كاد المسرح اللبناني أن ينطفئ. بعض المسارح أغلقت أبوابها، ونعى آخرون فنًا في طريقه إلى الانقراض.
لكن فجأة بدا أن ثمة من وجد الوصفة التي تعيد الناس إلى صالات العرض أفواجًا، وتتمكن من أن تغري الجمهور بالحضور على مدى أشهر. يعرض يحيى جابر، حاليًا، مسرحيته «بيروت طريق الجديدة» منذ ثلاث سنوات ولا يزال بطلها الوحيد زياد عيتاني يقف على المسرح كل أسبوع ويجد الجمهور بانتظاره. إلى جانب المسرحية الأولى وبالتزامن معها، يقدم يحيى جابر في بيروت أيضًا ومن نصه وإخراجه مسرحية ثانية هي «بيروت فوق الشجرة» التي تعرض منذ ثمانية أشهر دون انقطاع. ويقول جابر بأنه يكتب ثالثة ورابعة ستعرضان قريبًا.
هذه ظاهرة مبهرة في عاصمة عربية صغيرة كبيروت، لم تعد سياحية ومن الصعب الحديث عن زوار كثر يأتونها من الخارج ويدفعهم الفضول لحضور العروض. جورج خباز، حكاية أخرى تستحق التوقف عندها، فهو كاتب نص وممثل ومخرج ومنتج أيضا، له كل سنة مسرحية تعرض شهورًا طوالا، وجمهور يتابعه ويأتيه كما لو أنه يبحث عن قوته. لا يمكن تجاهل النجاح الشعبي الهائل الذي يحققه هذا الفنان، وتصوير الأمر على أنه مسألة عابرة، ثمة ما يتغير في الذوق العام، ويبقى خارج الرصد. في مسرح جورج خباز تتوفر الفكرة الناضجة والتقنية المشغولة والمرح والوجع، ولو بدت الأعمال بسيطة وسهلة، فالجهد كبير ولا بد أن يجد من يقدره.
لعل مسرحية لينا خوري «حكي نسوان» التي عرضت منذ عشر سنوات، وامتلكت الجرأة لتقول بصوت عال، ما تفكر به النساء سرًا، وبقيت تعرض على الخشبة لسنتين، كانت الفاتحة. من حينها تأرجح المسرح في لبنان صعودًا وهبوطًا، لنجد منذ ما يقارب الثلاث أو أربع سنوات أن صالات جديدة تفتح أبوابها مثل «تياترو فردان» و«مترو المدينة» إضافة إلى خشبة «مسرح الجميزة»، وأن أعمالا صمدت لشهور لا بل لسنوات، وأن جمهورًا جديدًا بات يرتاد المسارح بعد أن كانت أماكن لحلقة مغلقة وضيقة.
يحيى جابر يقول: «لقد جئنا إلى المسرح بأناس لم يدخلوه سابقًا، لم يعد نادرًا أن نرى عائلة كبيرة آتية بأكملها لتشاهد مسرحية. صار شباك التذاكر وحده كافيا للتمويل. نحن نعمل حاليًا، من دون حاجة لرعاية رأسمالية ولا طائفية، أو دعم جمعيات وهيئات مجتمع مدني».
الفنانة المسرحية عايدة صبرا، ممثلة ومخرجة تكتب نصوص أعمالها، ومسرحياتها لها نكهة خاصة. عملها «من الآخر» بقي يعرض 12 شهرًا في «مترو المدينة». وهي لا تزال تذكر أن مسرحيات سابقة لها مثل «حالة حب» صمدت أسبوعًا فقط، و«ممنوع اللمس» أسبوعين. هذا كان المتوسط المتعارف عليه لعرض الأعمال المسرحية. وتروي أن مسرحية «الديكتاتور» أو «فترين»، على سبيل المثال، حين عرضتا لشهرين، اعتبرتا أنهما حققتا نجاحًا كبيرًا. وحين نسأل عايدة صبرا عما تغير في ذوق الجمهور؟ أو هل أن طبيعة المسرحيات المقدمة هي التي تغيرت وجذبت الناس، تجيب: «إن ثمة خلطة، تقدم حاليًا، هي مزيج بين الشعبي والتجريبي. المسرح التجريبي الذي كان سائدًا سابقًا، لم يغر الجمهور، الذي يريد أعمالا تجعله يفهم الواقع بشكل أفضل، أو يعيد قراءة الأحداث بطريقة أوضح. فيحيى جابر في (بيروت طريق الجديدة) يتحدث عن منطقة بيروتية معروفة لكن الناس يجهلون في العمق سكانها، وما يحدث فيها، كما مكوناتها ويومياتها ولهجتها» وتضيف صبرا «لينا أبيض في مسرحيتها (ألاقي زيك فين يا علي) تطرقت أيضا إلى فترة وجود ياسر عرفات في بيروت واعتمدت على البحث والتوثيق وانطلقت من الواقع». وتضيف «آخر مسرحياتي (الست نجاح والمفتاح) روت حكاية سكان عمارة، يشبهون أولئك الذين يقطنون العمارات القديمة، في علاقاتهم ومشكلاتهم وتعقيدات يومياتهم». يوافق يحيى جابر هذا الرأي، ويقول: «إنه يعتمد البحث عن المعلومات، ويعتقد أن الجمهور يريد أن يعرف وأن يفهم خاصة أن التلفزيون