من التاريخ: كلمات لا تنسى

من التاريخ: كلمات لا تنسى
TT

من التاريخ: كلمات لا تنسى

من التاريخ: كلمات لا تنسى

أهداني أحد الأصدقاء كتابًا ما زلتُ أتأمله كلما تأتيني الفرصة، وهو كتاب قيم للغاية لأنه يحوي خطبًا خالدة سجّلها التاريخ لعظمائه باللغة الإنجليزية. وهي ليست فقط شاهدة على شخصية مُلقيها ومعبرةً عنه، ولكنها أيضًا تمثل شهادتهم على العصر الذي كان يعيشون فيه، ولقد رأيت من المناسب أن أختار بعض هذه الخطب، أو أجزاء منها، لعرضها على القارئ مع خلفية بسيطة عن قائليها ومناسباتها، وفيما يلي بعض الاختيارات أطرحها على القارئ العزيز:
أولاً: في عام 399 قبل الميلاد حاكمت أثينا الفيلسوف العظيم سقراط متهمةً إياه بأنه يُفسد الشباب لأنه يدفعهم للتفكير. وبعد إدانته تجرّع الرجل السم راضيًا، بل عندما سعى تلاميذه لإنقاذه رفض الرجل فرصة الحياة كي لا يشق عصا الطاعة والاحترام للدولة ومؤسساتها ومجتمعها. وأثناء محاكمته قال سقراط كلمات خالدة أوردها تلميذه النجيب أفلاطون دافع بها عن نفسه ونقتبس منها بعض الفقرات التالية: «... يمكنني القول إن الموت عطيةٌ، فهو أمر من اثنين، إما أن الميت سيفنى ولن يشعر بأي شيء، أو كما يُقال فإن الموت يعد انتقالاً للروح من مكان لآخر، فلو كان الموت هو موت كل الأحاسيس مثل النوم الذي لا حلم فيه، فسيصبح الموت مكسبًا كبيرًا.. ولكن لو كان الموت انتقال الروح إلى عالم آخر يعيش فيه الأموات كما يُقال، فما هي الهبة الأفضل من ذلك أيها القضاة؟! أيها القضاة لا بد أن تسموا بآمالكم حول طبيعة الموت وأن تتأملوا هذه الحقيقة التي أقولها وهي أنه لا شرّ يقع على الرجل الصالح بمماته أو بمحياه.. إن ما يحدث لي ليس وليد صدفةٍ، فالأمر واضح لي فموتي الآن يمثل تحريرًا من همومي إلى ما هو أفضل.. إنني لا أحمل الضغينة على من أدانوني منكم أو من اتهموني، فهم لم يتهمونني أو يدينونني لضغينة، بل اعتقادًا منهم أن في ذلك إيذاء لي، وهم لهذه النية مُلامون.. لقد حان الوقت الرحيل بالنسبة لي ووقت الحياة بالنسبة لكم، ولكن من منا سيذهب إلى ما هو أفضل يُعد أمرًا مجهولاً لا يعرفه إلا الله».
ثانيًا: عام 1633 نصبت الكنيسة الكاثوليكية المحكمة ضد عالم الفلك الشهير غاليليو غاليلي بتهمة الهرطقة والهجوم على تعاليم الكنيسة. والسبب أن الرجل تجرّأ على تعاليمها وعارض فكرة أن الأرض هي مركز الكون، وأنها تلف حول الشمس ضمن كواكب أخرى، وهو ما يتناقض تمامًا مع الأفكار السائدة في ذلك الوقت والموروثة عن علم الفلك اليوناني الذي أصبح أساسًا عقائديًا ضمن تعاليم الكنيسة، ومن ثم رفضهم الكامل لمثل هذا الفكر. وأمام عقوبة الحرق حيًا أصبح لا مناص أمام الرجل إلا التراجع عن أفكاره بعد تردّد، وهو ما اضطره ليقول خطبته الشهيرة أمام المحكمة، التي تضمنت تراجعه عن فكره فقال: «... رغبة مني في أن أمحو من فكر نيافاتكم وكل المسيحيين المؤمنين أي شك ضدي.. فإنني بقلب وإيمان قويين ألعن وأزدري كل الأخطاء والهرطقة السابقة التي تتناقض مع الكنيسة المقدسة. وأنا إذ أقسم بأنني لن أقول أو أدفع سواءً شفاهةً أو كتابةً بأي شيء قد يؤدي إلى مواقف شك أخرى تجاهي في المستقبل.. أنا غاليليو غاليليي أقسمت ووعدت وأُلزم نفسي بما سبق، وذلك في دير مينرفا في الثاني والعشرين من يونيو (حزيران) 1633»، ويقال إن غاليليو قال باللاتينية أثناء نهوضه بعدما كان جاثيًا على ركبتيه ثلاث كلمات باللاتينية هيEppur، Si Muove أو «ومع ذلك فهي تتحرك» - وكان يقصد بها الأرض، أي أن الأرض تتحرك وليست ثابتة أو محور الكون كما يدّعون.
ثالثًا: في السادس من أبريل (نيسان) 1814 وقف نابوليون بونابرت في قصر فونتينبلو القريب من باريس يودع حرسه الإمبراطوري القديم قبيل مغادرته فرنسا إلى منفاه (الأول) في جزيرة إلبا بالمتوسط قبالة إيطاليا، بعدما هزمه الحلفاء. وقال في خطبة شهيرة، والثبات يتملكه والأسى يعتصره كلمات مهيبة، منها «يا جنود الحرس القديم.. إني أودعكم بعد عشرين سنة شاركتكم فيها دائمًا على طريق الكرامة والعظمة. في هذه الظروف الأخيرة كما في أيام الرفاهية، كنتم رمزًا للشجاعة والثقة. برجال مثلكم، فإن هدفنا لا يمكن أن يضل أبدًا، لكن الحرب كانت ستمتد إلى ما لا نهاية، وكانت ستؤدي إلى حرب أهلية، وهو ما كان سيجلب على فرنسا سوء الطالع. لقد ضحّيت بكل مصالحي لصالح الدولة، وسأترككم اليوم لكنكم ستستمرون في خدمة فرنسا.. لا تحزنوا على مصيري، فلو اخترت البقاء (النفي) فإنه خدمة لعظمتكم. أنا أنوي كتابة تاريخ إنجازاتنا معًا.. الوداع يا أصدقائي.. ولو استطعت ضمكم جميعًا لقلبي لفعلت»، وترك ساحة القصر والدموع تنهمر من أعين جنوده.
خامسًا: بعد انتخاب ونستون تشرشل، رئيسًا لوزراء بريطانيا، وقف في مجلس العموم يوم 13 مايو (أيار) 1940 يلقى خطبة قصيرة للغاية حول «حكومة الوحدة الوطنية» التي شكّلها لإدارة الحرب العالمية الثانية. وقال في تلك الخطبة: «... أقول للمجلس كما قلت للوزراء: ليس لديّ ما أقدمه لكم إلا الدم والتعب والدموع والعرق. نحن أمام مصيبةٍ خطيرةٍ للغاية، وأمامنا أشهر كثيرة من الكفاح والعذاب. تسألونني عن سياستي، فأقول لكم: شنّ الحرب في الأرض والبحر والجو، تسألونني عن هدفنا، فأجيب عليكم بكلمة واحدة (النصر)، النصر بأي ثمن، النصر مهما طال الطريق وصعُب، فمن دون النصر سنفنى جميعًا»، ثم ألقى تشرشل خطبة خطيرة للغاية ألهبت الأمة بعد انسحاب الجيش البريطاني من دانكرك (على الساحل الفرنسي) في 1940 ليشد من أزر الأمة عقب هذه الانتكاسة، فقال: «... سنستمر حتى النهاية، سنحارب في فرنسا، سنحارب في البحار والمحيطات، سنحارب بثقة متزايدة وقوة متصاعدة في الأجواء، وسندافع عن الجزيرة (بريطانيا) مهما كان الثمن، سنحارب على الشواطئ، سنحارب في أراضي الإنزال، سنحارب في الحقول والشوارع، سنحارب في التلال.. لن نستسلم أبدًا حتى لو أُخضع جزءٌ من هذه الجزيرة أو جُعنا وهو ما لا أراه، فإن إمبراطوريتنا عبر البحار التي تحميها البحرية البريطانية ستواصل الكفاح حتى يأذن الله للعالم الجديد بكل قوته وقدرته أن يتقدم لإنقاذ وتحرير العالم القديم».
خامسًا: بعدما أجرى العالم الشهير ألبرت آينشتاين أبحاثه التي أسهمت في تصنيع القنبلة الذرية وقف الرجل نادمًا على ما فعله بغير عمدٍ بمقولةٍ شهيرةٍ، وقال «... إن إطلاق القوة النووية غيّر كل شيء إلا طريقة تفكيرنا.. وحل هذه المشكلة يقع في قلوب الإنسانية. لو أنني فقط كنت أعلم، فإنني كنت سأصبح (ساعاتي) مُصنع ساعات».
سادسًا: قال وليم أوكوم William of Occum، أحد رجال الجماعة الفرانسيسكية، جملة جرّت عليه كل المصائب والمحن والمحاكمة، فرغم بساطتها مثّلت تهديدًا للكنيسة الكاثوليكية وتعاليمها. إذ قال الرجل جملته الشهيرة «التعددية لا يجب افتراضها بلا ضرورة».
Pluralitas non est ponenda sine necessitate. أي أن التبسيط في الافتراضات هو أسهل الطرق للحقيقة، والمعنى المقصود أنه لو تعددت النظريات فإن أبسطها الأفضل. ومع ذلك طاردته الكنيسة لأنها كانت تعتمد النظريات الممتدة والمتعددة والمعقدة حول الديانة المسيحية، وهكذا صارت أبسط المبادئ تهدّد الكنيسة وتجرّ على قائليها أسوأ العواقب.
وهكذا أهلكت الحكمة أصحابها.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».