بعد طرد تنظيم القاعدة من محافظة الأنبار غرب العراق عام 2007 وبعد تشكيل قوات الصحوة العشائرية بمساعدة أميركية لافتة قادها قائد القوات الأميركية وقتذاك الجنرال ديفيد بترايوس لم يكن أحد من رجال الطبقة السياسية العراقية يعي أن نسخة جديدة من هذا التنظيم المتطرف سوف تولد بعد سنوات لتتسبب هذه المرة ليس في التمدد بمحافظة الأنبار وحدها أيام تنظيم القاعدة في عهد الأردني أبو مصعب الزرقاوي (قتل في غارة أميركية عام 2006 في محافظة ديالى) بل باحتلال نحو ثلث الأراضي العراقية من خلال احتلال محافظات نينوى وديالى وصلاح الدين والأنبار.
سياسات الإهمال التي تسببت بها سياسة الحكومة العراقية السابقة في عهد نوري المالكي (2006-2014) كانت سببا مباشرا في الانتفاضة التي انطلقت عام 2013 في تلك المحافظات والتي سرعان ما تم اختطافها من قبل تنظيم داعش الذي ولد على أنقاض «القاعدة» في وقت بدأت فيه الحكومة العراقية محاربة منتسبي الصحوات العشائرية بوصفهم مزدوجي الولاء بين الانتماء سابقا لـ«القاعدة» والانتفاضة عليها فيما بعد.
وبعد سنتين من تمدد «داعش» في المحافظات الغربية (احتلال الموصل خلال شهر يونيو/حزيران عام 2014) وتمدده باتجاه المحافظات الأخرى وصولا إلى تهديد بغداد، دارت الدائرة الآن على هذا التنظيم المتطرف. فبعد خسارته العام الماضي ديالى وصلاح الدين خسر هذا العام الرمادي قبل شهور والفلوجة قبل أسابيع وهو يوشك الآن على خسارة الموصل بعد إقدام القوات العراقية على تحرير قاعدة القيارة الاستراتيجية. لكن هذا التنظيم الذي بدأ يخسر عسكريا تمكن من زرع توابع له وحواضن في تلك المناطق باتت تشكل أزمة عشائرية مجتمعية بحد ذاتها. فبالإضافة إلى الصراعات العشائرية ذات الجنبة السياسية والمتمثلة بمحاولات بعض قادة العشائر والزعماء السياسيين قطف النصر على «داعش» من خلال التأسيس لعلاقات أخطبوطية سواء مع الحكومة العراقية أو مع الأميركان سواء على مستوى الدعوة لإقامة إقليم سني كجزء للحل في العلاقة مع بغداد أو على مستوى عقود إعادة الأعمار. لكن هناك ما بدا مسكوتا عنه وهو العلاقات العشائرية التي خلفها هذا التنظيم وراءه والتي تتمثل في كيفية التعامل مع عوائل المنتمين لهذا التنظيم.
ولعل المفارقة اللافتة أنه في الوقت الذي بدأت العشائر تتعاون فيه مع الجيش العراقي الذي لم يكن مرغوبا به في زمن المالكي لكنها بدأت تواجه أزمة التعايش الداخلي. وفي هذا السياق يقول الشيخ رافع الفهداوي أحد شيوخ عشيرة البوفهد التي تعرضت لمجزرة على يد تنظيم داعش ومن قبل أفراد ينتمي بعضهم إلى العشيرة نفسها يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «الاحتقان الطائفي خلال المرحلة الماضية والتصعيد السياسي الذي تسببت به التصريحات النارية للسياسيين من الطرفين كان هو السبب الرئيسي في ذلك الأمر الذي سهل لتنظيم داعش إيجاد بيئة تحولت إلى حاضنة لها تمددت من خلالها». وأوضح الفهداوي أن «تنظيم داعش استغل جو الاحتقان كما حاول استغلال كل العشائر لكنه في الوقت الذي لم ينجح في كسب ود عشيرة بكاملها فإنه نجح في إيجاد حاضنة ولو صغيرة في كل عشيرة».
ويرى الفهداوي أنه «من الصعب في الواقع التعايش مع من أوغل في دماء أهالي الأنبار حتى لو كان من أبنائها حيث تم الاتفاق بين شيوخ العشائر على عدم منح هؤلاء فرصة للبقاء ضمن المناطق وهو عرف عشائري معمول به».
من جهته يرى عضو البرلمان العراقي عن محافظة صلاح الدين مشعان الجبوري في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أنه «في صلاح الدين تم تطبيق تجربة ناجحة وهي منع عائلة الداعشي لا سيما والديه وإخوته من العودة إلى المحافظة حيث إن الأمر يحتاج إلى المزيد من التدقيق لأن هناك الكثير ممن بقوا مع (داعش) لسنتين أو أكثر تأثروا بهم وبالتالي علينا أن نكون حذرين وهو ما يدعونا إلى التعامل بحذر بمن في ذلك دعوة المؤسسات الدولية لمساعدتنا».
أما النائب عن محافظة الأنبار محمد الحلبوسي فقد أكد في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «أي إجراء من شأنه أن يحفظ سيادة القانون نحن معه وأن يكون القصاص من الإرهابيين بمختلف تسمياتهم وإنزال أقصى العقوبات بهم لأنهم دمروا مدننا ومحافظاتنا لكن مع ذلك فإننا ضد مبدأ العقوبة الجماعية لأنه في النهاية لا تزر وازرة وزر أخرى حيث لا يوجد في القانون مادة يمكن أن تحاسب العائلة كلها نتيجة جرم ارتكبه أحد أعضائها». وأضاف أنه «في حال عملنا بمبدأ العقوبة الجماعية فمن غير المتوقع معرفة ردود الفعل المستقبلية لأن التعميم غير صحيح وغير واقعي». وأكد الحلبوسي: «الحل يكمن في أن تتبرأ العوائل ذاتها من أفرادها المنتمين إلى (داعش) وهو ما حصل في الأنبار بالفعل ولنعمل جميعا من أجل مصالحة مجتمعية حقيقية بعد فرز المتطرفين وعزلهم مجتمعيا لنتمكن من العيش بسلام وأمان لأن الانتقام يلد انتقاما متبادلا وقد تعبنا خلال السنوات الماضية من سياسات رد الفعل حيث يتوجب علينا التفكير بالجيل القادم الذي لا ذنب له فيما يجري».
ودعا الحلبوسي «إلى العمل على بناء مجتمع متسامح ودعم المؤسسات الأمنية القادرة على حفظ الأمن والعمل على اقتلاع فكر (داعش) بالحوار وبخلق بدائل صحيحة وهو ما تقع مسؤوليته على المؤسسات الدينية والعشائرية والمجتمع المدني».
أما عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي والنائب عن محافظة الأنبار محمد الكربولي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «الدواعش لم يرحموا النساء والأطفال وبالتالي فإن التعامل معهم على وفق مبدأ عفا الله عما سلف سياسة خاطئة لأنهم لم يرحموا أطفالنا ونساءنا حين سيطروا على مدننا ولذلك لا بد من اتباع سياسة حازمة جدا معهم».
وأوضح الكربولي أن «(داعش) فكر وهو ليس وليد لحظة وأهالي الدواعش يعرفون أنهم دواعش وساندوهم ولذلك نحن أمام مهمة صعبة وفي غاية الخطورة».
أما المحلل السياسي واثق الهاشمي رئيس المجموعة العراقية للدراسات الاستراتيجية فيقول لـ«الشرق الأوسط» إن «من غير الصحيح أن نعاقب المجتمع كله بجريرة شخص أو مجموعة أشخاص ويجب علينا أن لا ننسى أن (داعش) قام بعمليات غسل دماغ للأطفال والشباب»، مؤكدا أن «علينا القيام بعمليات مضادة لاحتضان من لم تتلطخ أيديهم بدماء العراقيين وهم قلة ونعيد الآخرين لحضن الوطن حيث يجب أن لا نضع أهالي تلك المحافظات (صلاح الدين ونينوى والأنبار) بين كماشتي (داعش) والحكومة».
في السياق نفسه يرى عضو البرلمان العراقي عن محافظة صلاح الدين عبد القهار السامرائي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «هذا الأمر في غاية الأهمية، ولعل في قيام بعض المؤسسات الهامة مثل دواوين الأوقاف لا سيما الوقف السني دور بارز في هذا المجال وذلك على صعيد تطوير الأئمة والخطباء ومنحهم أدوارا ومسؤولية في تصويب الأفكار لا سيما أفكار الناس البسطاء حيث إن الفكر التكفيري لا يمكن أن يحارب إلا بالفكر التنويري». وأضاف أن «عوائل المنتمين لـ(داعش) هم إما تلوثت عقولهم بهذا الفكر فعلينا تحمل المسؤولية في تصويب أفكارهم أو تجمعهم بهم صلة قربى أو مصلحة وهو ما يستدعي بذل جهود كبيرة لإعادة تأهيلهم».
«داعش» يخسر البيئة السنية في المحافظات الغربية ويربح خلافات العشائر
الفهداوي: الاحتقان الطائفي والتصعيد السياسي تسببا في انتشار التنظيم الإرهابي
«داعش» يخسر البيئة السنية في المحافظات الغربية ويربح خلافات العشائر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة