«داعش» في المطارات

أصبحت مصايد لها على طريقة أحداث «شرم الشيخ» و«شارل ديغول» و«أتاتورك»

«داعش» في المطارات
TT

«داعش» في المطارات

«داعش» في المطارات

سلط الاعتداء الدامي الأخير الذي تعرض له مطار أتاتورك الدولي في مدينة إسطنبول، العاصمة الاقتصادية والثقافية لتركيا، وتوجيه أصابع الاتهام في المسؤولية عنه لتنظيم داعش الإرهابي المتطرف، الضوء على نقلة نوعية في إرهاب الجماعات الإرهابية المسلحة. وحسب مراقبين فإن المطارات باتت الآن هدفًا بالنسبة لهذه الجماعات وعلى رأسها «داعش»، ولا سيما، بعد عدة حوادث شهدتها أو ارتبطت بها مطارات عالمية بينها مطار شارل ديغول في العاصمة الفرنسية باريس ومطار بروكسل - زافينتيم الدولي في بلجيكا ومطار شرم الشيخ الدولي في شبه جزيرة سيناء المصرية.
«داعش في المطارات». ليست هذه صيحة إنذار أو جرس تنبيه في عملية أمنية افتراضية يتم التدريب عليها أو تصورها، وإنما أصبحت حقيقة ماثلة على الأرض، خاصة، بعدما غيّرت المنظمات المتطرفة، وفي مقدمتها تنظيم داعش الإرهابي الذي يعد اليوم أكثر التنظيمات المتطرفة نشاطا خلال الفترة الماضية، توجهاتها وتقنيات استراتيجيتها الإرهابية. والحال أن مطارات العالم أصبحت تمثل الآن «مصايد» جديدة تصطاد من خلالها جماعات العنف المزيد من الضحايا الأبرياء، لبث عنف أكثر، وتأكيد قدرتها على اختراق المطارات التي هي عادة من الأماكن الأكثر تأمينا في دول العالم.
خبراء أمنيون معنيون في هذا الشأن قالوا لـ«الشرق الأوسط» إن «استهداف المطارات الدولية لأنها أكثر الأماكن مثالية، وتضم الكثير من الجنسيات، وبالتالي وقوع عدد أكبر من الضحايا»، موضحين أن «استهداف المطارات من قبل تنظيم داعش تغير نوعي في تكتيكات الجماعات المتطرفة لإحداث «فرقعة إعلامية» وإثبات فشل سلطات الدول في مواجهة التنظيمات الإرهابية. وتابعوا أن العمليات الإرهابية التي تقع في أي مطار بالعالم دائمًا ما تتسبب بتأثيرات ممتدة إلى كل المجالات الاقتصادية وغيرها، وذلك نظرا لطبيعة المكان الذي يستخدمه أصحاب مختلف الوظائف والمهن، فخسائر البورصة تكون فورية، والخسائر في قطاع السياحة تظهر آثارها سريعا، والأمر نفسه يصدق على باقي المجالات الأخرى التي لها علاقة بالمطارات.
جانب آخر مهم، هو أن الجماعات الإرهابية تضمن عبر إجرائها أي عملية في مطارات العالم، اهتماما إعلاميا عالميا بالحادث على أوسع مدى، نظرا لتعدد الجنسيات التي تكون موجودة في المطارات، بخلاف أي مكان آخر يكون الاهتمام به على النطاق المحلي فقط. ولقد جدد التفجير الانتحاري الذي وقع في مطار إسطنبول - أتاتورك بتركيا قبل أيام، الحديث عن مخطط «داعش» الإرهابي الجديد لاستهداف المطارات، ومن المرجح أن يتبنى التنظيم مسؤوليته عن الهجوم الذي سقط فيه نحو 50 قتيلاً ونحو 147 من الجرحى وإن كان لم يفعل في الهجمات السابقة. إذ لم ينس العالم كله حادثة طائرة «مصر للطيران» التي أقلعت من مطار شارل ديغول في باريس وانفجرت في مياه البحر المتوسط قبل وصولها للقاهرة، وسط ترجيحات بتورط «داعش».

بصمات «داعش»
مراقبون حاورتهم «الشرق الأوسط» قالوا إن «هجوم مطار تركيا يحمل بصمات (داعش) بسبب الموقع الذي اختاره المسلحون لتنفيذ التفجيرات الانتحارية والأسلوب الذي اتبعوه، وطريقة تنسيق الهجوم باستخدام الأسلحة والمتفجرات، وهي طرق متعارف عليها عند الدواعش». ويشار إلى أن مطار أتاتورك، الواقع في ضواحي إسطنبول، يمثل نقطة التلاقي الرئيسية لنحو 30 مليون شخص يزورون تركيا كل عام، كما أنه أيضا المركز الرئيسي لشركة الخطوط الجوية التركية، وهي العلامة التجارية الدولية الأكبر للنقل الجوي في البلاد، ناهيك من أنه بوابة الأعمال التجارية في إسطنبول. وللعلم، عملية إسطنبول التي استهدفت ساحة انتظار السيارات المقابلة للباب الخلفي للمطار، جعلت الكثير من دول العالم تفقد الثقة في تأمين مطارات تركيا وقامت بإلغاء رحلاتها الجوية من وإلى مطار أتاتورك، وسط مخاوف من استهدافات أخرى بأماكن متجددة في العالم.
اللواء أحمد رجائي عطية مؤسس الفرقة 777 لمكافحة الإرهاب الدولي في مصر، قال في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن «استهداف المطارات من قبل جماعات العنف لكونها أكثر مثالية في الضجة الإعلامية والعالمية، ولأنها تضم الكثير من الجنسيات وتوقع ضحايا أكثر»، موضحا أن «استهداف المطارات من قبل تنظيم داعش يُعد تغيرا نوعيا في تكتيكات الجماعات المتطرفة». ويشار إلى أن المطارات من أكثر الأماكن المكلفة ماديا لأي دولة في العالم، نظرا لصعوبة إنشائها وحاجتها إلى تقنيات عالية، خاصة أن خدمة الطيران هي الأعلى في القيمة المادية ما بين كل وسائل النقل، لذا فإن أي خسارة تحدث في تلك الأماكن تُسفر عن خسائر فادحة، حتى وإن كان الانفجار أو العملية – التي قد تكون في الغالب انتحارية - محدودة التأثير، وذلك بسبب حساسية المكان، وطبيعة رواده. وعلى سبيل المثال فإن العمليتين الانتحاريتين اللتين وقعتا في مطار بروكسل - زافينتيم الدولي العاصمة البلجيكية بروكسل مارس (آذار) الماضي، وأسفرت عن وقوع 16 قتيلا، تسببت في خسائر مادية وصلت إلى مئات ملايين اليوروات، وذلك وفقا لتقارير غير رسمية.
من جهته، قال اللواء محمد نور الدين، مساعد أول وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «حوادث الطرق عندما تحدث في العالم لا تكون مؤثرة إلا في المكان الذي وقعت فيه، وسرعان ما تدخل في (دائرة النسيان) بعدها بفترة قصيرة؛ لكن حوادث الطائرات تسمع العالم كله. والجماعات الإرهابية توجه رسالة إلى العالم مفادها أننا موجودون ونمثل خطرا عليكم ووصلنا لأماكن أكثر حساسية وتأمينا»، لافتا إلى أن «الجماعات المتطرفة تهدف من عملها الإرهابي بث مزيد من الرعب والفزع، ومحاولة تأكيد فشل سلطات الدول بالوقوف في وجهها، حتى تصدر مبدأ عدم الثقة من المواطنين في سلطات دولهم»، مضيفا أن «استهداف المطارات بتفجيرات يهدف إلى عمل (فرقعة) كبيرة لكون هذه المواقع هامة جدا للدول».
لكن اللواء نور الدين، أوضح أنه «لا يجب أن نتخوف من تصرفات الجماعات الإرهابية، وألا ترعبنا تصرفات هذه التنظيمات باستهداف المطارات، وأن تراجع الدول من وقت لآخر خطط تأمين مطاراتها، فضلا عن تطوير خط التدريب على مواجهة أساليب الجماعات الإرهابية.

اهتمام «داعش» بالمطارات
على صعيد آخر، يشار هنا إلى أن «داعش» لا تهدف فقط إلى استهداف المطارات والطائرات بعمليات تفجيرية؛ بل إنها تمتلك مجموعة صواريخ متوسطة المدى بالإضافة إلى منظومة كاملة للدفاع الجوي من راميات وصواريخ مختلفة الاستعمال. ولديها الكوادر الأجنبية المدربة على استعمال كل أنواع الطائرات وإطلاق الصواريخ، وما ينقصها هو بعض المطارات التي تنطلق منها. لذلك كان التوجه السريع لأفضل وحداتها البرية نحو مطارات المناطق التي تسيطر عليها في سوريا والعراق، فسقط بيدهم مطار الطبقة العسكري قرب الرقّة رغم مزاعم النظام السوري أنه كان يحاربهم بسلاح الجو، ويخطط التنظيم أو تتجه نحو مطار دير الزور العسكري الذي يحوي نحو 12 في المائة من القدرة الجوية للنظام السوري، وإذا ما سيطرت عليه سيكون بإمكانها خوض حرب حقيقية مع جميع خصومها بمن فيهم سلاح الجو الأميركي وقوى التحالف الدولي – بحسب الخبراء.
وكانت طائرة تابعة لشركة «مصر للطيران» في مصر قد تحطمت وهي في طريقها من مطار شارل ديغول الدولي في باريس إلى القاهرة، مما أسفر عن مقتل كل من كانوا على متنها وعددهم 66 شخصا، بينهم 30 مصريا، و15 فرنسيا. وما زال يرجح مسؤولون مصريون فرضية أن يكون العمل الإرهابي وراء تحطم الطائرة، وحال ثبوت هذه الفرضية بأن الطائرة المصرية تم تفخيخها قبل إقلاعها من باريس.. فهذا يعني أن المتفجرات مرت على أجهزة التفتيش دون اكتشافها وهذا مؤشر خطير، مؤكدين أنه «لو صح هذا التصور فهذا يؤكد وجود خلايا للتنظيمات الإرهابية موجودة في فرنسا منذ أحداث نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قد اخترقت مطار شارل ديغول، المطار الأشهر في أوروبا، مما قد يُنذر باختراقات مماثلة في مطارات أخرى في المستقبل، مشيرين إلى أن ذلك قد يتسبب في شلل العالم، عبر تنفيذ سلسلة من الهجمات في أكثر من مطار، وفي توقيتات متزامنة.
الخبير الأمني والاستراتيجي في مصر اللواء طلعت مسلم، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك احتمالا قائما أن العالم الآن أمام تقنية جديدة للتنظيمات الإرهابية تُصعب على الأجهزة الأمنية الكشف عن العبوات أو المتفجرات في المطارات»؛ لافتا إلى أنه لو توصلت سلطات الدول إلى أن المطارات التي وقعت بها التفجيرات وراءها قنابل وعبوات يدوية، فهذا يعني أن العبوات الناسفة قد مرت على أجهزة التفتيش في المطارات دون أن يلحظها أحد، وهذا مؤشر خطير من أن هذه المتفجرات قد مرت من أجهزة التفتيش من دون أن يتم اكتشافها أو رؤيتها، وهذا يدل على تطور خطير للجماعات الإرهابية. ومن جهة ثانية، قال خبراء ومراقبون معنيون بشأن التنظيمات الإرهابية إن تنظيم داعش يمتلك أساليب تصنيع قنبلة الدخان، المسماة علميا «القنبلة المجهرية». وكان خبير المتفجرات بالتنظيم إبراهيم العسيري – بحسب مزاعم التنظيم - أمر باستخدامها حينما كلف النيجيري عمر فاروق بتفجير طائرة تابعة لـ«نورثويست إيرلاينز» أثناء هبوطها في مطار ديترويت بولاية ميتشيغان الأميركية، واستطاع الأخير اختراق المطار، نظرا لأنه من الصعب على أجهزة الكشف عن المعادن والمتفجرات رصدها؛ لكنه أخفق في تفجيرها، بعدما أبلغ عنه أحد زملائه.
وفي السياق نفسه، يرجح الخبير الأمني والاستراتيجي بمصر اللواء خالد عكاشة أن يكون وراء حادث الطائرة المصرية الأخير، بعض خلايا التنظيمات الإرهابية، التي قامت من قبل بتنفيذ عمليات كبيرة في العاصمة الفرنسية باريس خلال الأشهر الماضية، لافتا إلى أنه «ربما تكون هذه الخلايا لديها اختراق للمطار، رغم أنه المطار الأشهر في أوروبا، وإن صح هذا التصور، فهو أمر خطير». وهنا تجدر الإشارة إلى أنه يصعب تصنيف مرتادي أي مطار في العالم، رغم وسائل التكنولوجيا الحديثة، فالطبيعي أن المطار يستقبل أشخاصا من كل جنسيات العالم، ويمكن لأي شخص غير مطلوب لجهات أمنية السفر إلى أي مكان؛ لذا يكون مستحيلا تحديد هوية هؤلاء المسافرين أو ميولهم. لكن بعض الخبراء أكدوا أن «بعض سلطات المطارات قد أجرت فحصا أمنيا روتينيا على أطقم الموظفين في المطارات، في أعقاب الحوادث الإرهابية التي شهدها عدد من المطارات مؤخرا، وفي باريس مثلا تم فصل 12 موظفا بسبب صلاتهم بالتيار ببعض الجماعات المتطرفة، وذلك في أعقاب أحداث نوفمبر من العام الماضي. ويقول مراقبون إن «داعش» استطاع خلال عام 2015 تطوير نوعية القنابل والتي من الممكن وضعها في الملابس الداخلية، والقدرة التفجيرية للقنبلة الواحدة قوية جدا.

تداعيات العمليات
وقال اللواء أحمد رجائي إن «داعش» يتحرك بحسب السياسة العالمية، لافتا إلى أن ما حدث في مطار شرم الشيخ مع الطائرة التي سقطت في سيناء كان معدا مسبقا أن تنفجر الطائرة على الأراضي المصرية، حيث إن الطائرة كانت قادمة لمصر من دون ركاب وقد يكون تم وضع القنبلة لها قبل وصولها لمصر، بدليل أنها بمجرد إقلاعها من مطار «شرم الشيخ» انفجرت، وكان هذا التوقيت معمول حسابه جيدا.
أما اللواء محمد نور الدين، مساعد أول وزير الداخلية المصري الأسبق، فيرى أن تأمين المطارات في مصر والعالم على أعلى مستوى، وهي مؤمنة وبها أخطر نظم التأمينات، وصعب جدا اختراق أي منها. بينما يرى المراقبون أن هناك مخاوف الآن في الغرب من قيام «داعش» بهجمات مُتلاحقة، خاصة بعد أن طور التنظيم من قدراته القتالية بشكل يتيح له شن هجمات إرهابية كبيرة على الصعيد العالمي، خاصة بعد تهديدات «داعش» الأخيرة للغربيين بتنفيذ هجمات قد تنسيهم أحداث 11 سبتمبر في أميركا – على حد زعم التنظيم. ويلفت المراقبون إلى أن «ما توعد به التنظيم ضد الغربيين عقب تفجيرات بروكسل في مارس الماضي، كان مُؤشرا خطيرا جدا، وكان يتطلب أكثر اكتراثا واهتماما لتطور أسلوب التنظيمات الإرهابية، خاصة (داعش) الأخطر دموية في جميع التنظيمات المُتطرفة».
في سياق آخر، يشكل اكتساب «داعش» قدرة على استهداف الطائرات تطورا مثيرا، بالنظر إلى دقة النظام الذي طوره والذي يصيب أهدافه من الطائرات بنسبة 99 في المائة، كما استطاع خبراء «داعش» أن يطوروا سيارات مفخخة بمثابة قنابل متحركة بالقرب من المطارات، لتوجيهها عن بعد صوب الهدف المراد تفجيره. ويقول المراقبون إن التنظيم أنتج بطارية حرارية في الرقة لأجل الاستخدام في صواريخ أرض - جو، وهو أمر لم يكن واردا، بالنظر إلى غياب بنية عسكرية في المناطق التي يسيطر عليها بسوريا. وأكد المراقبون أنه بشأن المتفجرات التي يستخدمها «داعش» في استهداف المطارات، فإن هذه القنابل لا تتطلب سوى بضع عشرات من الغرامات من المواد الكيماوية التي يُمكن وضعها في الأحذية، أو زرعها في جسم أحد الانتحاريين خصوصا في الصدر والبطن أو في الملابس، لتفادي أجهزة الكشف على المعادن في المطارات، بهدف تفجير تلك القنابل على متن طائرات الركاب.
ويؤكد المراقبون أن القنابل «الجسدية» لا تستطيع الماسحات الضوئية في مطارات الغرب اكتشافها، وأن تفجير تلك القنابل يتم باستخدام عملية جراحية تجرى للانتحاري، الذي يفجر نفسه، أو عن طريق إخفائها بأي وسيلة أخرى، ما يتسبب في النهاية بعملية حريق كبير، داخل الطائرة المستهدفة.
ويقول اللواء محمد نور الدين، إن تنظيم داعش الإرهابي يعتمد تكتيكا جديدا يقوم على استهداف المطارات والمنشآت الحيوية المكتظة بالبشر بشكل متزامن، بهدف نشر الذعر وإيقاع أكبر عدد من الضحايا.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.