يواجه رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان المركزي، هذه الأيام أصعب فترات حياته المهنية. فالرجل الذي قاد سفينة القطاع المالي اللبناني في أعتى الظروف السياسية والأمنية المهتزة، يجد نفسه أمام امتحان جدي بعدما وجد أن الضغوط الأميركية على مصادر دخل ما يسمى «حزب الله» أدت إلى إخراجه لأول مرة عن «حيادية» جعلت منه مرشح إجماع لرئاسة المصرف المركزي منذ العام 1993 وحتى اليوم، كما جعلته مرشحًا جديًا لرئاسة الجمهورية منذ نهاية عهد الرئيس إلياس الهراوي في العام 1998.
كثيرون في لبنان لا يحسدون رياض سلامة على موقعه الحالي، فهو أحد الأسماء المطروحة بقوة لتولي منصب رئيس الجمهورية إذا تقرر اعتماد صيغة «الرئيس الوفاقي» الذي يقبل به الجميع. إلا أن وقوفه ضد «حزب الله» في الأزمة الحالية من شأنه أن يجعل وصوله إلى الرئاسة من سابع المستحيلات، أما انحيازه إلى موقف الحزب فيما يتعلق بتطبيق العقوبات الأميركية الرامية إلى تجفيف موارد الحزب المالية، فمن شأنه الإطاحة بكل الوضع المالي اللبناني، لأن لبنان كالكثير من الدول الأخرى مرتبط ارتباطًا عضويًا بالسوق المالية العالمية التي تؤثر فيها تأثيرًا مباشرا الولايات المتحدة. وبالتالي، فوضع لبنان على لوائح واشنطن السوداء من شأنه دفع الوضع المالي اللبناني – المرتبك أصلاً – نحو المجهول.
لهذا اختار سلامة أن يذهب مذهب التفاوض مع الطرفين. فذهب إلى الولايات المتحدة غير مرة، كما عقد الكثير من الاجتماعات الداخلية بهدف التوصل إلى «حلول وسط» ترضي الجميع. وهو يعتمد على ثابتتين: الأولى أن الولايات المتحدة لا تريد خراب لبنان، والثانية أن الحزب لا يستطيع تحمل مسؤولية هذا الخراب إذا ما حصل. وبالتالي، لا بد من أن يتقبل الطرفان أنه لا يمكن تحقيق كامل ما يريدانه في هذا الملف.
حظوظ الرئاسة
في الجانب السياسي، يقول البعض بأن الأزمة الأخيرة قد أطاحت بحظوظ سلامة الرئاسية، فيما يرى البعض الآخر أن العكس صحيح، لأن حاكم المصرف المركزي استطاع تعديل المطالب الأميركية. ومن ثم، إذا نجح في أخذ موافقة ما يسمى «حزب الله» عليها، يكون قد ضرب عصفورين بحجر واحد، أي كسب رضى الطرفين، ما يجعله بالتالي مرشحًا مقبولاً منهما معًا، وفي هذا وحده دفع كبير جدًا لحظوظه الرئاسية التوافقية.
والحقيقة أن رئيس الوزراء الأسبق الراحل رفيق الحريري كان المدخل الأول لسلامة إلى العمل العام في لبنان، وذلك عندما طلب منه العودة إلى البلاد لتسلّم منصب حاكم مصرف لبنان عام 1993. وبعدها استطاع سلامة اكتساب «ثقة» كل من توالى على الحكم حتى اليوم، على الرغم من التقلبات السياسية الدراماتيكية منذ ذلك التاريخ. إذ بقي في منصبه إبان عهد الرئيس الأسبق إميل لحود، الذي كان من أشد أعداء الحريري سياسيا. وجدد له أيضًا في العهود اللاحقة ثلاث مرات، ما يعني أنه استطاع الحصول على ثقة الجميع طوال هذه الفترة، مع العلم أن اعتراض أحد الأطراف السياسية المشاركة في الحكومات المتعاقبة كان كفيلاً بمنع تجديد ولايته.
أحد المصرفيين اللبنانيين يقول عن سلامة بأن أي شخص آخر ما كان لينجو في لبنان ولو كان «جبارًا»، مشيرًا إلى أن أهم ما يميز الحاكم الحالي قدرته على خلق «الثقة» عند اللبنانيين، ولا سيما بعدما مرّ لبنان والدول المحيطة به بأكثر من أزمة لم يتأثر بها لبنان ماليًا، على الرغم من الترددات السياسية الكبيرة لها. ويوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «اللبنانيين لم يحسوا بعمق الأزمة المالية العالمية في العام 2008 بفضل حصافة السياسات النقدية لمصرف لبنان».
ويجزم المصرفي اللبناني بأن سلامة «اختار البقاء على الحياد وتجنب اللعبة السياسية حفاظًا على الاستقرار المالي والنقدي». ويشير إلى أنه لو كان قرّر دخول اللعبة السياسية ولو بنسبة 5 في المائة لكان الوضع اللبناني أسوأ بكثير مما هو عليه الآن. ويشرح أن سلامة «رفض الدخول في هذه اللعبة على الرغم من أن كثيرين حاولوا استمالته إليها بطريقة أو بأخرى». ويضيف المصرفي اللبناني أن «وضع لبنان سيئ على جميع المستويات والبلد مفكك على مختلف الأصعدة، ولكن ما يزال للبنان أمل وحيد هو الاستقرار النقدي القائم»، مؤكدا أن سلامة «لم يتزحزح عن قناعته لأنه يعرف أنه إذا أراد أن يرضي فلانًا أو علانًا فسيدمر البلد».
وفعلاً، يمسك سلامة، المعروف في لبنان بلقب «الحاكم»، بالوضع المالي والنقدي اللبناني بيد من حديد منذ العام 1993. ومنذ ذلك التاريخ لم تشهد العملة الوطنية أي تراجع في قيمتها بعد انهيار شهدته الأسواق اللبنانية في أوائل التسعينات نتيجة «المضاربات السياسية»، أو ما اعتبره البعض «عملية تصحيحية» لقيمتها بعد الخروج من الحرب الأهلية اللبنانية التي أنهكت الاقتصاد. ولقد دخل سلامة مصرف لبنان ليجد فيه 300 مليون دولار أميركي من الموجودات النقدية بالعملات الصعبة، لكنه تمكن بعدها إلى رفعه ليصبح نحو 37 مليار دولار في الوقت الراهن، كما يؤكد كبير الاقتصاديين في مجموعة بنك «بيبلوس» نسيب غبريل لـ«الشرق الأوسط».
ويشير غبريل إلى أن «القطاع المصرفي اللبناني كان بحاجة لدى تعيين سلامة في العام 1993 إلى قوانين وتعاميم تضبط الواقع المالي والنقدي بعد فترة من التضخم والتراجع»، مشيرا إلى أن أول قرار اتخذه حينها، وما يزال يعمل به، هو «تثبيت سعر صرف الليرة ولجم التضخم». ويستطرد موضحًا أن سلامة قام بعدة خطوات لتطبيق المعايير الدولية على القطاع المصرفي اللبناني. ولا يرى غبريل في قرار تثبيت سعر صرف الليرة أي سلبيات لأن هذا الثبات مرده ليس القرار، بل الثقة بمصرف لبنان، وبالقطاع المصرفي اللبناني الذي استطاع التأقلم مع 15 سنة من الحرب الأهلية و22 سنة من الاحتلال الإسرائيلي وعشرات الخضات السياسية والأمنية والاقتصادية.
«الثقة».. «الثقة»..
تكاد كلمة «الثقة» تكون الرقم الأول في قاموس حاكم مصرف لبنان. فالحاكم يركز على الثقة كعامل أساسي في العمل النقدي: الثقة الدولية بالوضع المالي اللبناني، والثقة المحلية بالقطاع المصرفي. ولهذا حرص منذ وصوله وحتى اليوم على عدم ضياع ودائع أي شخص كان. فإذا تعثر مصرف ما تدخل مصرف لبنان لتعويمه، أو سهل عملية اندماجه بأحد المصارف.
واستطاع سلامة عبر هذه السياسات من فرض استقرار نقدي لافت، كما استطاع تأمين سيولة نقدية جيدة من خلال إلزامه المصارف وضع 15 في المائة من ودائعها كاحتياط إلزامي في المصرف المركزي، ما مكنه من الوصول إلى نسبة ملاءة ممتازة تجعله قادرًا على لجم أي مضاربة على العملة الوطنية.
من ناحية ثانية، يردّ غبريل بقاء سلامة في موقعه كل هذه الفترة إلى «نجاح الحاكم وسياسات مصرف لبنان والثقة التي يولدها». ويشير إلى أنه في عهده ارتفعت الودائع المصرفية في القطاع المصرفي اللبناني إلى نحو 153 مليار ليرة في نهاية العام الماضي، مع نسبة سيولة تصل إلى 36 في المائة، وهي من أفضل النسب في العالم. وهو ما جعل المصارف قادرة على تأمين احتياجات الدولة من الأموال المخصّصة لسد عجز الموازنة، حيث أصبحت هذه المصارف الدائن الأول للدولة اللبنانية بمبلغ يصل إلى 38 مليار دولار من أصل 72 مليار دولار هي مجموع الدين العام اللبناني. وللعلم، تبلغ موجودات مصرف لبنان حتى منتصف يونيو (حزيران) الحالي 36.8 مليار دولار، فيما تبلغ قيمة الاحتياطي من الذهب 11.8 مليار دولار (9 ملايين أونصة). وتبلغ الموازنة المجمّعة للمصرف المركزي 98 مليار دولار.
بطاقة هوية
ولد رياض توفيق سلامة في بلدة أنطلياس (بضواحي شمال شرقي بيروت) العام 1950. وهو ابن عائلة مسيحية مارونية من أنطلياس هاجرت إلى ليبيريا في غرب أفريقيا، وأسست متاجر كبرى. ووالدته رينيه رومانس سلامة، اشتهرت بأعمالها الخيرية والاجتماعية، وكانت عضوًا فاعلاً في الصليب الأحمر اللبناني، وقتلت خلال الحرب الأهلية في العام 1982.
لديه ثلاثة إخوة: منى (زوجة جو عيسى الخوري)، رمزي (رسّام وروائي) ورجا (رجل أعمال). لكن رياض سلامة لم يعرف والديه جيدًا إلا بعدما بلغ سن الـ18. فقد عاش والداه في أفريقيا منذ ولادته، بينما تربّى في منزل جدّيه، وأشرفت خالته لورا تابت زوجة رجل الأعمال فؤاد تابت، الذي يعتبر بمثابة أبوه الروحي، على دراسته.
تلقى تعليمه في مدرسة الجمهور الراقية، وأنهاها في الجامعة الأميركية في بيروت حائزًا إجازة في الاقتصاد. وإبان دراسته في الجامعة التقى بندى كرم وتزوّج منها، وهي كاتبة ولها مؤلفات، وله منها أربعة أولاد: ابنه نادي، وبناته نور ورنا وريم.
تصفه زوجته ندى في حوار مع مجلة «هي» بأنه «إنسان جدي جدًا وهادئ»، مشيرة إلى أنها تفهم «أنه من الصعب علينا معًا القيام بالاجتماعيات، بسبب ظروف عمله... ولأني أستوعب زوجي وعمله... بحثت عن باب للتعبير عن فني وذوقي فلجأت إلى الكتب... ففي المساء نطالع معًا الكتب، ونضع يدًا بيد في كل ما يواجه حياتنا وعائلتنا». وهي ترى أن اختياره كأفضل حاكم مصرف في العالم للعام 2006 «جاء ليردّ على كل هجوم طاله... وهذا ما يستحقه بعد كل ما قدمه للوطن». وتصفه أيضًا بأنه «رجل جدي، يحترم الفن كثيرًا، وهو صريح للغاية، يعبر عن رأيه مباشرة، وهذا ما يساعدنا على فهم بعضنا أكثر». أما كأب فتقول عنه بأنه «يهتم كثيرًا بأولاده وتفاصيل حياتهم ويوجههم للأفضل ولصالح مستقبلهم، أما كجد فقد اكتشفت أكثر فأكثر كم أنه حنون يبحث عن اللحظات التي تجمعه بحفيدته».
الحياة المهنية
انطلاقة سلامة الأولى في عالم المال بدأت بعد تخرجه في الجامعة الأميركية، حين عقد لقاء عمل مع مدير شركة «ميريل لينش» المالية الأميركية، وأصبح بعده مسؤولاً عن عملية شراء الأسهم وبيعها في المؤسسة. ثم أصبح مقصد رجال الأعمال العرب، وأكثر موظف في المؤسسة خارج أميركا حقق نسبة تداول في الأسهم. وبعدما ذاع صيته، اتصل به محامي الرئيس الراحل رفيق الحريري الخاص، باسيل يارد، وطلب منه توظيف بعض الأموال الخاصة بالحريري. ومن ثم تعرّف إليه الرئيس الحريري، وأحب تمرّسه في العمل، فعرض اسمه كحاكم لمصرف لبنان العام 1993، وكان بمثابة مستشاره المالي في الكثير من الأزمات والملمات التي مر بها لبنان.
حسب جوزف طربيه، رئيس جمعية المصارف اللبنانية، يقول: إن سلامة «يحتل موقعًا فريدًا في تاريخ لبنان الاقتصادي، وقد ترك الدور الهام الذي يقوم به على رأس السلطة النقدية ارتدادات إيجابية على مختلف الصعد من نقدية واقتصادية واجتماعية نتيجة سجل حافل بالإنجازات منذ تسلمه لمنصبه على رأس البنك المركزي اللبناني». ويضيف «اختار (سلامة) سياسة الاستقرار النقدي، ونجح في وقف التقلبات الحادة للنقد اللبناني صعودًا ونزولاً، ولم ترهبه توصيات صندوق النقد الدولي التي كانت تتعارض مع سياسة الاستقرار النقدي، ولم تثنه عن سياسته انتقادات بعض الاقتصاديين والمنظرين الماليين في وطن يختلط فيه الرأي التقني بالاقتصادي والسياسي». واعتبر أن القطاع المصرفي اللبناني «لم يعرف استقرارًا تامًا بعيدًا عن الاهتزازات، إلا منذ تسلم رياض سلامة الحاكمية التي حصّنها بحكمته، ونجح خلال ولاياته متتالية في تكريس نموذج خاص للسلطة النقدية، يجمع بين خصوصيات لبنان واقتصاده وبين الالتزام الصارم بالمعايير والمواصفات الدولية والتحديث والتطوير المؤسساتي والبشري، وهذا ما استحق تكريمَه ومنحَه الكثير من الجوائز محليًا وإقليميًا ودوليًا».
وحقًا، حاز سلامة على الكثير من الألقاب والتكريم في حياته، إذ حاز على لقب «أفضل حاكم مصرف مركزي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، وكان أصغر حاكم مصرف مركزي على الإطلاق، ثم في العام 2003 في دبي والعام 2006 كـ«أفضل حاكم مصرف في العالم» وتسلم الجائزة في سنغافورة.