من التاريخ : مقتطفات عربية

من التاريخ : مقتطفات عربية
TT

من التاريخ : مقتطفات عربية

من التاريخ : مقتطفات عربية

تلقيت بعض التعليقات عقب نشر مقال الأسبوع الماضي «كلمات لا تُنسى» التي دعتني لأن أُجمع بعض مقولات من تاريخ العرب وخطبهم أسوة بالمقتطفات التي أوردتها لمفكرين وفلاسفة وساسة أوروبيين في هذا مقال نقلا عن أحد الكتب التي أُهديت إلي؛ وهو ما دفعني على الفور للعمل على تجميع بعض هذه المقولات والخطب من مصادر إسلامية وعربية مختلفة بالنظر إلى عدم وجود كتب على غرار الكتاب الذي اقتبست منه المقال السابق، وبعد البحث أقدم للقارئ مجموعة منتقاة من المقتطفات التي أسوقها فيما يلي:
أولاً: لعل من أكثر الأمور أثرًا في نفسي وأنا أتابع القانون الدولي الإنساني، الذي بدأ يتبلور في القرن التاسع عشر حول قواعد الحرب والسلم والذي تمخض عن اتفاقيات جنيف الأربع وغيرها، هي وصايا الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين للجيوش الإسلامية وهي تسير نحو أهدافها العسكرية، والتي أراها مثالاً، بل أساسًا لمفهوم القانون الدولي الإنساني قبل ثلاثة عشر قرنًا من الزمان قبل الدعوة لتدوينها، فقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام «....أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرًا، اغزوا باسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليدًا ولا امرأة ولا كبيرًا فانيًا ولا منعزلاً بصومعة ولا تقربوا نخلاً ولا تقطعوا شجرًا ولا تهدموا بناءً»؛ ومن أقواله أيضًا عليه الصلاة والسلام «...لا تقتلوا صبيًا ولا امرأة ولا شيخا كبيرًا ولا مريضًا ولا راهبًا ولا تقطعوا مُثمرًا ولا تخربوا عامرًا ولا تذبحوا بعيرًا ولا بقرة إلا لمأكل، ولا تٌغرقوا نحلاً ولا تحرقوه».
ثانيًا: جمع الخليفة أبو بكر الصديق المسلمين في المسجد، وقال لهم جملته الشهيرة «أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد»، في تحية للقائد المغوار وبطل الإسلام سيف الله خالد بن الوليد، الذي كان ينظم جيوشه آنذاك لحصار الحيرة تمهيدًا لضمها للدولة الإسلامية، وقد ساق له القدر رجلا طاعنًا في السن يدعى عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة دخل معه في حوار عجيب لم يسجل التاريخ مثله كثيرًا، بدأ بغضب من خالد بن الوليد وانتهى باحترامه له وتقديره إياه. وقد أورد الطبري هذا الحوار على النحو التالي: سأله خالد بن الوليد «كم أتت عليك؟ (أي كم عمرك؟)»، فرد عبد المسيح «مئو سنين»، فقال خالد «فما أعجب ما رأيت» فقال: «رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة، تخرج المرأة من الحيرة فلا تُزود إلا رغيفًا»، وهنا ظن سيف الله أن الرجل فقد صوابه، فقال له «هل لك من شيخك إلا عمله (أي ألم تتعلم شيئا من طول عمرك) خرفت والله يا عمرو»، فقال خالد مناديا أهل الحيرة «...فما لكم تناولون حوائجكم بخرف لا يدري من أين جاء»، فرد عبد المسيح قائلا: «وحقك أيها الأمير إني لأعرف من أين جئت!» فقال سيف الله «فمن أين جئت؟»، فقال: «من بطن أمي» فقال له «فأين تريد؟» فقال له «أمامي» فقال خالد «وما هو» فقال عبد المسيح «الآخرة»، فرد خالد «فمن أين أقصي أثرك؟ (أي من أين أتتبعك؟)» فقال عبد المسيح «من صلب أبي»، فقال خالد «ففيم أنت؟» فرد «في ثيابي»، فغضب خالد غضبًا شديدًا وقال له «قتلت أرض جاهلها...»، فرد عليه عبد المسيح قائلا: «أيها الأمير، النملة أعلم بما في بيتها من الجمل في بيت النملة»، وهنا أدرك سيف الله أنه أمام داهية العراق لأنه يعرف ما في الحيرة أكثر من خالد، وبالتالي فهو أهلٌ للحديث معه، فاحترمه وتفاوض معه على دفع الجزية ومنحه السلام. ولكن هذا الحوار يمثل في حقيقة الأمر نوعًا من الدبلوماسية قليلاً ما نجد مثلها حاليًا، فالقدرة على قلب الضعف قوة والعمر لحكمة قد يغيب عن كثير من الساسة.
ثالثًا: بات نهاية حكم الدولة الأموية وشيكًا في عهد الخليفة مروان بن محمد، فلقد بدأ خطر الدولة العباسية من خُراسان يستفحل ويتحرك تدريجيًا نحو الغرب تجاه العراق ثم الشام، ولكن الخليفة كان يركز جهوده لمحاربة الفتن والخارجين على حكمه في مصر والشام تاركًا إدارة الصراع في الشرق لواليه نصر بن سيّار أحد أبرع قادة العرب وشعرائهم بلا دعم، فكتب الرجل سلسلة من أبيات الشعر الخالدة تعكس الوضع وبداية النهاية للدولة الأموية، ومنها:
أرى تحت الرماد وميض جمرٍ
ويوشك أن يكون لها ضرامُ
فــإن النـــار بالعوديــــن تُذْكَى
وإن الحرب مبدؤهــــا كـلام
فإن لم يطفها عقــــلاء قــــومٍ
يكون وقودهــــا جثث وهام
فقلتُ من التعجب ليت شعري
أأيقـــــــاظ أميـــة أم نيـــــام
* وعندما لم يأته المدد كتب مرة أخرى للخليفة يقول:
من مُبلغ عنـــي الإمــــــامَ
الذي قـــــام بأمرٍ بَيِّنٍ ســاطع
إنا ومــا نَكتمُ من أمـــــرنا
كالثـور إذا قـــــــرب للنـــاخع
أو كالتي يحســــبها أهلها
عــذراء بكرًا وهي في التاسع
أَنَّى نذيـــــرٌ لكِ من دولـــةٍ
قــام بهــــا ذو رحـــــمٍ قاطـع
والثوب إن أنهج فيه البلى
أُعْيِى على ذي الحيـــلة الصانع
كنا نـــــداريها فقـــد مُزِّقَتْ
واتســـع الخرق على الراقــع
* وفي المقابل رد أبو مسلم الخراساني، قائد القوات العباسية، بأبيات شعر يفخر فيها بهزيمة الأمويين ليقول:
أدركتُ بالحزم والكتمان ما عجزتْ
عنه ملوك بني مروان إذ حشـدوا
ما زلت أسعى بجهدي في دمارهـمِ
والقوم في غفلة بالشام قد رقدوا
حتى ضربتهُمُ بالســـــيف فانتبهوا
من نومــــة لم ينهما قبلـــهم أحد
ومن رعى غنمًا في أرض مَسبَعة
ونـــام عنها تولى رعيــَـها الأسد
وهكذا سقطت الدولة الأموية لصالح الدولة العباسية الفتية، ولم يدرك مروان بن محمد قيمة حدس واليه نصر بن سيّار وتحذيره، وعندما أدرك ذلك فقد فات الأوان، فبكى آل أمية على الحكم الضائع.
رابعًا: زالت الدولة الأموية بموت الخليفة مروان بن محمد، واعتلى أبو العباس السفاح سدة الحكم بعد سنوات ممتدة من التخطيط والمراقبة والتحرك السري، فانتقل إلى العراق بعيدًا عن الشام مركز ثقل الأمويين، فألقى في الكوفة خطبة تأسيس الدولة وهو مريض، جاء فيها «... الحمد لله الذي اصطفى الإسلام، وشرفه وعظمه، واختاره لنا، وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه وحصنه، والقوام به.... وألزمنا كلمة التقوى، وجعلنا أحق بها وأهلها، وخصنا برحم رسول الله وقرابته، وأنشأنا من آبائه، وأنبتنا من شجرته... وزعمت السبئية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا فشاهت (قُبحت) وجوههم، بما ولم أيها الناس؟ وبنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، وبصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق، ودحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسدًا... وقد فتح الله ذلك منة ومنحة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما قبضه الله إليه، قام بذلك الأمر من بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم، فعدلوا فيها ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها وخرجوا خِماصًا (جوعًا) منها، ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها وتداولوها بينهم، فجأروا فيها، واستأثروا بها وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حينًا حتى آسفوه (أغضبوه)، فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا، وردّ علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وولي نصرنا، والقيام بأمرنا، ليمُن بنا على الذين اُستُضعِفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإني لأجور أن لا يأتيكم الجور من حيث أتاكم الخير ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح. وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله، يا أهل الكوفة، أنتم محل محبتنا، ومنزل مودتنا، أنتم الذين لم تتغيروا عن ذلك، ولم يُثنكم عن ذلك تحامل أهل الجور عليكم، حتى أدركتم زمامنا، وأتاكم الله بدولتنا، فأنتم أسعد الناس بنا، وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثأر المبين». وكان المقصود بلفظ السفّاح هنا هو الكرم والإغداق على الآخرين بالعطايا، وإن كانت شبهة السفح بالأمويين لم تتخل عنه، فقد أعمل رجاله السيف في الأمويين تحت أبيات شعر الشاعر سديف بن إسماعيل بن ميمون، الذي قال:
يا بن عـــم النبـي أنت ضيـــــاء
استبنَّا بك اليقيــــن الجليا
لا يغرنك ما تــرى من خضـــوعٍ
إن تحت الضـلوع داءً دويًا
بَطُنَ البغض في القديــم فأضحى
ثابتـــًا في قلوبـهم مطـــويًا
فضع السيف وارفع السوط حتى
لا ترى فوق ظهرهـا أمـويا
خامسا: إن كثيرًا من الشعراء كانوا يدفعون ثمن شعرهم لأسباب إما تتعلق بالتعدي على الحاكم أو للمجون أو للذندقة: «فالكلمة نور» كما يقول الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي: «وبعض الكلمات قبور»، وهو ما حدث لابن المقفع على أيدي الخليفة أبي جعفر المنصور، فيقال: إنه كتب مسودة رسالة للعرض على المنصور يؤمّن فيها عبد الله بن علي، جاء فيها «... وإن أنا نلت منه بمكروه... فأنا نفيَّ من محمد بن علي بن عبد الله ومولود لغير رشدة (أي من السفاح)»، فغضب الخليفة وقال لمن حوله «فما أحد يكفينيه»، فدبر سفيان والي البصرة المكيدة وقتله شر قتلة وقطع أعضائه، ولكن الرجل أنشد بيتين من الشعر عظيمين وهو يحتضر قال فيهما لقاتله:
إذا ما مات مثلي مــات شخص
يموت بموتـــه خلق كثيــــر
وأنت تموت وحدك ليس يدري
بموتك لا الصغير ولا الكبير
سادسًا: لا تنسى العرب أبدا شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي سواء لأنه رشق بيت الله بالمجانيق، أو لدمويته في القضاء على خلافة عبد الله بن الزبير، أو تصفية الفتنة في العراق، وفي عام 75 من الهجرة أرسل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان هذا الرجل إلى العراق ليهددهم ويقضي على الثورة فيهم، فتوجه الرجل إلى الكوفة وعند وصوله اعتلى المنبر وهو ملثم ثم خلع اللثام، وقال خطبته الشهيرة بل والفريدة «... أنا ابن جلا وطلاع الثنايا.... متى أضع العمامة تعرفوني، يا أهل الكوفة إني لأري رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، وكأنه والله أنظر إلى الدماء بين اللحى والعمائم، وأنكم كأهل قرية (كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)»، وبهذه الكلمات البائسة بدأ عصر التهديد والوعيد لأهل العراق على أيدي الدولة الأموية.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.