من التاريخ: فرانكو والحرب الأهلية الإسبانية

من التاريخ: فرانكو والحرب الأهلية الإسبانية
TT

من التاريخ: فرانكو والحرب الأهلية الإسبانية

من التاريخ: فرانكو والحرب الأهلية الإسبانية

يُعد الجنرال فرانسيسكو فرانكو أهم شخصية سياسية في التاريخ الإسباني الحديث. وفي حين تختلف حوله التقديرات ما بين مؤيد ومعارض له ولشخصه وسياساته، تظل الحقيقة الثابتة أن تجربة حكمه وضعت أساس إسبانيا الحديثة بما لها وما عليها. كما أنه يمثل نموذجًا للاستقطاب الفكري والنظري بين الأطراف المختلفة حتى الآن، وكثير من الحوارات المتأنية التي دارت بيني وبين مفكرين وسياسيين إسبان جعلتني أعتقد أن الرجل وفترة حكمه التي طالت ما يقرب من أربعين سنة ستظل مادة للاختلاف الفكري والتطبيقي في إسبانيا والعالم كله، ولهذا حديث مقبل.. المهم أن الرجل وصل إلى سدة الحكم بعد حرب أهلية ضروس مزّقت إسبانيا وأدت لمقتل الآلاف بعدما ظن كثيرون أن الجيش الإسباني لن يتحرك لاحتواء الأزمة السياسية في البلاد وانتشالها من الحرب الأهلية.
ولد فرانسيسكو فرانكو عام 1892 لأسرة إسبانية محافظة من الطبقة المتوسطة غلب عليها الطابع العسكري منذ البداية، فوالده كان ضابطًا، وكذلك أخوه وبعض أقاربه. وهذا ما دفع الرجل للانضمام إلى الجيش منذ صباه. والثابت تاريخيًا أنه لم يكن على وفاق مع والده بل كان أكثر ارتباطًا بوالدته، ولقد حاول الشاب فرانسيسكو دخول سلاح البحرية وهو في سن مبكر إلا أنه فشل، فقرر دخول كلية المشاة، حيث تخرّج وأصبح ضابطًا في الجيش الإسباني. وتشير بعض المراجع التاريخية إلى أن شخصيته منذ بداية عهده كضابط كانت شديدة المحافظة والوطنية. وعلى الرغم من أن الثقافة بصفة عامة لم تكن سمته الغالبة، فإنه استعاض عن نقطة الضعف هذه بالشجاعة البالغة والجاذبية الشخصية الفائقة التي جعلت منه قائدًا من الطراز الرفيع وسط جنوده وضباطه.
ارتبط تاريخ فرانكو العسكري أساسًا بالحرب في المغرب عندما كانت إسبانيا تسعى لإخضاع المغرب لسلطتها. وفي تلك الحرب الممتدة استطاع فرانكو أن يفرض نفسه كضابط شجاع ثم كقائد عسكري يملك الحنكة والتكتيك اللازمين للتغلب مرحليًا على المناضلين المغاربة، وبالتالي، محا الهزيمة العسكرية السابقة التي لحقت بالجيش الإسباني، مما جعله يتقلد الرتب العسكرية بسرعة فائقة مقارنة بزملائه الآخرين، فحصل على رتبة لواء، وهو ما زال دون الخامسة والثلاثين من العمر.
من ناحية أخرى، بينما كان فرانكو منغمسًا في الحرب المغربية، كانت إسبانيا على فوهة بركان سياسي، إذ بدأت الأحوال تضطرب تدريجيًا. ذلك أنه على الرغم من أن إسبانيا لم تدخل أتون الحرب العالمية الأولى، واستطاعت تنمية بنيتها الصناعية البسيطة وتطوير اقتصادها نسبيًا، فإنها عانت بشدة من الطبقية التي حرمت جموع الشعب من حصد هذه المكاسب النسبية فيما هو معروف بظاهرة Non Trickle Down Effect. ومن ثم، اغتنت الطبقة الميسورة المحدودة على حساب الجماهير العريضة، وبدأت الطبقة الوسطى الإسبانية تنحسر أمام تنامي الطبقات الفقيرة. ثم إن الطابع الزراعي لإسبانيا لم يتغير بشكل كبير بل ظل يعاني بشدة من الظروف المتخلفة المرتبطة بالري والتسميد والافتقار إلى الميكنة وغيرها من المشكلات، وهو ما أدى لانخفاض إنتاجية الهكتار الإسباني مقارنة بحال الدول الأخرى، وتاليًا إحداث فجوة غذائية ملحوظة.
وشيئًا فشيئًا اقتربت الأوضاع السياسية من حافة الانفجار، خصوصًا مع انتشار الفكر الشيوعي بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا. وهو ما مهد لبداية انقسام سياسي واسع على مستوى الدولة الإسبانية بين اليمين الليبرالي المدعوم من الكنيسة في جهة، واليسار العمالي الذي انضمت له طبقات من الفلاحين لسوء أحوالهم في الجهة المقابلة. وبروح الاستقطاب الجديدة تحت مظلة النظام الملكي الدستوري القائم والمبني على أعمدة نظام أقرب إلى الإقطاع عبر الطبقة الرأسمالية المساندة له بدعم من الكنيسة الكاثوليكية، أخذ شبح الحرب الأهلية يخيم على إسبانيا.
عام 1921 شهد هزيمة نكراء للجيش الإسباني في المغرب على أيدي المناضلين المغاربة الذين دمروا جيشًا يقرب عدده من عشرين ألفًا نجت منهم قلة قليلة. ومع هذه الهزيمة ازدادت الضغوط على النظام السياسي، مما أدى لتدخل الجيش من خلال انقلاب عسكري بقيادة الجنرال بريمو دي ريفيرا عام 1923، وإقدامه على عزل الحكومة المنتخبة وتوليه حكم البلاد بيد من حديد. وعلى الأثر وجه الجيش سياساته نحو القضاء على الإقطاع والرأسمالية المنتشرة وأدخل التعديلات الدستورية اللازمة لتحقيق أهدافه السياسية، وبدأ ينظم العلاقة بين ملاك الأراضي والمزارعين وعلق الحريات في البلاد. غير أن فترة حكمه لم تدم كثيرًا بعدما اضطرته الظروف للاستقالة بناء على رغبة شعبية، وبوازع من الملك ألفونسو الثالث عشر عام 1930. وبعدها انزلقت البلاد إلى الفوضى تمامًا بعدما ضرب الكساد العالمي إسبانيا وباتت في حالة يرثى لها، فتنازل ألفونسو عن العرش، وترك السياسة للساسة الإسبان ليفعلوا ما يرونه مناسبًا، فأعلنت الجمهورية في البلاد.
إلا أن بداية الجمهورية لم تبشر بالخير، إذ جاءت الحكومة الجمهورية الجديدة بنظام صارم للغاية فرض المتغيرات العكسية على الدولة والمجتمع الإسبانيين لاعتقادها أن البلاد كانت جاهزة لاستيعاب الحريات والانطلاقات المفتوحة للاقتصاد، وكان حكم نيكيتو آلكالا - زامورا بدايةً لهذا التوجّه. فقد جاء الدستور الجديدة ليبراليًا تمامًا مغيرًا بالقوة القانونية التركيبة السياسية والاجتماعية في البلاد، ودفع إسبانيا من أحضان الكاثوليكية المحافظة إلى العلمانية البحتة والليبرالية التي يمكن وصفها بـ«المفرطة»، فقضي على كل الجمعيات الدينية وعلى رأسها اليسوعيون وغيرهم. ثم أنه وضع أسسًا لتطوير العلاقة بين العمال والرأسماليين والشيء ذاته مع المزارعين، كما أنه منح إقليمي قطالونية (كتالونيا) والباسك الحكم الذاتي، مما دفع الإسبان للاعتقاد بأنه بداية لانفصالهما عن الوطن الأم.
واقع الأمر أن هذه التوجّهات الجديدة لم ترق للقوى السياسية المختلفة، إذ ظن اليساريون أن ما فعلته الحكومة لم يكن كافيًا لمنح العمال والفلاحين الحقوق التي يعتبرونها مناسبة لهذه الطبقات، بينما رأى اليمينيون المحافظون أن هذه الإصلاحات كانت كارثية وتعدت على حقوقهم ومكتسباتهم. أيضًا الكنيسة أخذت موقفًا سلبيًا متشددًا للغاية تجاه هذا النظام بعدما قلّم أظافرها في البلاد وقضى على نفوذها وجرّدها من ممتلكاتها وحقوقها في تعيين الأساقفة، فأدى لحالة تشرذم سياسي وفكري في البلاد. وعندما جاء موعد الانتخابات البرلمانية عام 1933 فوجئ كثيرون بان أحزاب اليمين والوسط استطاعت حصد الأغلبية المطلوبة وعكفت على تغيير دفة الأمور تمامًا. فاندفع اليساريون وحلفاء لهم إلى التكاتف باتجاه تشكيل «الجبهة الشعبية» لمواجهة المتغيرات الجديدة. وبالفعل استطاعت هذه «الجبهة» الفوز بالانتخابات البرلمانية عام 1936. وعلى الأثر لجأ عدد من كوادرها للعنف محرقًا الكنائس والصحف اليمينية، وهكذا اشتعل فتيل الحرب الأهلية مجددًا، وتدخّل الجيش موجهًا إنذارًا للحكومة اليسارية بضرورة السيطرة على الأوضاع في البلاد ووقف أعمال العنف من جانب مؤيديها. لكن رد الحكومة جاء عنيفًا، إذ قامت بحركة عزل وتنقلات واسعة النطاق لقيادات الجيش ومنها فرانسيسكو فرانكو، الذي عيّن قائدًا عامًا في جزر الكناري لإبعاده عن الساحة السياسية الإسبانية. مع هذه الخطوة تفجر الوضع تمامًا ومعه الحرب الأهلية في البلاد بشكل واسع بين الجبهة الشعبية اليسارية واليمينيين مدعومين من الجيش بعد فشل الحوار.
عند هذه المرحلة حسم فرانكو الأمر مع زملائه العسكريين الذين كانوا يكنّون له كل الاحترام والتقدير، خصوصًا أنه كان قبل فترة وجيزة رئيسًا لأركان الجيش الإسباني. وبالفعل، بدأ الجيش تحركه صوب الجنوب الإسباني في يوليو (تموز) 1936 وانضمت لفرانكو غالبية أسلحة الجيش باستثناء البحرية والطيران. ومن ثم تكونت «الجبهة الوطنية» حول الجيش، واحتدمت الحرب. ولم تلبث إيطاليا الفاشية، وبدرجة أقل، ألمانيا النازية، أن دعمتا الجيش و«الجبهة الوطنية» اليمينية المساندة له من خلال تقديم المساعدات العسكرية لهم، بينما دعم الاتحاد السوفياتي ومعه يساريون كثر في أوروبا «الجبهة الشعبية» اليسارية في البلاد بأمل تحويل إسبانيا إلى جزء من التكتل الاشتراكي الذي كان قد بدأ يتكون منذ سنوات قليلة حول روسيا.
وواصل فرانكو زحفه تدريجيًا نحو العاصمة مدريد فانتقلت الحكومة اليسارية إلى بلنسية (فالنسيا) التي سرعان ما سقطت هي الأخرى في أيدي قوات فرانكو إلى أن دانت البلاد كلها له، وهكذا، أصبح الرجل قائدًا جديدًا للبلاد وأدار نظامًا ديكتاتوريًا مركزيًا من كل الأوجه استمر حتى عام 1975.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».