يفقد دوره تدريجيًا، والـ(توك شو) السياسي، ضيّع المعايير لم نعد نعرف من هو البطل ومن العميل. نحن في العملين اللذين نقدمهما الآن، نحاول أن لا ننحاز لجهة أو لفكرة نطرح الأفكار المتناقضة كما هي، نضعها أمام الناس. نحاول أن نكون فوق الطوائف والأحزاب. لا نريد أن نرضي أحدا ولا أن نزعل غيره. نقول للناس أنتم جميلون في بعض الأماكن لكنكم بشعون جدًا في أماكن أخرى». يقول يحيى جابر: «أقدم مسرحًا لا يتعالى على الجمهور، لكنه لا يهبط أيضا. نفضل تفادي خرافة النخبوية والتجريبية في المسرح، وأحيك مسرحياتي كما أكتب الشعر بالإصغاء إلى حواسي الخمس، وأستفيد من التاريخ والجغرافيا وعلم النفس والفولكلور». ويكمل جابر «المسرح يحتاج إلى الحرية إلى قصة جماعية وقصة الفرد الواحد في ذات الوقت. يدرك جابر جيدًا أن اللبناني له ذاكرة سمكة لا ذاكرة جمل، أي أنه ينسى بسرعة، وأنه شخص متقلب، قد يكون في الصباح مسلمًا وبعد الظهر سنيًا أو شيعيًا وفي المساء شخصًا آخر، وبالتالي فإن مخاطبة الجمهور على أن له هوية محددة المعالم، أمر لن يؤدي إلا إلى خسارة».
هذه ليست وصفة للنجاح وإنما توصيف ليحيى جابر للطريقة التي يعمل بها، والتي أكسبته جمهورًا عريضًا. فأحد لا يملك الوصفة السحرية التي تضمن جذب الجمهور إلى عمل مسرحي. فالمخرجة لينا خوري، وبعد عدة مسرحيات لقيت رواجًا أو إثارة ضجيجًا، تقول: إنها لا تعرف بالفعل ما الذي يجعل الناس، يأتون إلى المسرح اليوم أكثر من ذي قبل، أو ما هي مواصفات الأعمال التي يمكن تلقى إقبالا. وتشرح: «يجب أن لا ننسى أن الوضع الحياتي في لبنان متقلب، وأن عناصر كثيرة يمكن أن تتداخل، أو تطرأ لتؤثر في بقاء عرض أو تقصير عمر آخر. فحين يصادف افتتاح مسرحية مع وقوع انفجار مثلا، فهذا معناه أن الوضع غير مؤاتٍ». وتكمل خوري «أنا شخصيًا، لا أفكر في أن هذا الموضوع يجذب الجمهور أو ذاك أسلوب يغري بالحضور، لكن بالطبع هناك مواضيع تسّوق أفضل من غيرها، فمسرحيتي (حكي نسوان) قال البعض إنه حضرها لأنها جريئة، وأن فيها نساء يتحدثن كما لم يسمعوهن من قبل. لكن في رأيي، أن العمل نجح لأنه كان صادقا وتطرق بجرأة إلى مواضيع تهم الناس».
تتوافق عايدة صبرا ولينا خوري على أن ثمة تراجعا في المستوى، وكذلك في الذوق العام. وتقول خوري: «لا يزال الجمهور يصفق للكليشيهات حين تقال على المسرح، أو العبارات الوطنية الحماسية الجاهزة، أو النقد السياسي الذي لا تزال جمله هي نفسها تردد لاستثارة حماسة الحاضرين. وبكلام آخر تقول خوري: «ربما أن الناس يحبون أن يأتوا إلى المسرح، ليسمعوا ما يحبون سماعه، وليس بالضرورة ليصغوا إلى أفكار جديدة، تجعلهم يعيدون التفكير ببعض الأمور التي ألفوها». هل مسايرة الجمهور هي الحل؟ يرفض يحيى جابر هذه المقولة، ويشرح أنه يرفض إرضاء جهة أو التزلف لرواية، خاصة أن لكل طائفة في لبنان روايتها، ووجهة نظرها، ولكل حزب رأيه، فهو يضع كل الروايات معًا، يقدم وجهات النظر كما هي ويتركها تتصارع وتتصالح على الخشبة، ليرى الجمهور كل تناقضاته وصراعاته أمام عينيه، وهذا لا يمنع التصفيق والسخرية والمرح: «لأن اللبناني يعرف جيدًا أنه متقلب، يعرف أنه يمجد سارقه وقاتله وظالمه، وأنه يعاود اختياره وانتخابه. وبالتالي، فليكن المسرح مرآته، وربما أن هذا ما يحب أن يأتي ليراه ويتعرف عليه».
«المسرح اللبناني» يعود إلى الحياة بفضل «وصفات سحرية» جديدة
صالات تبصر النور وأعمال تعرض لسنوات

يحيى جابر وزياد عيتاني بطلا «بيروت طريق الجديدة» - عايدة صبرا في مسرحية {من الآخر}
«المسرح اللبناني» يعود إلى الحياة بفضل «وصفات سحرية» جديدة

يحيى جابر وزياد عيتاني بطلا «بيروت طريق الجديدة» - عايدة صبرا في مسرحية {من الآخر}
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة