى المستشفى، ثم في مطلع العام التالي أجرى عملية جراحية في القلب.
وحقا خلال الأسبوع الفائت راجت تقارير عن اعتزام أكيهيتو التنازل «خلال بضع سنوات» عن العرش لولي عهد الأمير ناروهيتو، وذلك بسبب وضعه الصحي غير المساعد، غير أن مصادر في القصر الإمبراطوري بادرت إلى نفي صحة هذه التقارير. ولكن في حال قرر الإمبراطور حقا التنازل، فإنه سيقدم على خطوة على الأولى من نوعها منذ تنازل الإمبراطور كوكاكو عام 1817.
* أباطرة اليابان منذ «العصر الميجي»
الإمبراطور ميجي (ماتسوهيتو) 1867 - 1912
الإمبراطور تايشو (يوشهيتو) 1912 - 1926
الإمبراطور شوا (هيروهيتو) 1926 - 1989
أكيهيتو 1989 – حتى الآن
* رؤساء وزراء اليابان في عهد أكيهيتو
(السواد الأعظم من الحزب الديمقراطي الحر أو ائتلافات يتزعمها)
سوسكي أونو 3-6-1989 – 10-8-1989
توشيكي كايفو 10-8-1989 – 5-11-1991 (حكومتان)
كيئيتشي ميازاوا 5-11-1991 – 9-8-1993
موريهيرو هوسوكاوا 9-8-1993 – 28-4-1994 (تحالف ليبرالي معارض)
تسوتومو هاتا 28-4-1994 – 30-6-1994 (حزب اليابان الديمقراطي)
توميئيتشي موراياما 30-6-1994 – 11-1-1996 (الحزب الاشتراكي)
ريوتاريو هاشيموتو 11-1-1996 – 30-8-1998 (حكومتان)
كييزو اوبوتشي 30-8-1998 – 5-4-2000
يوشيرو موري 5-4-2000 – 26-4-2001 (حكومتان)
جونيتشيرو كويزومي 26-4-2001 – 26-9-2006 (3 حكومات)
شينزو آبي 26-9-2006 – 26-9-2007
ياسوو فوكودا 26-9-2007 – 24-9-2008
تارو آسو 24-9-2008 – 16-9-2009
يوكيو هاتوياما 16-9-2009 – 8-6-2010
ناوتو كان 8-6-2010 – 2-9-2011
يوشيهيكو نودا 2-9-2011 – 26-12-2012
شينزو آبي 26-12-2012 حتى الآن



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.