عاش الأديب الآيرلندي المولد والبريطاني الجنسية جورج برنارد شو حياة بائسة بالفعل. كان أبوه سكيرًا، وعائلته فقيرة ومعدمة.. فرّت والدته بصحبة أختيه إلى لندن هربًا من سوء المعيشة في دبلن، ولحق بهم إلى هناك لكنه قاسى في لندن ما كان يكابده في آيرلندا.. لم يكمل تعليمه، لكنه واظب على القراءة والكتابة، وأصبح ناقدًا وأديبًا مشهورًا، حوّل معاناته إلى مادة ساخرة، فأصبحت كتاباته ومسرحياته وسيلة للسخرية من الواقع.
أصبح الآيرلندي برنارد شو تراثًا إنجليزيًا، ومرجعًا في الطرافة والفكاهة، رغم أن الإنجليز أنفسهم دأبوا على توجيه نكاتهم وتعليقاتهم الساخرة لجيرانهم الآيرلنديين الذين تصفهم النكت الإنجليزية بالبلاهة والغباء، وكانت سيرة «شو» مثل كتاباته حافلة بروح الطرفة والدعابة. ذات يوم قصد برنارد شو مكتبة تبيع كتبًا مستعملة بأسعار زهيدة، فوقع نظره على كتاب يحوي بعض مسرحياته القديمة، ولما فتحه هاله أن يرى أن هذه النسخة كان قد أهداها إلى صديق له، وكتب عليها بخط يده: «إلى من يقدّر الكلمة الحرة حق قدرها، إلى الصديق العزيز مع أحر تحيات برنار شو»، فاشترى «شو» تلك النسخة من البائع، وكتب تحت الإهداء الأول: «جورج برنارد شو يجدد تحياته الحارة إلى الصديق العزيز الذي قدّر الكلمة حق قدرها».. وأرسل النسخة بالبريد المسجل إلى ذلك الصديق.
يشرح برناردو شو فلسفته في الكوميديا بالقول: «عندما يكون الشيء مثيرا للضحك، فابحث جيدا حتى تصل إلى الحقيقة الكامنة وراءه»، ويقول: «إن أسلوبي في المزاح هو أن أقول الحقيقة».
استخدمت الكوميديا كملهاة وترفيه عن النفس. وتحولت إلى وسيلة لتمرير رسائل، أو تنفيس الاحتقان، أو النفوذ نحو التابوهات المحرمة. فلا يوجد مثل الكوميديا يمكنها اختراق الحواجز الخرسانية الصلبة والوصول لجوهر أي قضية ملتهبة وتبريدها.
وطبيعة الكوميديا أنها تعتمد المبالغة حتى يمكنها أن تصل إلى لحظة البهجة التي يشعر بها المتلقي، وفي الكوميديا السوداء تصبح تلك المبالغة مفيدة، لأنها تنفخ الحدث حتى يتضخم كفقاعة البالون.. ثم ينفجر.
تنجح الكوميديا فيما فشلت فيه المحاولات الجادة بنزع اللحاء السميك حول الأشخاص والجماعات والأفكار والعادات والتقاليد، اللحاء الذي يحيطها بجدار من العزلة، ينمو معه الشك والريبة والخوف، وينشأ مفهوم «الآخر» المقابل للذات. الكوميديا رغم أن لها طعمًا مرًا ولاذعًا - أحيانًا - إلا أنها تذّوب الفروقات بين البشر، تجعلهم يضحكون ويتندرون على أنفسهم وعلى أخطائهم ومواقفهم، ويكتشفون أن الضحك يمكنه أن يزيدهم إنسانية، وينزع عنهم التوحش، ويشذب سلوكهم.
إذا أردت تفريغ أي احتقان اجتماعي، سلّط عليه الكوميديا التي يمكنها أن تنفس شيئا من ذاك الاحتقان، وتعالج بروح السخرية جوهر تلك القضايا المتسم بالجدية والصرامة. الكوميديا يمكنها أن تذيب الجلطات في الشرايين المغلقة، فتجعل الدماء تجري من جديد.
أكثر المعلقين السعوديين على حلقة «سيلفي» التي تناولت الأزمة الطائفية في المجتمع، أبدوا ارتياحهم، لأنهم وجدوا أن أشد قضاياهم المعلقة التي لم ينجحوا في تذويبها، تمكنت عشرون دقيقة من الكوميديا أن تفرغها من كل شحنات التوتر والاحتقان، وتعيدها إلى طابعها الإنساني العفوي. الكوميديا تمكنت من جعل الناس يضحكون وهم ينتقدون واقعهم، بينما بعض الخطب والمناظرات تشعل الناس كراهية وحقدًا وهم يتعصبون لأفكارهم ويتسمرون في واقعهم.
الكوميديا.. لتذويب الجلطات!
الكوميديا.. لتذويب الجلطات!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة