بن علي يلدريم.. ظل إردوغان

«الرجل التنفيذي» يأخذ مكان داود أوغلو «المفكّر الاستراتيجي»

بن علي يلدريم.. ظل إردوغان
TT

بن علي يلدريم.. ظل إردوغان

بن علي يلدريم.. ظل إردوغان

بإخلاصه التام لرجل تركيا القوي، رجب طيب إردوغان، استطاع بن علي يلدريم، رئيس الوزراء التركي الجديد، أن يحافظ على موقعه القريب من إردوغان من بين كل مؤسسي حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذين تساقطوا تباعًا على طريق تحوّل تركيا من بلد تحكمه التحالفات الصغيرة، إلى حكم الرجل الواحد والرؤية الموحّدة.
ولقد أثبت يلدريم ولاءه المطلق لإردوغان في أصعب المراحل، فاكتسب ثقته وعزز مكانته. ومن ثم لم يجد الأخير سواه ليقود البلاد في عملية تغيير النظام السياسي، بعدما أخفق في ذلك مستشاره السابق أحمد داود أوغلو، المفكّر الاستراتيجي وصاحب نظرية «العمق الاستراتيجي» لتركيا. والواقع أن يلدريم يختلف عن داود أوغلو بأن الأخير «صاحب نظريات» بينما هو «رجل تنفيذي» ينفذ المشاريع ويقدم الإنجازات. وكان يلدريم واضحًا جدًا، ففور انتخابه، صرح بأن مهمته الأساسية في المرحلة المقبلة هي الإشراف على تعديل الدستور لإنهاء «الغموض» وترسيم تحول البلاد إلى نظام رئاسي، وقال إن الرئيس رجب طيب إردوغان «محبٌ للشعب التركي، ويهتم بمشاكله وهمومه، ولذلك فإنّ أهم ما يجب أن نقوم به اليوم، هو تشريع هذا الواقع الفعلي من خلال صياغة دستور جديد، يكون مرتكزه الأساسي النظام الرئاسي».
يقال إن بن علي يلدريم كان خيار الرئيس رجب طيب إردوغان الأول لخلافته في رئاسة الحزب ورئاسة الوزراء في أغسطس (آب) 2014، إلا أنه في اللحظات الأخيرة اعتمد اسم أحمد داود أوغلو، وكانت هذه المحطة أساسية جدًا في إثبات يلدريم الولاء المطلق لإردوغان. وحقًا، لزم يلدريم مقعده في المؤتمر العام المنعقد لإعلان اسم زعيم الحزب الجديد، عندما نزل إردوغان وداود أوغلو معًا من الطابق العلوي نحو الجماهير. وبعيد الاجتماع، دعا يلدريم إلى مؤتمر صحافي في البرلمان، وكانت التوقعات كبيرة بإعلان موقف حاد من اختيار داود أوغلو، لكنه فاجأ هؤلاء بقوله: «إن الذين يأملون بإعلاني استقالتي وتركي للحزب الذي يشكل أهدافي ومبادئي، سيحزنون عندما يعلمون بأنني أتيت هنا لأؤكد أنني مخلص لدعوتي ومبادئي. أنا لست شخصًا يلهث وراء منصب. وأبارك لأخي داود أوغلو وأتمنى له التوفيق والنجاح في إكمال مسيرة التقدم التي بدأها حزب العدالة والتنمية منذ عام 2002».
وبالنتيجة، كافأ إردوغان يلدريم بإبقائه مقربًا منه ورجلا للمهمات الخاصة، كما أنه منذ لحظة وصوله للقصر الجمهوري في عام 2014 أعلن عن تعيين بن علي يلدريم مستشارًا خاصًا. ويقال إن يلدريم كان رئيسًا لـ«حكومة الظل» - كما أطلقت عليها الصحافة التركية - فهو كان العقلية التي تدير 13 مستشارًا يحكمون سياسة تركيا الداخلية والخارجية.
من ناحية ثانية، ترسم صحيفة «حرييت»، كبرى الصحف التركية، مرحلة بن علي يلدريم بسبعة ملفات مستعجلة وضعت على طاولة رئيس الوزراء الجديد. وتشير إلى أن «هذه الملفات هي التي كان إردوغان وداود أوغلو يختلفان على أسلوب معالجتها، وأدى الاختلاف في وجهات النظر بين الطرفين إلى تنحي داود أوغلو عن رئاسة الحزب والحكومة». وتتابع قولها إن «طريقة معالجة هذه الملفات هي التي ستحدد مستقبل بن علي يلدريم، وما إذا كان سيستمر في رئاسة الوزراء أم سيكون مصيره كمصير داود أوغلو».
وتحدد الصحيفة الملفات السبعة التي تنتظره بدءًا بموضوع الحرب على الإرهاب، حيث من المتوقع أن يشهد هذا الملف تغيرات جذرية، ولكن سيستمر أسلوب تفريغ الأماكن السكنية من المدنيين، ومن ثم الاستمرار بالتركيز باستخدام جميع الوسائل القتالية ضد تنظيم الـ«بي كيه كيه» (حزب العمال الكردستاني المحظور). ومن المعروف أن يلدريم يتمتع بعلاقات جيدة جدًا مع المسؤولين الكبار في الجيش والأركان. ولكن ينتظر من يلدريم أن يستطيع إقناع إردوغان بالعودة إلى إنهاض ملف الحل السلمي الذي بدأ قبل سنوات لكنه توقف بعد انتخابات يونيو (حزيران) العام الماضي. الملف الثاني، حسب «حرييت»، هو الملف الاقتصادي، «فبعد أن عين يلدريم طاقمًا لإدارة الاقتصاد واختار أن يكون الملف الاقتصادي تحت إدارته مباشرة فإن الأوساط المالية في تركيا تتفاءل خيرا حيث من المتوقع أن يبدأ يلدريم خطوات لإنعاش الاقتصاد». أما الملف الثالث فهو «الدستور الجديد والنظام الرئاسي، ذلك أن يلدريم يريد أن يعمل بالتنسيق التام مع القصر الجمهوري أثناء إعداد الدستور الجديد لتحويل النظام من برلماني إلى نظام رئاسي خاص بتركيا». وأما الملف الرابع فهو «تعيين حكام المدن ومديري الأمن، وكانت هذه من أكبر المعضلات التي كانت بين داود أوغلو وإردوغان، فقبل شهرين جرى تعيين وتغيير مراكز الكثير من الحكام والمديرين من دون الرجوع إلى القصر الجمهوري فرفض الرئيس توقيع قرارات التعيين ولهذا لم تنفذ القرارات. ولكن بعد تسلم يلدريم منصبه عقد وزير الداخلية افكان آلا عدة اجتماعات مع إردوغان ووضعا آخر التعديلات على القائمة التي بوشر بتنفيذها بالفعل». ثم تشير الصحيفة إلى الملف الخامس وهو «الانفتاح على ملف العلويين (أي الأقليات المسلمة من غير أهل السنة وأبرزهم البكتاشيون). ومن المعروف أن ملف العلويين موضوع منذ 6 سنوات على جدول أعمال حكومات حزب العدالة والتنمية، وعقدت الكثير من الجلسات مع ممثلي الجمعيات والكتل العلوية إلا أنه تعذّر تخطي مطالب العلويين ومن أهمها أن تمثل الطائفة العلوية في دائرة الشؤون الدينية وأن تعطى بيوت (الجمع)، أي أماكن عبادة علويي تركيا، صفة أماكن عبادة رسمية مثل المساجد. ومن المعروف أن يلدريم له علاقات طيبة مع التجمّعات العلوية ولذا يتوقع أن يبدأ خطوات إيجابية لتحريك الملف». ثم هناك الملف السادس وهو «العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، فبعد الانتقادات اللاذعة للاتحاد من قبل إردوغان باتت العلاقة بين الطرفين في وضع سيئ للغاية. أما الملف السابع - حسب «حرييت» - فهو العلاقات الخارجية. وتقول الصحيفة إن بن علي يلدريم سيترك هذا الملف تماما تحت تصرف الرئيس إردوغان
من جهة أخرى، يقول الكاتب التركي علي بيرم أوغلو إن إردوغان «تعرّض لنقد كثير حيال محاولاته في الاستمرار بإدارة حزبه السابق»، مشيرًا إلى أن إردوغان بصفته رئيس جمهورية يحمل سلطة تغيير الرئيس العام لحزبه وهذا يدل على حالة غير عادية. ويتابع بيرم أوغلو: «رغم مخالفة ما يحدث للدستور فإن إردوغان، الذي له الصفة المحددة في الحزب السياسي، أطلق البوادر الأولى لبداية «مرحلة رئيس الجمهورية بالحزب». ويرى أن «إردوغان أثبت للجميع أنه قائد حزب العدالة أي صاحب الأغلبية في السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في الوقت نفسه، وهذا يعني أن أبواب النظام الرئاسي القوي والفعلي قد انفتحت». واستخلص أن هذه المرحلة «أثبتت شخصية إردوغان القوية وسلطته النفوذية مرة أخرى».
وهنا يوضح بيرم أوغلو أن إردوغان كان قد بدأ بمناقشة نماذج «تقاسم السلطة» و«السلطة المزدوجة» من لحظة بداية إبداء نيته بتولّي مركز رئيس الجمهورية. وفي نطاق هذه النقاشات أولاً ناقشوا اسم عبد الله غُل الذي كان المرشح الأول ليحل محل إردوغان لكن الأخير لم يوافق على ذلك. ومع أن المبرّر لم يصرح به بشكل واضح، دارت التخمينات حول مواضيع «عدم تقاسم الاقتدار» و«صاحب الاقتدار هو إردوغان فقط».

