الخوف من الجمال ومطاردته روائيًا

علي عيد يسائل غوايته في روايته «شطح الغزالة»

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

الخوف من الجمال ومطاردته روائيًا

غلاف الرواية
غلاف الرواية

يتناوب الجمال والخوف، مدارات السرد والحكي وصراع الشخوص في رواية «شطح الغزالة» للروائي المصري علي عيد، الصادرة حديثا في سلسلة روايات الهلال بالقاهرة. وفي ظلالهما المعقدة والمتشابكة يدفع الكاتب ببطلته «نادرة» الأنثى الشابة، باذخة الجمال إلى خوض مغامرة حياة متقلبة اجتماعيا وعاطفيا، حيث يطاردها جمالها الفاتن كلعنة، يتشابك في خيوطها ميراث طويل من الإحساس بالقمع وعدم الأمان في واقع اجتماعي مضطرب، وفي كنف أسرة مصرية متوسطة الحال.
في هذا الواقع تتذكر البطلة دائما طفولتها، كأنها زمن سرق منها، عاشته غصبا وبالإكراه، مجبرة على لبس النقاب، وهي بعد طفلة تخطو خطواتها الأولى على عتبات الحياة، تتذكر قبضة الأم الغليظة وعينيها المرتجفتين وهي تسحبها كل صباح حتى باب المدرسة.
لم يكن ارتداؤها النقاب بدافع أي شيء آخر، سوى صيانة الجمال القابع تحته. إنها غريزة خوف أم على ابنتها الوحيدة، لا يزال عالقا في ذاكرتها مشهد أسرتها وهي تنهار على إثر حادث اغتصاب تعرضت له شقيقتها الصغرى الجميلة (خالة البطلة)، أودى بحياة الأب والأم، وظل مصير الشقيقة المغتصبة طي المجهول.
في كنف هذا الحصار الخانق من الخوف والتوجس تجاه الواقع تنشأ البطلة وتنمو حيواتها، وتتشكل هواجسها حول نفسها وجمالها، وكأنها مغامرة لا بد أن تخوضها، كسرا لهذا الحصار، والخروج إلى المعنى الأرحب والأشهى للحياة.
لكن نادرة عبثا تحاول التمرد، خاصة أن والدها الذي تحبه وتأمل في أن يخلصها من هذا القيد، ترك زمام الأمور لأمها، تحت وطأة انشغاله في تجارة الأقمشة، لكن مع إفلاسه وموته المفاجئ، تتحول دفة الصراع لصالحها، تتزوج «المعداوي» صديق والدها رغم أنف أمها وتترك كل شيء، العيش في المدينة ومواصلة تعليمها، ولا تعبأ بفارق السن الشاسع بينهما، مودعة المدينة وأمها بدمعة ظلت حبيسة صدرها.
تصف الرواية هذا الحصار قائلة: «كانت هناك دائما الرغبة في أن تتحرر من أمها، وكانت تنتظر اليوم الذي تتحلل فيه من قيدها.. ولم تعرف أن أمها كانت تتحرر هي أيضا من ماضيها، فثمة قهر مركب كان يمسك».
في المركب التي توصلها إلى قرية المعداوي وبيته، تخلع «نادرة» النقاب، وتلقيه في النهر، لتبدأ أولى خطوات التحرر، متباهية بجمالها تحت شمس حياة جديدة، وفي حضن رجل هي زوجته الأولى، سيوفر لها الأمان، بعد أن عاش حياته كلها يجمع المال، ويرعى وحدته في بيته الفسيح وحديقته المثمرة.
تحدث «نادرة» بجمالها الأخاذ السافر عاصفة بين رجال القرية ونسائها، وتحرك نوازعهم نحو التودد إليها والتقرب منها، بشتى الطرق، فعلى حافة النهر، وكما تقول الرواية «تحركت أعناق البنات وعيونهن إليها وهن يغسلن ملابسهن، كأنها هبطت عليهن من عالم آخر.. غمرتهن الدهشة تأملنها وتأملتهن، حتى اختفت، كانت تلف وتدور بقصد التعرف على القرية».
بعد موت زوجها «المعداوي» العجوز، ومع تكرار تجربة الموت مع أكثر من زوج، تتحول «نادرة» بجمالها الفاتن إلى لعنة، تتنوع مرارتها وحلاوتها على ألسنة النساء، والرجال. لكن الوحدة تعتصرها، وتكثف مخاوفها
وتحت وطأة الشعور بالوحدة بعد رحيل زوجها توافق على الزواج بعمدة القرية، بعد أن سعى إليها بشتى السبل، بشرط أن يكون مهرها أن تملك (المقهى الأثري المطل على النهر). لكن سرعان ما يموت العمدة، بعد أن دست له زوجته السابقة قطرات من دم حيضها في طعامه. ومرة أخرى بدأ حصار الوحدة يضرب بطوقه حول نادرة فتزوجت من محمد الوجيه أحد أثرياء القرية (من رواد المقهى الأثري) والمثقف الذي يحب الشعر والموسيقى والكتابة لكن الموت يغيبه بعد أن اشتد عليه مرض مزمن.
وفي تجربة مجنونة طلبت نادرة من والدة سيد الجحش، وهو شاب معتوه مشهور بفحولته في القرية بالزواج من ابنها ولكنها سرعان ما اكتشفت، أن هذه الفحولة سوف تقتلها، تماما مثلما يقتل جمالها الرجال، فتتحول بينه وبينها بشتى الطرق فيخرج هاذيا في الشوارع منددا بعدم استطاعته القيام بواجباته الزوجية.. فيتم إيداعه غصبا، وبعد طلاقه منها، مستشفى الأمراض العقلية، لكنه يموت في حاث سيارة أثناء محاولة هروبه من المستشفى.
تزداد مشاعر الخوف وتتكثف بشكل حاد في نفسية البطلة، خاصة بعد موت أربعة أزواج لها، لفظ كل منهم أنفاسه بعد فترة زواج قصيرة منها، ومع ذلك ظلوا يمثلون ضمن ما يمثلون الثروة والمال والجاه والثقافة والنفوذ، علاوة على جمال أخاذ تملكه شخصيا يمثل التمرد والجموح والمغامرة، لكن كل هذا لم يجعلها حرة نفسها، فهي لا تزال تبحث عن الأمان والاستقرار، كما أن حياتها ازدادت تعقيدا مع إحساسها بأنها عاقر، فلم تستطع الإنجاب من كل هؤلاء الأزواج، ولم يعطها الطبيب جوابا شافيا، قائلا لها «اتركي الأمر سوف ينحل مع الزمن».
لكن «نادرة» بعد أن بسطت نفوذها على القرية الغريبة عنها، مستثيرة غيرة أهلها وغضبهم وحقدهم، أصبح الخوف يسابق خطواتها ويسكنها. ومن وهو ما يدفعها إلى أن يقع اختيارها للزواج من «العبد مبروك» قاطع الطريق، أحد أشهر لصوص القرية ليوفر لها الحماية التي كانت تصبو إليها.
تتزوجه لتصون حريتها وجمالها ليس فقط بالمال والثروة والجاه وإنما بالحب، الذي حرمت منه وافتقدته مع أزواجها السابقين. ولا تبالي بأحد، لقد تمردت على ضعفها وقوتها وخوفها، أحبت هذا اللص، خفق له قلبها، فهو غريب مثلها عن القرية، لكنه حين عرف الحب تخلى عن آثامه وشروره، بدأ عملية تصالح وتسامح أشبه بالتطهير مع نفسه ومجتمع القرية من حوله، ورغم ذلك لم تهنأ «نادرة» به إذ مرض بالسرطان وعبثا حاولت علاجه، فمات كما مات أزواجها السابقون، فيتأكد لأهل القرية أنها شؤم، ويدبرون مكيدة للخلاص منها انتقامًا، وقبل الشروع في حرق بيتها تختار نادرة مصيرها، وتلقي بنفسها في النهر. تختار الموت بالغرق في النهر نفسه الذي لمست صفحته لحظة عتقها وحريتها الأولى وشهوتها للحياة. وحتى آخر لحظة ظلت تدافع عن حلمها هذا، فلم ترضخ أن تمنح نفسها أحد المارقين السفلة الذي كلف بهذا المكيدة الشنيعة، من أجل كسر كرامتها وإذلالها، فتطعنه طعنة نافذة بشفرة حادة. وتلقي بنفسها في النهر.
لنصبح من ثم، إزاء مشهد تراجيدي في رواية تنتصر للتحرر، نحو أفق مغاير وبشكل واقعي، عبر جدلية الخوف والرغبة، حيث تنمو ببطء وعفوية صراعات الشخوص، وأيضا التحولات المباغتة في حياة بطلة مفردة، طوحت كل شيء خلف ظهرها من أجل أن تعيش حرة بصدق وحب وأمان.
يعضد ذلك فنيا توسيع الكاتب دوائر الحكي، عبر ضمائر الشخوص، وتداعيات العيش في مكان ثابت، يعيد اجترار نفسه يوميا بإيقاع رتيب، وفي فضاء قرية ترزح تربتها في وجدان شعبي يتسم بالفطرة والبداهة. في الوقت نفسه، لعبت مقومات السرد على إظهار الطبقات السفلى التي تحكم مفاصل هذا المكان عبر الجغرافيا والزمان والتاريخ والعادات والتقاليد، فلم يتعال كلا المقومين الحكي والسرد على الواقع بكل خبرته البشرية وتحولاته الاجتماعية التقليدية بطيئة الإيقاع، والتي يرى في التعايش معها المحافظة عليها وعاء وجوده، وحياته.
وهكذا، لم تأت فكرة التحرر في حياة البطلة كسرا لآيديولوجية عقائدية أو سلطة ما، وإنما تتجسد في طوايا الرواية كبؤرة صراع خفي، تحت قناع النقاب الذي يمثل نوعا من ستر الذات، ضد ماض مؤلم، وفي الوقت نفسه يصبح التحرر ضرورة حياة لمستقبل واضح وحر.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.