رياض سلامة رجل الثقة أمام التحدي

حاكم مصرف لبنان طيلة 23 سنة يواجه أكبر التحديات في حياته المهنية

رياض سلامة رجل الثقة أمام التحدي
TT

رياض سلامة رجل الثقة أمام التحدي

رياض سلامة رجل الثقة أمام التحدي

يواجه رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان المركزي، هذه الأيام أصعب فترات حياته المهنية. فالرجل الذي قاد سفينة القطاع المالي اللبناني في أعتى الظروف السياسية والأمنية المهتزة، يجد نفسه أمام امتحان جدي بعدما وجد أن الضغوط الأميركية على مصادر دخل ما يسمى «حزب الله» أدت إلى إخراجه لأول مرة عن «حيادية» جعلت منه مرشح إجماع لرئاسة المصرف المركزي منذ العام 1993 وحتى اليوم، كما جعلته مرشحًا جديًا لرئاسة الجمهورية منذ نهاية عهد الرئيس إلياس الهراوي في العام 1998.
كثيرون في لبنان لا يحسدون رياض سلامة على موقعه الحالي، فهو أحد الأسماء المطروحة بقوة لتولي منصب رئيس الجمهورية إذا تقرر اعتماد صيغة «الرئيس الوفاقي» الذي يقبل به الجميع. إلا أن وقوفه ضد «حزب الله» في الأزمة الحالية من شأنه أن يجعل وصوله إلى الرئاسة من سابع المستحيلات، أما انحيازه إلى موقف الحزب فيما يتعلق بتطبيق العقوبات الأميركية الرامية إلى تجفيف موارد الحزب المالية، فمن شأنه الإطاحة بكل الوضع المالي اللبناني، لأن لبنان كالكثير من الدول الأخرى مرتبط ارتباطًا عضويًا بالسوق المالية العالمية التي تؤثر فيها تأثيرًا مباشرا الولايات المتحدة. وبالتالي، فوضع لبنان على لوائح واشنطن السوداء من شأنه دفع الوضع المالي اللبناني – المرتبك أصلاً – نحو المجهول.
لهذا اختار سلامة أن يذهب مذهب التفاوض مع الطرفين. فذهب إلى الولايات المتحدة غير مرة، كما عقد الكثير من الاجتماعات الداخلية بهدف التوصل إلى «حلول وسط» ترضي الجميع. وهو يعتمد على ثابتتين: الأولى أن الولايات المتحدة لا تريد خراب لبنان، والثانية أن الحزب لا يستطيع تحمل مسؤولية هذا الخراب إذا ما حصل. وبالتالي، لا بد من أن يتقبل الطرفان أنه لا يمكن تحقيق كامل ما يريدانه في هذا الملف.

حظوظ الرئاسة
في الجانب السياسي، يقول البعض بأن الأزمة الأخيرة قد أطاحت بحظوظ سلامة الرئاسية، فيما يرى البعض الآخر أن العكس صحيح، لأن حاكم المصرف المركزي استطاع تعديل المطالب الأميركية. ومن ثم، إذا نجح في أخذ موافقة ما يسمى «حزب الله» عليها، يكون قد ضرب عصفورين بحجر واحد، أي كسب رضى الطرفين، ما يجعله بالتالي مرشحًا مقبولاً منهما معًا، وفي هذا وحده دفع كبير جدًا لحظوظه الرئاسية التوافقية.
والحقيقة أن رئيس الوزراء الأسبق الراحل رفيق الحريري كان المدخل الأول لسلامة إلى العمل العام في لبنان، وذلك عندما طلب منه العودة إلى البلاد لتسلّم منصب حاكم مصرف لبنان عام 1993. وبعدها استطاع سلامة اكتساب «ثقة» كل من توالى على الحكم حتى اليوم، على الرغم من التقلبات السياسية الدراماتيكية منذ ذلك التاريخ. إذ بقي في منصبه إبان عهد الرئيس الأسبق إميل لحود، الذي كان من أشد أعداء الحريري سياسيا. وجدد له أيضًا في العهود اللاحقة ثلاث مرات، ما يعني أنه استطاع الحصول على ثقة الجميع طوال هذه الفترة، مع العلم أن اعتراض أحد الأطراف السياسية المشاركة في الحكومات المتعاقبة كان كفيلاً بمنع تجديد ولايته.
أحد المصرفيين اللبنانيين يقول عن سلامة بأن أي شخص آخر ما كان لينجو في لبنان ولو كان «جبارًا»، مشيرًا إلى أن أهم ما يميز الحاكم الحالي قدرته على خلق «الثقة» عند اللبنانيين، ولا سيما بعدما مرّ لبنان والدول المحيطة به بأكثر من أزمة لم يتأثر بها لبنان ماليًا، على الرغم من الترددات السياسية الكبيرة لها. ويوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «اللبنانيين لم يحسوا بعمق الأزمة المالية العالمية في العام 2008 بفضل حصافة السياسات النقدية لمصرف لبنان».
ويجزم المصرفي اللبناني بأن سلامة «اختار البقاء على الحياد وتجنب اللعبة السياسية حفاظًا على الاستقرار المالي والنقدي». ويشير إلى أنه لو كان قرّر دخول اللعبة السياسية ولو بنسبة 5 في المائة لكان الوضع اللبناني أسوأ بكثير مما هو عليه الآن. ويشرح أن سلامة «رفض الدخول في هذه اللعبة على الرغم من أن كثيرين حاولوا استمالته إليها بطريقة أو بأخرى». ويضيف المصرفي اللبناني أن «وضع لبنان سيئ على جميع المستويات والبلد مفكك على مختلف الأصعدة، ولكن ما يزال للبنان أمل وحيد هو الاستقرار النقدي القائم»، مؤكدا أن سلامة «لم يتزحزح عن قناعته لأنه يعرف أنه إذا أراد أن يرضي فلانًا أو علانًا فسيدمر البلد».
وفعلاً، يمسك سلامة، المعروف في لبنان بلقب «الحاكم»، بالوضع المالي والنقدي اللبناني بيد من حديد منذ العام 1993. ومنذ ذلك التاريخ لم تشهد العملة الوطنية أي تراجع في قيمتها بعد انهيار شهدته الأسواق اللبنانية في أوائل التسعينات نتيجة «المضاربات السياسية»، أو ما اعتبره البعض «عملية تصحيحية» لقيمتها بعد الخروج من الحرب الأهلية اللبنانية التي أنهكت الاقتصاد. ولقد دخل سلامة مصرف لبنان ليجد فيه 300 مليون دولار أميركي من الموجودات النقدية بالعملات الصعبة، لكنه تمكن بعدها إلى رفعه ليصبح نحو 37 مليار دولار في الوقت الراهن، كما يؤكد كبير الاقتصاديين في مجموعة بنك «بيبلوس» نسيب غبريل لـ«الشرق الأوسط».
ويشير غبريل إلى أن «القطاع المصرفي اللبناني كان بحاجة لدى تعيين سلامة في العام 1993 إلى قوانين وتعاميم تضبط الواقع المالي والنقدي بعد فترة من التضخم والتراجع»، مشيرا إلى أن أول قرار اتخذه حينها، وما يزال يعمل به، هو «تثبيت سعر صرف الليرة ولجم التضخم». ويستطرد موضحًا أن سلامة قام بعدة خطوات لتطبيق المعايير الدولية على القطاع المصرفي اللبناني. ولا يرى غبريل في قرار تثبيت سعر صرف الليرة أي سلبيات لأن هذا الثبات مرده ليس القرار، بل الثقة بمصرف لبنان، وبالقطاع المصرفي اللبناني الذي استطاع التأقلم مع 15 سنة من الحرب الأهلية و22 سنة من الاحتلال الإسرائيلي وعشرات الخضات السياسية والأمنية والاقتصادية.

«الثقة».. «الثقة»..
تكاد كلمة «الثقة» تكون الرقم الأول في قاموس حاكم مصرف لبنان. فالحاكم يركز على الثقة كعامل أساسي في العمل النقدي: الثقة الدولية بالوضع المالي اللبناني، والثقة المحلية بالقطاع المصرفي. ولهذا حرص منذ وصوله وحتى اليوم على عدم ضياع ودائع أي شخص كان. فإذا تعثر مصرف ما تدخل مصرف لبنان لتعويمه، أو سهل عملية اندماجه بأحد المصارف.
واستطاع سلامة عبر هذه السياسات من فرض استقرار نقدي لافت، كما استطاع تأمين سيولة نقدية جيدة من خلال إلزامه المصارف وضع 15 في المائة من ودائعها كاحتياط إلزامي في المصرف المركزي، ما مكنه من الوصول إلى نسبة ملاءة ممتازة تجعله قادرًا على لجم أي مضاربة على العملة الوطنية.
من ناحية ثانية، يردّ غبريل بقاء سلامة في موقعه كل هذه الفترة إلى «نجاح الحاكم وسياسات مصرف لبنان والثقة التي يولدها». ويشير إلى أنه في عهده ارتفعت الودائع المصرفية في القطاع المصرفي اللبناني إلى نحو 153 مليار ليرة في نهاية العام الماضي، مع نسبة سيولة تصل إلى 36 في المائة، وهي من أفضل النسب في العالم. وهو ما جعل المصارف قادرة على تأمين احتياجات الدولة من الأموال المخصّصة لسد عجز الموازنة، حيث أصبحت هذه المصارف الدائن الأول للدولة اللبنانية بمبلغ يصل إلى 38 مليار دولار من أصل 72 مليار دولار هي مجموع الدين العام اللبناني. وللعلم، تبلغ موجودات مصرف لبنان حتى منتصف يونيو (حزيران) الحالي 36.8 مليار دولار، فيما تبلغ قيمة الاحتياطي من الذهب 11.8 مليار دولار (9 ملايين أونصة). وتبلغ الموازنة المجمّعة للمصرف المركزي 98 مليار دولار.

بطاقة هوية
ولد رياض توفيق سلامة في بلدة أنطلياس (بضواحي شمال شرقي بيروت) العام 1950. وهو ابن عائلة مسيحية مارونية من أنطلياس هاجرت إلى ليبيريا في غرب أفريقيا، وأسست متاجر كبرى. ووالدته رينيه رومانس سلامة، اشتهرت بأعمالها الخيرية والاجتماعية، وكانت عضوًا فاعلاً في الصليب الأحمر اللبناني، وقتلت خلال الحرب الأهلية في العام 1982.
لديه ثلاثة إخوة: منى (زوجة جو عيسى الخوري)، رمزي (رسّام وروائي) ورجا (رجل أعمال). لكن رياض سلامة لم يعرف والديه جيدًا إلا بعدما بلغ سن الـ18. فقد عاش والداه في أفريقيا منذ ولادته، بينما تربّى في منزل جدّيه، وأشرفت خالته لورا تابت زوجة رجل الأعمال فؤاد تابت، الذي يعتبر بمثابة أبوه الروحي، على دراسته.
تلقى تعليمه في مدرسة الجمهور الراقية، وأنهاها في الجامعة الأميركية في بيروت حائزًا إجازة في الاقتصاد. وإبان دراسته في الجامعة التقى بندى كرم وتزوّج منها، وهي كاتبة ولها مؤلفات، وله منها أربعة أولاد: ابنه نادي، وبناته نور ورنا وريم.
تصفه زوجته ندى في حوار مع مجلة «هي» بأنه «إنسان جدي جدًا وهادئ»، مشيرة إلى أنها تفهم «أنه من الصعب علينا معًا القيام بالاجتماعيات، بسبب ظروف عمله... ولأني أستوعب زوجي وعمله... بحثت عن باب للتعبير عن فني وذوقي فلجأت إلى الكتب... ففي المساء نطالع معًا الكتب، ونضع يدًا بيد في كل ما يواجه حياتنا وعائلتنا». وهي ترى أن اختياره كأفضل حاكم مصرف في العالم للعام 2006 «جاء ليردّ على كل هجوم طاله... وهذا ما يستحقه بعد كل ما قدمه للوطن». وتصفه أيضًا بأنه «رجل جدي، يحترم الفن كثيرًا، وهو صريح للغاية، يعبر عن رأيه مباشرة، وهذا ما يساعدنا على فهم بعضنا أكثر». أما كأب فتقول عنه بأنه «يهتم كثيرًا بأولاده وتفاصيل حياتهم ويوجههم للأفضل ولصالح مستقبلهم، أما كجد فقد اكتشفت أكثر فأكثر كم أنه حنون يبحث عن اللحظات التي تجمعه بحفيدته».

الحياة المهنية
انطلاقة سلامة الأولى في عالم المال بدأت بعد تخرجه في الجامعة الأميركية، حين عقد لقاء عمل مع مدير شركة «ميريل لينش» المالية الأميركية، وأصبح بعده مسؤولاً عن عملية شراء الأسهم وبيعها في المؤسسة. ثم أصبح مقصد رجال الأعمال العرب، وأكثر موظف في المؤسسة خارج أميركا حقق نسبة تداول في الأسهم. وبعدما ذاع صيته، اتصل به محامي الرئيس الراحل رفيق الحريري الخاص، باسيل يارد، وطلب منه توظيف بعض الأموال الخاصة بالحريري. ومن ثم تعرّف إليه الرئيس الحريري، وأحب تمرّسه في العمل، فعرض اسمه كحاكم لمصرف لبنان العام 1993، وكان بمثابة مستشاره المالي في الكثير من الأزمات والملمات التي مر بها لبنان.
حسب جوزف طربيه، رئيس جمعية المصارف اللبنانية، يقول: إن سلامة «يحتل موقعًا فريدًا في تاريخ لبنان الاقتصادي، وقد ترك الدور الهام الذي يقوم به على رأس السلطة النقدية ارتدادات إيجابية على مختلف الصعد من نقدية واقتصادية واجتماعية نتيجة سجل حافل بالإنجازات منذ تسلمه لمنصبه على رأس البنك المركزي اللبناني». ويضيف «اختار (سلامة) سياسة الاستقرار النقدي، ونجح في وقف التقلبات الحادة للنقد اللبناني صعودًا ونزولاً، ولم ترهبه توصيات صندوق النقد الدولي التي كانت تتعارض مع سياسة الاستقرار النقدي، ولم تثنه عن سياسته انتقادات بعض الاقتصاديين والمنظرين الماليين في وطن يختلط فيه الرأي التقني بالاقتصادي والسياسي». واعتبر أن القطاع المصرفي اللبناني «لم يعرف استقرارًا تامًا بعيدًا عن الاهتزازات، إلا منذ تسلم رياض سلامة الحاكمية التي حصّنها بحكمته، ونجح خلال ولاياته متتالية في تكريس نموذج خاص للسلطة النقدية، يجمع بين خصوصيات لبنان واقتصاده وبين الالتزام الصارم بالمعايير والمواصفات الدولية والتحديث والتطوير المؤسساتي والبشري، وهذا ما استحق تكريمَه ومنحَه الكثير من الجوائز محليًا وإقليميًا ودوليًا».
وحقًا، حاز سلامة على الكثير من الألقاب والتكريم في حياته، إذ حاز على لقب «أفضل حاكم مصرف مركزي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، وكان أصغر حاكم مصرف مركزي على الإطلاق، ثم في العام 2003 في دبي والعام 2006 كـ«أفضل حاكم مصرف في العالم» وتسلم الجائزة في سنغافورة.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».