تلقيت بعض التعليقات عقب نشر مقال الأسبوع الماضي «كلمات لا تُنسى» التي دعتني لأن أُجمع بعض مقولات من تاريخ العرب وخطبهم أسوة بالمقتطفات التي أوردتها لمفكرين وفلاسفة وساسة أوروبيين في هذا مقال نقلا عن أحد الكتب التي أُهديت إلي؛ وهو ما دفعني على الفور للعمل على تجميع بعض هذه المقولات والخطب من مصادر إسلامية وعربية مختلفة بالنظر إلى عدم وجود كتب على غرار الكتاب الذي اقتبست منه المقال السابق، وبعد البحث أقدم للقارئ مجموعة منتقاة من المقتطفات التي أسوقها فيما يلي:
أولاً: لعل من أكثر الأمور أثرًا في نفسي وأنا أتابع القانون الدولي الإنساني، الذي بدأ يتبلور في القرن التاسع عشر حول قواعد الحرب والسلم والذي تمخض عن اتفاقيات جنيف الأربع وغيرها، هي وصايا الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين للجيوش الإسلامية وهي تسير نحو أهدافها العسكرية، والتي أراها مثالاً، بل أساسًا لمفهوم القانون الدولي الإنساني قبل ثلاثة عشر قرنًا من الزمان قبل الدعوة لتدوينها، فقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام «....أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرًا، اغزوا باسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة ولا كبيرًا فانيًا ولا منعزلاً بصومعة ولا تقربوا نخلاً ولا تقطعوا شجرًا ولا تهدموا بناءً»؛ ومن أقواله أيضًا عليه الصلاة والسلام «...لا تقتلوا صبيًا ولا امرأة ولا شيخا كبيرًا ولا مريضًا ولا راهبًا ولا تقطعوا مُثمرًا ولا تخربوا عامرًا ولا تذبحوا بعيرًا ولا بقرة إلا لمأكل، ولا تٌغرقوا نحلاً ولا تحرقوه».
ثانيًا: جمع الخليفة أبو بكر الصديق المسلمين في المسجد، وقال لهم جملته الشهيرة «أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد»، في تحية للقائد المغوار وبطل الإسلام سيف الله خالد بن الوليد، الذي كان ينظم جيوشه آنذاك لحصار الحيرة تمهيدًا لضمها للدولة الإسلامية، وقد ساق له القدر رجلا طاعنًا في السن يدعى عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة دخل معه في حوار عجيب لم يسجل التاريخ مثله كثيرًا، بدأ بغضب من خالد بن الوليد وانتهى باحترامه له وتقديره إياه. وقد أورد الطبري هذا الحوار على النحو التالي: سأله خالد بن الوليد «كم أتت عليك؟ (أي كم عمرك؟)»، فرد عبد المسيح «مئو سنين»، فقال خالد «فما أعجب ما رأيت» فقال: «رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة، تخرج المرأة من الحيرة فلا تُزود إلا رغيفًا»، وهنا ظن سيف الله أن الرجل فقد صوابه، فقال له «هل لك من شيخك إلا عمله (أي ألم تتعلم شيئا من طول عمرك) خرفت والله يا عمرو»، فقال خالد مناديا أهل الحيرة «...فما لكم تناولون حوائجكم بخرف لا يدري من أين جاء»، فرد عبد المسيح قائلا: «وحقك أيها الأمير إني لأعرف من أين جئت!» فقال سيف الله «فمن أين جئت؟»، فقال: «من بطن أمي» فقال له «فأين تريد؟» فقال له «أمامي» فقال خالد «وما هو» فقال عبد المسيح «الآخرة»، فرد خالد «فمن أين أقصي أثرك؟ (أي من أين أتتبعك؟)» فقال عبد المسيح «من صلب أبي»، فقال خالد «ففيم أنت؟» فرد «في ثيابي»، فغضب خالد غضبًا شديدًا وقال له «قتلت أرض جاهلها...»، فرد عليه عبد المسيح قائلا: «أيها الأمير، النملة أعلم بما في بيتها من الجمل في بيت النملة»، وهنا أدرك سيف الله أنه أمام داهية العراق لأنه يعرف ما في الحيرة أكثر من خالد، وبالتالي فهو أهلٌ للحديث معه، فاحترمه وتفاوض معه على دفع الجزية ومنحه السلام. ولكن هذا الحوار يمثل في حقيقة الأمر نوعًا من الدبلوماسية قليلاً ما نجد مثلها حاليًا، فالقدرة على قلب الضعف قوة والعمر لحكمة قد يغيب عن كثير من الساسة.
ثالثًا: بات نهاية حكم الدولة الأموية وشيكًا في عهد الخليفة مروان بن محمد، فلقد بدأ خطر الدولة العباسية من خُراسان يستفحل ويتحرك تدريجيًا نحو الغرب تجاه العراق ثم الشام، ولكن الخليفة كان يركز جهوده لمحاربة الفتن والخارجين على حكمه في مصر والشام تاركًا إدارة الصراع في الشرق لواليه نصر بن سيّار أحد أبرع قادة العرب وشعرائهم بلا دعم، فكتب الرجل سلسلة من أبيات الشعر الخالدة تعكس الوضع وبداية النهاية للدولة الأموية، ومنها:
أرى تحت الرماد وميض جمرٍ
ويوشك أن يكون لها ضرامُ
فــإن النـــار بالعوديــــن تُذْكَى
وإن الحرب مبدؤهــــا كـلام
فإن لم يطفها عقــــلاء قــــومٍ
يكون وقودهــــا جثث وهام
فقلتُ من التعجب ليت شعري
أأيقـــــــاظ أميـــة أم نيـــــام
* وعندما لم يأته المدد كتب مرة أخرى للخليفة يقول:
من مُبلغ عنـــي الإمــــــامَ
الذي قـــــام بأمرٍ بَيِّنٍ ســاطع
إنا ومــا نَكتمُ من أمـــــرنا
كالثـور إذا قـــــــرب للنـــاخع
أو كالتي يحســــبها أهلها
عــذراء بكرًا وهي في التاسع
أَنَّى نذيـــــرٌ لكِ من دولـــةٍ
قــام بهــــا ذو رحـــــمٍ قاطـع
والثوب إن أنهج فيه البلى
أُعْيِى على ذي الحيـــلة الصانع
كنا نـــــداريها فقـــد مُزِّقَتْ
واتســـع الخرق على الراقــع
* وفي المقابل رد أبو مسلم الخراساني، قائد القوات العباسية، بأبيات شعر يفخر فيها بهزيمة الأمويين ليقول:
أدركتُ بالحزم والكتمان ما عجزتْ
عنه ملوك بني مروان إذ حشـدوا
ما زلت أسعى بجهدي في دمارهـمِ
والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا
حتى ضربتهُمُ بالســـــيف فانتبهوا
من نومــــة لم ينهما قبلـــهم أحد
ومن رعى غنمًا في أرض مَسبَعة
ونـــام عنها تولى رعيــَـها الأسد
وهكذا سقطت الدولة الأموية لصالح الدولة العباسية الفتية، ولم يدرك مروان بن محمد قيمة حدس واليه نصر بن سيّار وتحذيره، وعندما أدرك ذلك فقد فات الأوان، فبكى آل أمية على الحكم الضائع.
رابعًا: زالت الدولة الأموية بموت الخليفة مروان بن محمد، واعتلى أبو العباس السفاح سدة الحكم بعد سنوات ممتدة من التخطيط والمراقبة والتحرك السري، فانتقل إلى العراق بعيدًا عن الشام مركز ثقل الأمويين، فألقى في الكوفة خطبة تأسيس الدولة وهو مريض، جاء فيها «... الحمد لله الذي اصطفى الإسلام، وشرفه وعظمه، واختاره لنا، وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه، والقوام به.... وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله وقرابته، وأنشأنا من آبائه، وأنبتنا من شجرته... وزعمت السبئية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا فشاهت (قُبحت) وجوههم، بما ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، ودحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدًا... وقد فتح الله ذلك منة ومنحة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما قبضه الله إليه، قام بذلك الأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم، فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها وخرجوا خِماصًا (جوعًا) منها، ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها وتداولوها بينهم، فجأروا فيها، واستأثروا بها وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينًا حتى آسفوه (أغضبوه)، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، وردّ علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولي نصرنا، والقيام بأمرنا، ليمُن بنا على الذين اُستُضعِفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإني لأجور أن لا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح. وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله، يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يُثنكم عن ذلك تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدركتم زمامنا، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثأر المبين». وكان المقصود بلفظ السفّاح هنا هو الكرم والإغداق على الآخرين بالعطايا، وإن كانت شبهة السفح بالأمويين لم تتخل عنه، فقد أعمل رجاله السيف في الأمويين تحت أبيات شعر الشاعر سديف بن إسماعيل بن ميمون، الذي قال:
يا بن عـــم النبـي أنت ضيـــــاء
استبنَّا بك اليقيــــن الجليا
لا يغرنك ما تــرى من خضـــوعٍ
إن تحت الضـلوع داءً دويًا
بَطُنَ البغض في القديــم فأضحى
ثابتـــًا في قلوبـهم مطـــويًا
فضع السيف وارفع السوط حتى
لا ترى فوق ظهرهـا أمـويا
خامسا: إن كثيرًا من الشعراء كانوا يدفعون ثمن شعرهم لأسباب إما تتعلق بالتعدي على الحاكم أو للمجون أو للذندقة: «فالكلمة نور» كما يقول الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي: «وبعض الكلمات قبور»، وهو ما حدث لابن المقفع على أيدي الخليفة أبي جعفر المنصور، فيقال: إنه كتب مسودة رسالة للعرض على المنصور يؤمّن فيها عبد الله بن علي، جاء فيها «... وإن أنا نلت منه بمكروه... فأنا نفيَّ من محمد بن علي بن عبد الله ومولود لغير رشدة (أي من السفاح)»، فغضب الخليفة وقال لمن حوله «فما أحد يكفينيه»، فدبر سفيان والي البصرة المكيدة وقتله شر قتلة وقطع أعضائه، ولكن الرجل أنشد بيتين من الشعر عظيمين وهو يحتضر قال فيهما لقاتله:
إذا ما مات مثلي مــات شخص
يموت بموتـــه خلق كثيــــر
وأنت تموت وحدك ليس يدري
بموتك لا الصغير ولا الكبير
سادسًا: لا تنسى العرب أبدا شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي سواء لأنه رشق بيت الله بالمجانيق، أو لدمويته في القضاء على خلافة عبد الله بن الزبير، أو تصفية الفتنة في العراق، وفي عام 75 من الهجرة أرسل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان هذا الرجل إلى العراق ليهددهم ويقضي على الثورة فيهم، فتوجه الرجل إلى الكوفة وعند وصوله اعتلى المنبر وهو ملثم ثم خلع اللثام، وقال خطبته الشهيرة بل والفريدة «... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا.... متى أضع العمامة تعرفوني، يا أهل الكوفة إني لأري رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، وكأنه والله أنظر إلى الدماء بين اللحى والعمائم، وأنكم كأهل قرية (كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)»، وبهذه الكلمات البائسة بدأ عصر التهديد والوعيد لأهل العراق على أيدي الدولة الأموية.
من التاريخ : مقتطفات عربية
من التاريخ : مقتطفات عربية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة