من التاريخ: فرانكو.. حقبة «الديكتاتورية» في إسبانيا

فرانكو والملك خوان كارلوس
فرانكو والملك خوان كارلوس
TT

من التاريخ: فرانكو.. حقبة «الديكتاتورية» في إسبانيا

فرانكو والملك خوان كارلوس
فرانكو والملك خوان كارلوس

وقعت إسبانيا فريسة للحرب الآيديولوجية خلال عقد العشرينات من القرن الماضي كما تابعنا في الأسبوع الماضي. ويومذاك تناحرت القوى السياسية في البلاد إلى أن تنحى الملك الإسباني عن العرش تاركًا البلاد لآليات الانتخابات التي أسفرت عام 1933 عن تولي اليمين والوسط الإسبانيين الحكم؛ ما دفع اليساريين والقوميين المتشددين من ذوي التوجهات الفاشية للتكاتف نحو تأسيس «الجبهة الشعبية» لمواجهة المتغيرات الجديدة التي أدخلتها الحكومة اليمينية. ولاحقًا نجحت «الجبهة» بتولّي الحكم إثر فوزها في انتخابات عام 1936 فغيّرت مجرى السياسية في البلاد. ومن ثم، اشتعلت الحرب الأهلية التي تدخل فيها الجنرال فرانشيسكو فرانكو على رأس غالبية الجيش بعدما سعت «الجبهة الشعبية» لعزل هذه القيادات.
القيادات العسكرية استولت، بالتالي، على الحكم في إسبانيا تحت قيادة فرانكو الذي أعلن قيام الديكتاتورية وسيطر على مقاليد الحكم تحت شعار الحزب الواحد ومبادئ الكنيسة الكاثوليكية، مع إيمان راسخ بالملكية. وهكذا بدأ مرحلة جديدة في تاريخ إسبانيا استطاع خلالها أن يحافظ على الحياد غير الإيجابي إبان الحرب العالمية الثانية نظرًا لتعاطفه الشديد مع دول «المحوَر»، تحديدًا ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، التي دعمت قواته أثناء الحرب الأهلية ضد اليساريين.
كانت لدى فرانكو، الذي اشتهر بلقب «الكودييو»، أي القائد أو الزعيم، قناعاته الفكرية والعقائدية المحافظة المتشددة. فالرجل كان مؤمنًا إيمانًا مطلقًا بدور المسيحية في بلاده بصفتها جزءا من نسيج هذه الأمة، تمامًا كما كان مؤمنًا بفكرة الملكية باعتبارها أساس الحكم، إلا أن الظروف لم تكن تسمح بذلك آنذاك لأنه كان يعتبر الملك ضعيفًا والدولة متفسخة ما بين يساري ويميني وليبرالي، ويرى أقاليم تسعى للانفصال عن الدولة.
وواقع الأمر أن بقاء الدولة الإسبانية كان في مهب الريح عندما بدأ فرانكو عهده الديكتاتوري، فما كان منه إلا أن فرض نظامًا صارمًا بحكم القوة، فألغى عددًا من القوانين كانت مثار جدل داخلي في البلاد، وبخاصة المتعلقة منها بالكنيسة التي أعاد إليها رونقها إلى حد كبير، فجعل المسيحية الكاثوليكية الدين الرسمي للدولة، ومنع الطلاق والزواج المدني، وأعاد أملاك الكنيسة بعد مصادرتها. غير أنه أصر في المقابل على حق الدولة في تعيين الأساقفة، وهو ما كان سابقًا حقًا تاريخيًا للكنيسة في روما. أما السبب فهو تخوفه من الأفكار التي قد يجلبونها للبلاد، ثم إنه أنهى تمامًا «الحكم الذاتي» لإقليمي قطالونية (كاتالونيا) والباسك اللذين كانا يعدان للاستقلال عن المملكة الإسبانية، بل زاد في الأمر من خلال منعهم من التكلّم بلغتهم الأصلية وفرض اللغة الإسبانية عليهم فرضًا.
على صعيد السياسة الخارجية، واجه فرانكو مشكلات كثيرة، على رأسها اندلاع الحرب العالمية الثانية بين «الحلفاء» ودول «المحور» التي، كما سبق، كانت تربطه بدوله علاقات قوية وبخاصة إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية اللتان قدمتا له المساعدات إبان الحرب الأهلية. عند هذه النقطة تبنى فرانكو سياسة حصيفة بعيدة المدى إلى حد كبير، ذلك أنه على الرغم من تعاطفه مع «المحوَر»، قرر وضع ثمن عالٍ مقابل انضمامه إلى دوله رسميًا؛ إذ طلب من الزعيم النازي أدولف هتلر تسليم المغرب لإسبانيا ومعها جبل طارق الواقع تحت السيادة البريطانية وأجزاء من الجزائر. وعندما رفض هتلر هذا المطلب اختار فرانكو تثبيت وضعه بصفته «متعاطفا غير منضم للمحوَر» Pro - Axis Non - belligerent كما وصفه أحد المؤرخين، وذلك على الرغم من أن الجيش الإسباني كان يدفع نحو انخراط إسبانيا في الحرب بجانب «المحور».
حصافة فرانكو وحكمته ورؤيته السياسية الاستراتيجية كانت أوسع، وآتت ثمارها فعلاً. فلقد ضمن تعاطف «المحور» لكن من دون أن يكلف بلاده ثمن الانخراط في حلف رسمي معه سيكون ثمنه باهظًا في حالة هزيمتهم، وهو ما حدث بالفعل. فبعد هزيمة «المحور» في الحرب العالمية الثانية، خرج فرانكو بكراهية الغرب بقيادة الولايات المتحدة ولكن ليس بصفته عدوا مهزوما. كذلك على الرغم من تعدّد محاولاته للتقارب مع «الحلفاء» ظل الغرب نافرا منه، وبخاصة بريطانيا التي كانت ترى فيه عدوًا مستترًا، وهنا اضطر فرانكو للجوء إلى عمليات إصلاح سياسي داخلي أتت في مجملها شكلية، فقد أطلق في مايو (أيار) 1945 صكوك الحريات التي كفل من خلالها الحقوق الفردية والجماعية للأفراد، إضافة إلى حرية العقيدة والتعبير. ولكن واقع الأمر أن النظام السياسي في إسبانيا ظل على نهجه الديكتاتوري البحت بوجود حزب واحد يختصر عقيدة الأمة دون غيره، وكانت الكاثوليكية تمثل فيه الوعاء الثقافي للبلاد وجزءًا أساسيا من الهوية الإسبانية.
من ناحية ثانية، انتهج فرانكو سياسة خارجية تهدف للتقارب مع «الحلفاء» المنتصرين في الحرب، ولكن لبعض الوقت باءت كل محاولاته بالفشل. ومنذ اجتماع الثلاثة الكبار في «قمة بوتسدام» بألمانيا ودعوتهم للتغيير في إسبانيا بقي النظام السياسي على وضعه مقاومًا كل الضغوط الخارجية، وبخاصة البريطانية والأميركية، وازداد الوضع صعوبة عندما رفضت الأمم المتحدة عضوية إسبانيا وأصدرت توصية بسحب السفراء الأجانب من مدريد طالما بقي حكم فرانكو. ومع ذلك ظل النظام ثابتًا مقاومًا للضغوط الغربية حتى اندلاع «الحرب الباردة» بين المعسكرين الغربي والشرقي، عندما استغل فرانكو حاجة الغرب إليه من أجل ضم إسبانيا إلى الكتلة الغربية ضد الاتحاد السوفياتي. وفي نهاية المطاف اضطرت الولايات المتحدة لتقبّله أمرا واقعا، بل بدأ تقارب بين فرانكو وواشنطن إلى أن فرض الديكتاتور نفسه على السياسة الغربية تدريجيًا من خلال سياسة متوازنة وغير مستفزة للغرب، ومنها إصداره مرسومًا يقضي بأنه في حالة موته أو عجزه عن الاضطلاع بمهام وظيفته فإن الحكم في إسبانيا سيؤول إلى أسرة «البوربون» الملكية باعتبار أن فترة حكمه هدفها في النهاية وضع إسبانيا على الطريق الصحيحة، إضافة إلى إيمانه الشديد بالملكية.
