اعتقد الكثيرون أن قصة هاري بوتر انتهت من دون حلم العودة، بعد انتصاره على اللورد فولديمورت الشرير في الجزء السابع من المجموعة الروائية الأكثر مبيعًا في التاريخ، وأن جيه كيه رولينغ قد طوت صفحته منطلقة في مرحلة ما بعد هاري بوتر إلى عوالم الكتابة للكبار هذه المرة (وظيفة شاغرة) و(ثلاثية كورموران سترايك) وغيرهما. لكن هذا الساحر الخارق العجيب الذي أعاد لقراءة الكتب ألقها بين جيل نشأ على الشاشات الإلكترونية، وتشكل وعيه مع محيطه في عملية إدمان حادة عليها، كادت أن تنسيه أصلاً ما هو الكتاب المطبوع، سيعود - في جزء ثامن (هاري بوتر والفتى الملعون) - وإن كان في إطار شكل جديد يعتمد العمل المسرحي أداة مركزية للسرد، مع توفير القصة في نسخة مطبوعة بالتوازي على شكل نص مسرحي يتضمن توجيهات بشأن كيفية أداء وإخراج بعض المقاطع.
بيعت تذاكر المسرحية التي ستفتح أبوابها في لندن نهاية يوليو (تموز) الحالي لعام كامل خلال أقل من 24 ساعة، ضاربة رقما قياسيا حتى في لندن - أم المسرح العالمي - لتستمر هذه الشخصية في كسر الأرقام القياسية العالمية في كل اتجاه. النص المسرحي المطبوع بدوره تصدر مبيعات الكتب في «أمازون» و«دار ووتر ستون» للكتب، رغم أن التوصيل لن يبدأ إلا في اليوم التالي للعرض الافتتاحي للمسرحية.
على ما يبدو أن بطلنا يقدم للقراء - من جيل معين، صغارًا وكبارًا - دائمًا -، في نقطة حرجة من التطور الاجتماعي والاقتصادي لبريطانيا أساسًا - وللغرب عمومًا - شخصية تتماهى مع حاجتهم إلى تقمص دور في رحلة ذات معنى لعصرهم، تقرأ على مستوى يعطي تفسيرا لمشاعرهم الحياتية. هاري بوتر من هذه الزاوية يمكن أن يجسد فكرة البطل المثالي لفترة التسعينات القاسية في بريطانيا وأوروبا. فبعد أزمات الاقتصاد والسياسة في عقود السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، تفشى بين الجمهور البريطاني مناخ كثيف من انعدام اليقين والالتباس الآيديولوجي، وتساقطت أمامه الأصنام كما الأساطير القديمة التي حكمت تجربة الجيل السابق منذ الحرب العالمية الثانية، كالحرب الباردة وجدار برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي. كانت تلك هي المرحلة التي تحول الاقتصاد البريطاني فيها نحو السياسات التاتشرية النيوليبرالية شديدة القسوة التي ضربت الطبقات الشعبية بلا رحمة، وأفرزت مناخات من اليأس وغياب البوصلة الأخلاقية، وربما الكفر بكل الآيديولوجيات.
يقدم هاري بوتر، الولد الهادئ الذي لا يثير كثيرًا من الاهتمام - الذي يأتي على صورة يتيم مطحون يعيش في ظل ظروف قاسية - نموذجًا يسهل التماهي معه عندما تنمو الشخصية بروية وسعادة وسلام داخلي عجيب، متحديًا كل الظروف الصعبة ليصبح في النهاية أعظم ساحر في زمانه، منتصرا بسحره على رموز أشرار هذا العالم.
هاري بوتر إذن هو ابن مرحلة توني بلير، حيث لا أفق إلا أن تقبل بما لديك بانتظار فرصة ما، ستأتي يومًا، وربما تحمل وحدها إمكانية تحقيق النجاح والحراك الاجتماعي بعيدًا عن القاع. بهذا المعنى يكون هاري بوتر بمثابة بوصلة أخلاقية ساذجة ربما، لكنها تعطي كثيرًا من الأمان والطمأنينة والتأكيد في مواجهة العالم القاسي.
ما تم تسريبه من معلومات حول الموسم الجديد يشير إلى استئناف القصة بعد 19 عامًا كاملة من اللحظة التي توقف عندها السرد في الجزء السابع، وأن هاري بوتر سيعود رجلا في منتصف العمر وقد تزوج وأنجب (ثلاثة أولاد) والتحق موظفًا حكوميًا في وزارة السحر وعضوًا في فريق خاص مكلّف بمطاردة ممارسي السحر الأسود، كما يفهم من التسريبات أن ابنه الأصغر سيلعب دورًا متزإيدا في تحمل مسؤولية تراث عائلته الذي فرض عليه وراثة، لا اختيارًا.
عودة الهستيريا (البوترية) بهذه السرعة وهذه القوة تدفع للتساؤل من جديد حول سر الجاذبية الاستقطابية الاستثنائية التي تتمتع بها شخصية هاري بوتر - وبالتبعية أعمال جيه كيه رولينغ الروائية جميعًا، وإن لم يبع أي منها رغم نجاحه النسبي ربع ما باعه هاري بوتر عبر العالم - ولمَ هي قادرة على إلهاب مخيلة الملايين دون انقطاع؟
النجاح منقطع النظير للعمل، الذي بدأ بجزء أول في عام 1999، فرض بالطبع مديحًا لا ينتهي لرولينغ ولأسلوب كتابتها الممتع. ومع ذلك، فإن بعض الذين تجرأوا وانتقدوا العمل اعتبروه جيدًا دون شك، لكنه يقصر عن أن يكون قفزة نوعية من الخيال الذي يقدمه مقارنة بأعمال الكتاب البريطانيين الآخرين الذين يكتبون في هذه المساحة من فانتازيا السحر (همفري كاربنتر) (تولكين) و(فيليب بولمان). فإذن أين يكمن السر؟
يقول البعض إن ما وراء الظاهرة هو جدلية النجاح السريع- الإنفاق السريع، الدخل الهائل المتحصل من مبيعات مليونية من الكتب وحقوق الأفلام والمنتجات الأخرى - هو دخل تجاوز بلايين عدة من الدولارات - ساعد تدريجيًا من خلال الاستثمار في برامج تسويق متقدمة عبر قنوات ووسائط مختلفة في الوصول إلى قطاعات واسعة من الجمهور الناطق بالإنجليزية أولاً، ثم باللغات الحية الأخرى لاحقًا. هذا التفسير منطقي وواقعي تمامًا، وهو نسق من أنساق العمل الأساسية في الاقتصاد المعاصر، وكان يمكن قبوله بالمجمل، لولا أن جمهور الكتاب الأول هو الأطفال وصغار المراهقين، وهي مجموعة أمينة في خياراتها على العموم - على الأقل مقارنة بالكبار - ويصعب التأثير عليها سواء من خلال الإعلانات أو حتى بسبب من تشكيك الأهل بالمحتوى؛ إذ لا بد أن سبعة مجلدات ضخمة تحتاج إلى كثير من الجاذبية الخارقة كي يستمر ولد أو بنت في قراءتها بشغف صفحة صفحة ومجلدًا مجلدًا (نحو مليون كلمة - أطول نص روائي في التاريخ). وعلى عكس الكثير من الأعمال التي يحبها الصغار، لكن الأهالي لا يفضلونها وتكون لهم مواقف سلبية منها، فإن هاري بوتر أثار حماس الآباء والأمهات أيضًا، وكثيرًا ما تسابق أفراد العائلة البريطانية الواحدة صغارًا وكبارًا على قراءة كل جزء جديد فور صدوره.
إذن، هاري بوتر بطل لذلك الزمان، كما هي رولينغ نفسها التي كانت تعيش على ما تقدمه الدولة لمساعدة الأمهات العازبات عند كتابتها للجزء الأول من السلسلة قبل أن تصبح من أغنى أغنياء بريطانيا. اليوم يعود هذا البطل، لكن إلى جيل مختلف. الأطفال الذين كبروا مع الصبي هاري بوتر صاروا اليوم شبانا وشابات في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم، وكثيرون منهم فقدوا وظائفهم بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، وعاشوا سياسة التقشف وربما صار عندهم عائلات، ولا شك أن كثيرين منهم صوّتوا في الاستفتاء الأخير على الانسحاب من أوروبا احتجاجًا أكثر منه اقتناعًا بحجج الطرفين.
هو جيل جديد، بهموم مختلفة وتطلعات مستحدثة. التحدي الحقيقي الآن لهاري بوتر - في الجزء الجديد - هو كسب رهان «الرّاهنية» كما كسبه بنجاح مع جيل التسعينات. رولينغ كاتبة ذكية وشديدة الحساسية للتحولات الاجتماعية في بلادها؛ لذا هي ربما دفعت بالشخصية 19 عامًا مرة واحدة من نقطة توقف السلسلة في آخر جزء من الرواية، ليبدو هاري بوتر وكأنه واحد من أبناء ذلك الجيل عُمرًا. يتبقى عليه الآن أن يثبت لنا أنه نضج وكبر كما أبناء ذلك الجيل، لكن في روح القرن الحادي والعشرين، وهو تحد ليس بالسهل إطلاقا، حتى على ساحر قدير مثل هاري بوتر.
«هاري بوتر» ابناً لمرحلة توني بلير
جزء ثامن من أطول نص في التاريخ وهذه المرة.. مسرحيًا
«هاري بوتر» ابناً لمرحلة توني بلير
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة