أهداني أحد الأصدقاء كتابًا ما زلتُ أتأمله كلما تأتيني الفرصة، وهو كتاب قيم للغاية لأنه يحوي خطبًا خالدة سجّلها التاريخ لعظمائه باللغة الإنجليزية. وهي ليست فقط شاهدة على شخصية مُلقيها ومعبرةً عنه، ولكنها أيضًا تمثل شهادتهم على العصر الذي كان يعيشون فيه، ولقد رأيت من المناسب أن أختار بعض هذه الخطب، أو أجزاء منها، لعرضها على القارئ مع خلفية بسيطة عن قائليها ومناسباتها، وفيما يلي بعض الاختيارات أطرحها على القارئ العزيز:
أولاً: في عام 399 قبل الميلاد حاكمت أثينا الفيلسوف العظيم سقراط متهمةً إياه بأنه يُفسد الشباب لأنه يدفعهم للتفكير. وبعد إدانته تجرّع الرجل السم راضيًا، بل عندما سعى تلاميذه لإنقاذه رفض الرجل فرصة الحياة كي لا يشق عصا الطاعة والاحترام للدولة ومؤسساتها ومجتمعها. وأثناء محاكمته قال سقراط كلمات خالدة أوردها تلميذه النجيب أفلاطون دافع بها عن نفسه ونقتبس منها بعض الفقرات التالية: «... يمكنني القول إن الموت عطيةٌ، فهو أمر من اثنين، إما أن الميت سيفنى ولن يشعر بأي شيء، أو كما يُقال فإن الموت يعد انتقالاً للروح من مكان لآخر، فلو كان الموت هو موت كل الأحاسيس مثل النوم الذي لا حلم فيه، فسيصبح الموت مكسبًا كبيرًا.. ولكن لو كان الموت انتقال الروح إلى عالم آخر يعيش فيه الأموات كما يُقال، فما هي الهبة الأفضل من ذلك أيها القضاة؟! أيها القضاة لا بد أن تسموا بآمالكم حول طبيعة الموت وأن تتأملوا هذه الحقيقة التي أقولها وهي أنه لا شرّ يقع على الرجل الصالح بمماته أو بمحياه.. إن ما يحدث لي ليس وليد صدفةٍ، فالأمر واضح لي فموتي الآن يمثل تحريرًا من همومي إلى ما هو أفضل.. إنني لا أحمل الضغينة على من أدانوني منكم أو من اتهموني، فهم لم يتهمونني أو يدينونني لضغينة، بل اعتقادًا منهم أن في ذلك إيذاء لي، وهم لهذه النية مُلامون.. لقد حان الوقت الرحيل بالنسبة لي ووقت الحياة بالنسبة لكم، ولكن من منا سيذهب إلى ما هو أفضل يُعد أمرًا مجهولاً لا يعرفه إلا الله».
ثانيًا: عام 1633 نصبت الكنيسة الكاثوليكية المحكمة ضد عالم الفلك الشهير غاليليو غاليلي بتهمة الهرطقة والهجوم على تعاليم الكنيسة. والسبب أن الرجل تجرّأ على تعاليمها وعارض فكرة أن الأرض هي مركز الكون، وأنها تلف حول الشمس ضمن كواكب أخرى، وهو ما يتناقض تمامًا مع الأفكار السائدة في ذلك الوقت والموروثة عن علم الفلك اليوناني الذي أصبح أساسًا عقائديًا ضمن تعاليم الكنيسة، ومن ثم رفضهم الكامل لمثل هذا الفكر. وأمام عقوبة الحرق حيًا أصبح لا مناص أمام الرجل إلا التراجع عن أفكاره بعد تردّد، وهو ما اضطره ليقول خطبته الشهيرة أمام المحكمة، التي تضمنت تراجعه عن فكره فقال: «... رغبة مني في أن أمحو من فكر نيافاتكم وكل المسيحيين المؤمنين أي شك ضدي.. فإنني بقلب وإيمان قويين ألعن وأزدري كل الأخطاء والهرطقة السابقة التي تتناقض مع الكنيسة المقدسة. وأنا إذ أقسم بأنني لن أقول أو أدفع سواءً شفاهةً أو كتابةً بأي شيء قد يؤدي إلى مواقف شك أخرى تجاهي في المستقبل.. أنا غاليليو غاليليي أقسمت ووعدت وأُلزم نفسي بما سبق، وذلك في دير مينرفا في الثاني والعشرين من يونيو (حزيران) 1633»، ويقال إن غاليليو قال باللاتينية أثناء نهوضه بعدما كان جاثيًا على ركبتيه ثلاث كلمات باللاتينية هيEppur، Si Muove أو «ومع ذلك فهي تتحرك» - وكان يقصد بها الأرض، أي أن الأرض تتحرك وليست ثابتة أو محور الكون كما يدّعون.
ثالثًا: في السادس من أبريل (نيسان) 1814 وقف نابوليون بونابرت في قصر فونتينبلو القريب من باريس يودع حرسه الإمبراطوري القديم قبيل مغادرته فرنسا إلى منفاه (الأول) في جزيرة إلبا بالمتوسط قبالة إيطاليا، بعدما هزمه الحلفاء. وقال في خطبة شهيرة، والثبات يتملكه والأسى يعتصره كلمات مهيبة، منها «يا جنود الحرس القديم.. إني أودعكم بعد عشرين سنة شاركتكم فيها دائمًا على طريق الكرامة والعظمة. في هذه الظروف الأخيرة كما في أيام الرفاهية، كنتم رمزًا للشجاعة والثقة. برجال مثلكم، فإن هدفنا لا يمكن أن يضل أبدًا، لكن الحرب كانت ستمتد إلى ما لا نهاية، وكانت ستؤدي إلى حرب أهلية، وهو ما كان سيجلب على فرنسا سوء الطالع. لقد ضحّيت بكل مصالحي لصالح الدولة، وسأترككم اليوم لكنكم ستستمرون في خدمة فرنسا.. لا تحزنوا على مصيري، فلو اخترت البقاء (النفي) فإنه خدمة لعظمتكم. أنا أنوي كتابة تاريخ إنجازاتنا معًا.. الوداع يا أصدقائي.. ولو استطعت ضمكم جميعًا لقلبي لفعلت»، وترك ساحة القصر والدموع تنهمر من أعين جنوده.
خامسًا: بعد انتخاب ونستون تشرشل، رئيسًا لوزراء بريطانيا، وقف في مجلس العموم يوم 13 مايو (أيار) 1940 يلقى خطبة قصيرة للغاية حول «حكومة الوحدة الوطنية» التي شكّلها لإدارة الحرب العالمية الثانية. وقال في تلك الخطبة: «... أقول للمجلس كما قلت للوزراء: ليس لديّ ما أقدمه لكم إلا الدم والتعب والدموع والعرق. نحن أمام مصيبةٍ خطيرةٍ للغاية، وأمامنا أشهر كثيرة من الكفاح والعذاب. تسألونني عن سياستي، فأقول لكم: شنّ الحرب في الأرض والبحر والجو، تسألونني عن هدفنا، فأجيب عليكم بكلمة واحدة (النصر)، النصر بأي ثمن، النصر مهما طال الطريق وصعُب، فمن دون النصر سنفنى جميعًا»، ثم ألقى تشرشل خطبة خطيرة للغاية ألهبت الأمة بعد انسحاب الجيش البريطاني من دانكرك (على الساحل الفرنسي) في 1940 ليشد من أزر الأمة عقب هذه الانتكاسة، فقال: «... سنستمر حتى النهاية، سنحارب في فرنسا، سنحارب في البحار والمحيطات، سنحارب بثقة متزايدة وقوة متصاعدة في الأجواء، وسندافع عن الجزيرة (بريطانيا) مهما كان الثمن، سنحارب على الشواطئ، سنحارب في أراضي الإنزال، سنحارب في الحقول والشوارع، سنحارب في التلال.. لن نستسلم أبدًا حتى لو أُخضع جزءٌ من هذه الجزيرة أو جُعنا وهو ما لا أراه، فإن إمبراطوريتنا عبر البحار التي تحميها البحرية البريطانية ستواصل الكفاح حتى يأذن الله للعالم الجديد بكل قوته وقدرته أن يتقدم لإنقاذ وتحرير العالم القديم».
خامسًا: بعدما أجرى العالم الشهير ألبرت آينشتاين أبحاثه التي أسهمت في تصنيع القنبلة الذرية وقف الرجل نادمًا على ما فعله بغير عمدٍ بمقولةٍ شهيرةٍ، وقال «... إن إطلاق القوة النووية غيّر كل شيء إلا طريقة تفكيرنا.. وحل هذه المشكلة يقع في قلوب الإنسانية. لو أنني فقط كنت أعلم، فإنني كنت سأصبح (ساعاتي) مُصنع ساعات».
سادسًا: قال وليم أوكوم William of Occum، أحد رجال الجماعة الفرانسيسكية، جملة جرّت عليه كل المصائب والمحن والمحاكمة، فرغم بساطتها مثّلت تهديدًا للكنيسة الكاثوليكية وتعاليمها. إذ قال الرجل جملته الشهيرة «التعددية لا يجب افتراضها بلا ضرورة».
Pluralitas non est ponenda sine necessitate. أي أن التبسيط في الافتراضات هو أسهل الطرق للحقيقة، والمعنى المقصود أنه لو تعددت النظريات فإن أبسطها الأفضل. ومع ذلك طاردته الكنيسة لأنها كانت تعتمد النظريات الممتدة والمتعددة والمعقدة حول الديانة المسيحية، وهكذا صارت أبسط المبادئ تهدّد الكنيسة وتجرّ على قائليها أسوأ العواقب.
وهكذا أهلكت الحكمة أصحابها.
من التاريخ: كلمات لا تنسى
من التاريخ: كلمات لا تنسى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة