اقتحمت شرطة لوس أنجليس بيت المخرج مايكل شيمينو (77 سنة) بعد ظهر يوم السبت الماضي لتجده جثّة هامدة. الأسباب الفعلية للموت لم تعلن بعد لكن الخبر حط مزعجًا لمن عرف المخرج وسينماه والقيمة الفنية التي احتلها أيام ما كان للمخرج كلمة عليا في تلك المدينة العارية، هوليوود.
هو صاحب أفلام عرفت في السبعينات النجاح النقدي ومنحته إطلالة مشابهة في تكوينها لتلك التي عرفها أترابه من أمثال فرنسيس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي. هو كذلك صاحب أفلام أخرى تعثرت في طريقها صوب ذلك النجاح فحمل وزرها لمعظم سنوات حياته إن لم يكن لكل تلك السنوات. فمن ناحية أنجز «صائد الغزلان»، سنة 1978، حضورًا كبيرًا على منصّة الأعمال الفنية الكبيرة حتى من قبل أن يحصد خمسة أوسكارات متعاقبة في العام التالي: أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل ممثل مساند (كريستوفر وولكن) وأفضل صوت وأفضل مونتاج.
كان ذلك ثاني فيلم له. الأول فيلم منسي رائع عنوانه «ثندربولت ولايتفوت» قبل أربع سنوات من «صائد الغزلان». لكن مباشرة بعد فيلم الأوسكار ذاك وقعت لشيمينو حادثة اسمها «بوابة الجنة»: فيلم ضخم أسيء له على نحو غير مفهوم آنذاك وبقيت آثاره السلبية عالقة بسمعة شيمينو لسنوات كثيرة بعد ذلك حتى وإن عاد إلى العمل لينجز أربعة أفلام بعد ذلك آخرها «مطارد الشمس» الذي عرضه مهرجان «كان» سنة 1996.
وُلد مايكل شيمينو في نيويورك سنة 1939. كان والده المنحدر من أصول إيطالية قد حثّه على دراسة الهندسة المعمارية، وهذا ما قام به شيمينو بالفعل وتخرج في جامعة يال، في نيويورك، سنة 1961 بشهادة في هذا المجال. لكن خلال دراسته تلك انقلب ليدرس فن تصميم المناظر الذي أدّى به إلى اكتشاف كم هو قريب من السينما أكثر مما هو قريب من أي مجال آخر.
بعد ذلك وجد نفسه مخرج إعلانات تلفزيونية. عندما عرف والده بأنه غير من وجهته لم يشأ أن يتحدث إليه وامتدت القطيعة بينهما لنحو عام أو أكثر. لكن في النهاية كسر نجاح شيمينو ثلج العلاقة وعادت المياه إلى مجاريها.
في عام 1971 انتقل شيمينو إلى هوليوود مقتنعًا بأن مستقبله يكمن فيها وليس في نيويورك. في العام ذاته كتب أول سيناريو تم تنفيذه وهو «ركض صامت» الذي تم إنتاجه في العام التالي بإدارة المخرج دوغلاس ترومبول.
لا أحد يذكر هذا الفيلم اليوم، لكن سيناريو شيمينو الثاني منحه وضعًا مختلفًا. ففي الوقت الذي دخل فيه تروموبل تصوير «ركض صامت»، انكب شيمينو لكتابة سيناريو فيلمه التالي الذي سمّاه «قوة الماغنوم». حكاية التحري هاري كالاهان (ايستوود) الذي يكتشف خلية بوليسية تقوم باغتيال من ينقذون من العقاب قانونيًا. ايستوود قرر إنتاج هذا الفيلم وأسند إخراجه إلى الجيد تد بوست.
قبول ايستوود تبني شيمينو كاتبًا منح الثاني ثقة إضافية فقدّم لايستوود مشروعًا ثانيًا وطلب منه أن يخرجه بنفسه. المشروع فيلم بوليسي آخر عنوانه «ثندربولت ولايتفوت». ايستوود، كما قال لي في مكتبه في استوديوهات وورنر بعد سنوات كثيرة، فكر في أن يمنح هذا الكاتب الشاب الفرصة التي يتمناها لكي يصبح مخرجًا.
الأبواب من هنا بدت مشرعة وكانت كذلك فعلاً، مما مكّن شيمينو من العمل برويّة على كتابة وإخراج فيلمه اللاحق «صائد الغزلان»: دراما قاسية وعنيفة (وسياسيًا على الجانب الأيمن من خط الوسط) حول الحرب الفيتنامية. فجأة تنادى بعض أفضل وجوه السينما الأميركية للظهور فيه: روبرت دينيرو، وميريل ستريب، وكريستوفر وولكن لجانب ممثلين لمعوا في تلك الفترة وفي المقدّمة جون سافاج وجون كازال.
أنتج شمينو هذا الفيلم بنفسه لحساب «يونيفرسال». المشهد الذي يجرّب فيه الضباط الفيتناميون لعبة «الروليت الروسية» بالمسدس المحشو برصاصة واحدة قد تنطلق وقد لا تنطلق حسب موقعها، من بين أقوى مشاهد الفيلم وبلغ من تأثيره أن أدّى إلى قيام أغبياء بتطبيقها وبعضهم قضى فعليًا بسببه.
واجه شيمينو منتقديه من دون أن يعتذر لا عن العنف البادي في ذلك المشهد، ولا عن طريقة تصويره للفيتناميين.
إثر «صائد الغزلان» أمضى شيمينو أكثر من عام يبحث عن موضوع فيلمه المقبل بين تلال المشاريع التي انصبّت عليه. ثم أمضى سنة يكتب فيها سيناريو الفيلم الذي أراده. بعد ذلك أمضى عامين إلا قليلاً في التحضير له وإخراجه ثم أسبوعين قبل أن يسدل الستار عن أحد أكبر أفلام تلك الحقبة فشلاً.
الفيلم كان «بوابة الجنة» (1984) وشيمينو في تلك الفترة كان أصبح من نجوم المخرجين أسوة بكوبولا وسكورسيزي وسبيلبرغ. لذلك لم يضرّه الانتظار ولا التحضير المسهب بعدما تقدّمت شركة «يونايتد أرتستس» إليه بفكرة تنفيذ فيلم حول واقعة فعلية جرت أحداثها في الغرب الأميركي سنة 1890 وعرفت بـ«حرب مقاطعة جونسون». وافق المخرج ومنحته الشركة كل تأييدها و10 ملايين دولار لتنفيذ الفيلم ارتفعت سريعًا إلى 20 مليون دولار حتى من قبل أن يبدأ التصوير.
ما كان يؤمل به أن يكون فيلم وسترن يحققه مخرج تأسس على دمج الفن بالعمل الضخم طريقة كوبولا، وهذا الفيلم يبدأ بحفل عرس كبير كما بدأ فيلم كوبولا «العراب» وتصل مدة عرضه إلى أكثر من ثلاث ساعات ونصف (النسخة الكاملة)، تبلور إلى كارثة تجارية تسببت فيها عدة عوامل مختلفة خلال التصوير وبعده.
شيمينو، حسب كل الروايات المتاحة، قام بإعادة تصوير عدة مشاهد مكلفة في الأساس ممارسًا بندًا في العقد يخوله أن يمتلك زمام الأمور كما يريد.
الميزانية خلال ذلك تجاوزت أولاً ضعف المبلغ المحدد له فبلغت نحو 40 مليون دولار (مبلغ كبير جدًا في ذلك الحين) وحين حطّ الفيلم في الصالات التجارية سقط بشدّة. شمينو بنى قلعة كبيرة من العمل السينمائي ولم تبارح مكانها - هذا على الرغم من أن مهرجان «كان» فتح لها ذراعيه مرّتين.
شيمينو بعد هذا الفيلم ليس شيمينو قبله ومن حقه أن يكون شعر بالإهانة والاعتداء على ذاته الفنية. وغالبًا بسبب هذا الشعور نجد أن أعماله اللاحقة وإن حوت ملامح أكيدة من فنه كانت تعكس «شيمينو لايت» قياسًا بالفيلمين السابقين.
المنتج دينو ديلارونتيس مدّ يد العون لشيمينو بعد خمس سنوات من البطالة (كان اختير لتحقيق فيلم ميوزيكال بعنوان «قدم خفيفة» لحساب باراماونت لكن العرض سُحب منه خوفًا من التبعات وحققه التقليدي الأقل خيالاً هربرت روس). مشروع المنتج الإيطالي الذي تعامل مع هوليوود باتباع مدرسة إنتاجاتها الكبيرة كان «عام التنين»: دراما بوليسية عنيفة حول ذلك التحري ذي الأصل البولندي «ميكي رورك»، وهو يجابه انتشار الجريمة المنظّمة في قلب مدينة سان فرانسيسكو حيث الجالية الصينية الكبيرة.
«عام التنين» (1985) عمل جيّد حاول فيه شيمينو استعادة مكانته، لكنه لم يعكس في فيلمه اللاحق «الصقلي» (1987) أكثر من سعيه للتنفيذ وحده. أفضل منه فيلم شيمينو ما قبل الأخير «ساعات يائسة» (1990) مع ميكي رورك: إعادة صنع لفيلم حققه ويليام وايلر سنة 1955 من بطولة همفري بوغارت. بعد ذلك فيلم واحد بقي في جعبة شيمينو أنجزه بعد ست سنوات من «ساعات يائسة» وهو «مطارد الشمس»: فيلم مغامرات من كتابة سواه، حققه بنصف قلب ونال عنه إعجابًا بنصف قلب أيضًا.
انعكف شيمينو بعد ذلك عن العمل (حقق جزءًا من فيلم جماعي الإخراج بعنوان «لكل سينماه الخاصة» سنة 2007) لكنه بقي في البال كأحد علامات السبعينات المضيئة. حقيقة دفعتني للاتصال به وترشيحه رئيسا للجنة تحكيم دورة 2007 من مهرجان دبي السينمائي. كان آنذاك بات شخصًا منسيًا لا يذكره أحد وعلى الهاتف سألني: «لماذا أنا؟ هل تعرفني؟» أكدت له أنني أعرفه وشاهدت كل أفلامه ومعجب بما حققه. بدا عليه الارتياح ووافق على رئاسة لجنة التحكيم كما لو كانت حبل نجاة من الغرق.
حين حط في مهرجان دبي، حرص على مقابلتي ليشكرني ثم اختفى داخل لجنة التحكيم التي ضمّت المخرجة الجزائرية جميلة صحراوي والمخرج البحريني بسام الذوادي والمخرجة الألمانية مرغريت فون تروتا والسينمائيين والنقاد رنزو روزيلليني، وبيير أبي صعب وميرال الطحاوي. عندها فقط أخذت الأنباء تصل عن إدارة سلطوية مارسها شيمينو على أعضاء لجنة التحكيم وتوجيهه دفة الجوائز إلى حيث أراد.
ومع أن الجوائز كانت في مواضعها الصحيحة (فاز بالجائزة الأولى حينها «تحت القصف» للبناني فيليب عرقتنجي، وبالفضية الفيلم التونسي «آخر فيلم» لنوري بوزيد)، إلا أن تجربة أعضاء لجنة التحكيم، كما تناهى لاحقًا، لم تكن من تلك التجارب السعيدة.
مرّة أخرى وأخيرة تواصلت فيها مع شيمينو بعد انتهاء دورة المهرجان تمنيت له فيها أن يعود للعمل. رد قائلاً: «لكني أعمل. لقد أنجزت روايتي الأولى قبل سنوات (قصد «جين الكبيرة» سنة 2001 وسأباشر الثانية قريبًا». لكنه لم يباشر رواية أخرى مطلقًا.
كان ذا شخصية محيّرة على الصعيد الشخصي. بدا صغيرًا في السن، لكنه كان أكبر مما بدا وهو بالتأكيد أحاط سنة ميلاده الحقيقية (1939) بالكتمان إلى أن تم كشفها. إلى ذلك، عاش كأحد أفضل المواهب السينمائية في أميركا وعومل كما لو لم يكن. في هذا الصدد قال: «أنا لست من أكون، أنا من لا أكون» ثم ضحك كمن ألقى للمستمع لغزًا.
رحيل مايكل شيمينو أحد أهم أعلام سينما السبعينات المضيئة
مخرج موهوب وأفلام باهرة ولغز غامض
رحيل مايكل شيمينو أحد أهم أعلام سينما السبعينات المضيئة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة