صورة الإسلام بين لويفيل وأورلاندو

العالم الإسلامي أحوج ما يكون إلى أنموذج رفيع كالذي قدمه محمد علي

تشييع محمد علي الذي اشتركت فيه كل الجماعات الإثنية البارزة في المشهد الأميركي
تشييع محمد علي الذي اشتركت فيه كل الجماعات الإثنية البارزة في المشهد الأميركي
TT

صورة الإسلام بين لويفيل وأورلاندو

تشييع محمد علي الذي اشتركت فيه كل الجماعات الإثنية البارزة في المشهد الأميركي
تشييع محمد علي الذي اشتركت فيه كل الجماعات الإثنية البارزة في المشهد الأميركي

لم يكد العالم ينتهي من المشهد الحزين المتمثل في وداع الملاكم الأميركي المسلم محمد علي، المعروف عربيًا بمحمد علي كلاي، حتى اهتز العالم بمشهد آخر تمثل في مذبحة أورلاندو. مشهدان أميركيان يجمعهما، بكل أسف، أمر واحد، صلتهما بالإسلام على نحو ما. وهي صلة قد نقبل أحد طرفيها ونرفض الآخر، لكنها تظل في أذهان العالم، غير المسلم بالدرجة الأولى، ثابتة بل وراسخة. إنه ارتباط يختزل الإيجابي والسلبي في التصورات السائدة عن الإسلام والمسلمين، لكنه بكل أسف أيضًا حقيقة واقعة مهما رفضنا «داعش»، ومهما ربطناها بأعداء ومؤامرات. «داعش» يرفع علم «لا إله إلا الله»، زورًا وبهتانًا نعم، لكنه يرفعه ويرسخ صورة قبيحة للإسلام. لكن إلى أي حد استطاعت الصورة الإيجابية المتمثلة في محمد علي (كلاي)، وما قيل في تأبينه في لويفيل أن تلقي ما يكفي من الجمال والقيم الخيّرة لترجح بشناعة ما فعله مجرم أورلاندو ومن انتسب إليهم من إرهابيي «داعش»؟
إنه سؤال كبير وعميق الغور في وقائع التاريخ وفي التصورات الذهنية، سؤال يتصل بفهم الشعوب والثقافات بعضها بعضا، وقدرتها على رؤية الأشياء على حقيقتها رغم حجب الأنماط والآيديولوجيات والادعاءات والتشويه متعمدًا وغير متعمد. ثم إنه سؤال مطروح لا تختص به ثقافة أو جماعة إنسانية دون أخرى، بل هو إرث مشترك ومواجهة تتكرر عبر التاريخ، لكن العصر الحالي يمنحها حضورًا غير مسبوق بانتشاره وحدة تأثيره.
كنت أتابع بمزيج من الحزن والإعجاب مشاهد وداع عملاق الرياضة والملاكمة وأشهر مسلمي الغرب ربما في العقود الأخيرة من القرن الماضي والحالي. الاحتفاء الكبير على مستوى الحضور والمستوى الرفيع لكثير من الكلمات التي ألقيت، والاجتماع المهيب لأديان كبرى في العالم، إضافة إلى بعض الجماعات الإثنية البارزة في المشهد الأميركي، من السود إلى الهنود الحمر مرورًا بالبيض والشرق آسيويين وغيرهم، كل ذلك يلقي في النفس شعورًا من الإكبار للراحل والمحتفين به. في حفل افتتح بالقرآن الكريم تبارى المسلم مع القس المسيحي مع الحاخام اليهودي في تأبين رجل مسلم، واجتهد البوذيون والأميركيون الأصليون وقادة السياسة في الولايات المتحدة من ذوي الأصول الأوروبية في إبراز خصال ملاكم عارض المؤسسة الأميركية سياسيا، وخرج على ديانة الكثرة من المسيحيين، ورفع عاليًا اسم محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام. استوقفتني بشكل خاص كلمة الحاخام اليهودي الذي أفاض ليس في الثناء على محمد علي فحسب، وإنما في مهاجمة كل الذين اضطهدوا بسبب دينهم أو عرقهم أو مواقفهم. هاجم إسرائيل والسياسة الأميركية في سعيها لحماية أميركا باستعمال القوة. الأميركيون، قال الحاخام، تحميهم السياسة العادلة والتعامل الطيب مع الشعوب المختلفة وليس الأساطيل والعنف. ولم يقاطع أحد بالتصفيق قدر ما قوطع ذلك الحاخام.
ثم جاءت صورة العنف الدموي في أورلاندو بعد ذلك بيومين. جاء الإرهاب باسم الدين لقطع الجسور التي ظل محمد علي وأمثاله يبنونها، لهدم الصلات وتكريس العنف الذي وقف البطل الأميركي المسلم حياته للتخلص منه. كأن الإسلام لم يكن دين التواصل وبناء الجسور بين الشعوب، الدين الذي دعا إلى المحبة والرحمة والسلام والتكاتف في الخير، وكذلك إلى احترام اختلاف الآخر وحريته في اعتناق ما شاء من الدين «لا إكراه في الدين».
ولعل ما يزيد المشهد سوءًا أن التشدد الذي يعبر عنه الإرهاب المتسربل بالإسلام استنهض تشددًا آخر في الجهة المقابلة. فدعاة التعصب والعنف من الأميركيين بقيادة الطامح للرئاسة الأميركية دونالد ترامب لم يدع الفرصة تفوت دون التذكير بدعوته العنصرية للحيلولة دون مجيء المسلمين إلى أميركا. علا صوت التشدد العرقي مرة أخرى مستجيبًا لصوت العنف الدموي القادم باسم دين السلام والتراحم. نعم، إنها الجسور التي تبنى على مدى أعمار، يبنيها أناس مثل البطل الأميركي المسلم، ليتضح كم هي هشة عند أول رصاصة تنطلق من الجهة المعترضة على تجسير الفجوات وتقريب الآراء وإحلال السلام.
إن الحرص على صورة الإسلام ليس مرده إرضاء الأميركيين أو غيرهم، كما يردد البعض حين يرون أحدًا يدافع عن تلك الصورة في أذهان الآخرين، وإنما هو الحرص على حقيقة الدين والرفض لما يتعرض له من تشويه على يد من يدعون أنهم أتباعه، من يرفعون شعاراته ويتمسكون بالظاهر من شعائره، لكنهم يسيئون إليه وإلى الأخلاق التي بني عليها حين يعتدون على الناس بسفك الدماء وارتكاب أعمال وحشية تنفر الناس من دين جاء رحمة للعالمين.
غير أن قتامة الصورة لا تخلو من بعض ضوء يخفف منها، فردود الفعل التي ظهرت لوحشية ما حدث في أورلاندو كانت في مجملها عاقلة تدعو إلى الاتزان والنظر الصحيح. ومن ذلك ما نشرته مجلة «ذا نيشن» The Nation الأميركية بقلم ديفيد زيرين، مراسل المجلة الرياضي الذي حضر مراسم تشييع وتأبين محمد علي. ففي عنوان مقالته التي نشرت في أعقاب حادث أورلاندو قال في عنوان المقالة: «الذين حضروا تشييع جنازة محمد علي الجامعة للأديان مطالبون بالمضي بنقل رسالتها إلى عالم يتجاوز أورلاندو»، قال ذلك في تأكيده للرسالة العظمى التي حملها محمد علي بوصفه مسلمًا وتناقضها الحاد مع ما قد تشيعه الصورة القاتمة التي جاءت مذبحة أورلاندو لتشيعها في أذهان البعض.
إن الإسلام والعالم الإسلامي أحوج ما يكونان اليوم إلى أنموذج رفيع مثل الذي قدمه محمد علي إلى العالم، ولم يكن الاحتفاء به راحلا سوى انعكاس لجهاد ذلك الرجل وللاحتفاء الطويل والكبير بذلك الجهاد وبالنموذج الذي مثله بطل مسلم في قلب بلاد لا يعرف أكثر أهلها عن الإسلام اليوم، مع الأسف، إلا ما تمطرهم به جرائم القاعدة و«داعش» من دماء وكراهية، وما يسمعون عنه من تشدد وكراهية للآخرين. فإلى متى سيظل ذلك النموذج قادرًا على الوصول والصمود في وجه الإساءة والتشويه؟ لا أدري، لكن بعض ردود الفعل تبشر بأنه ما زال قويًا وأرجو أن يكون.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.