لقد استطاع فرانكو أن يستميل واشنطن له ويدخل في تحالف معها لمواجهة الخطر الشيوعي على القارة الأوروبية، وهو ما بدأ يسمح لباقي أوروبا بتطبيع العلاقات معه، فلم تعد إسبانيا دولة «مارقة» على المستوى الأوروبي. وسرعان ما رفعت كل العقوبات ضدها في عام 1953 وانضمت إلى «خطة مارشال» التي حصلت بمقتضاها على دعم مالي مثل أي دولة أوروبية خارجة من الحرب العالمية الثانية. كذلك استطاع فرانكو بمرور السنوات إدخال إسبانيا ضمن الأسرة الأوروبية، بل إنه بحلول مطلع الستينات بدأت إسبانيا تستقبل الاستثمارات والسياحة الأوروبية، وهكذا استطاع أن يحافظ على حكمه ويطبّع العلاقات مع باقي الدول.
أما على الصعيد الاقتصادي، فقد تسلم فرانكو البلاد وهي في حالة مالية واقتصادية سيئة بعدما خرجت من الحرب الأهلية متفتتة الأوصال، وزاد من حدة المشكلات المرتبطة بذلك فرض الغرب العقوبات الدولية على بلاده. إلا أنه استطاع استغلال العقوبات بصفتها أداة لتقوية الاقتصاد الإسباني والاعتماد على الذات. وهكذا وضع فرانكو نظامًا كثيرًا ما يوصف في كتب الاقتصاد بـ«الأوتاركية» Autarky، أي «تحكم الدولة في المسيرة الاقتصادية بحيث تكون هذه الأنشطة تحت سيطرة الدولة». ومن ثم، نظم النشاط الاقتصادي في الدولة من خلال تنظيم العلاقة بين رأس المال والنقابات المختلفة عبر الحفاظ على علاقة متوازنة بين قطبي الإنتاج، كما فتح المجال أمام تكامل إسبانيا مع الاقتصاديات الأوروبية والتركيز على المزايا التنافسية لبلاده، وبخاصة في المجال الزراعي والصناعي، إلى أن حدث ما أطلق عليه «المعجزة الإسبانية». وبالفعل، حقق الاقتصاد الإسباني أعلى معدلات نمو وصلت لأعلى من 10 في المائة منافسة بذلك اليابان، كما أخذ يستغل السياحة تدريجيًا ويجعلها قاطرة أساسية للاقتصاد، قبل أن تتسبب أزمة البترول العالمية في 1973 إلى تراجع نسب النمو بشكل كبير.
ولكن مع مرور الزمن، كما هو شأن كل الديكتاتوريات، بدأ نظام فرانكو يدخل مرحلة الكهولة فالشيخوخة السياسية تدريجيًا وبخاصة في منتصف الستينات؛ إذ أخذت صحة الديكتاتور العجوز تضعف تدريجيًا، إلى أن دخل في غيبوبته الأخيرة وتوفي يوم 20 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1975. ولعل من مفارقات القدر أن تركة هذا الديكتاتور لبلاده كانت الديمقراطية متمثلة في الملك خوان كارلوس الذي خلفه (تنازل عن العرش لاحقًا عام 2014 لابنه الملك فيليبي). وفي عهد خوان كارلوس استعادت الديمقراطية بعد فشل التجربة مرارًا، ومع ذلك يظل تقييم فرانكو حتى اليوم مثار خلاف في إسبانيا ما بين مؤيد ومعارض.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.