سيرة يلدريم الشخصية
ولد بن علي يلدريم في قرية قايي التابعة لمنطقة رفاهية بولاية أرزينجان بشمال شرقي تركيا، في 20 ديسمبر (كانون الأول) عام 1955، والده دورسون، ووالدته باهار، ولديه 6 إخوة. ولقد فقد يلدريم والدته عندما كان في السادسة عشر من العمر وهو حدث كان له تأثير كبير في مجرى حياته.
انتقل يلدريم إلى مدينة إسطنبول وأقام في الحي نفسه الذي كان يعيش فيه إردوغان، أي حي قاسم باشا، وفيه أنهى المرحلة الإعدادية في مدرسة بيري ريس عام 1970. ثم أتمّ المرحلة الثانوية في ثانوية قاسم باشا عام 1973. وبعد عامين أي عام 1975 تزوج من المدرّسة سميحة، ورزقا بـ3 أولاد (بولنت وأرقم وبشرى)، وأدّى الخدمة العسكرية عامي 1980 - 1981.
كان يلدريم يرغب في دراسة الهندسة الميكانيكية، غير أن امتلاء المقاعد في كلية الهندسة بجامعة إسطنبول التقنية جعله يقدم على التسجيل بكلية العلوم البحرية وبناء السفن في الجامعة نفسها بناءً على نصيحة أحد المدرسين. وبالفعل، درس يلدريم العمارة البحرية وهندسة المحيطات في جامعة إسطنبول التقنية، وحصل عام 1991 على درجة الدكتوراه التخصصية من المنظمة البحرية الدولية التابعة للأمم المتحدة. وبعد تخرجه، عمل مديرًا عامًا لشركة إسطنبول للعبّارات السريعة من 1994 حتى 2000 عندما كان إردوغان رئيسًا لبلدية إسطنبول.
أصبح يلدريم نائبا في البرلمان عن حزب العدالة والتنمية ممثلاً إحدى دوائر إسطنبول، ثم انتخب نائبا عن مسقط رأسه أرزينجان في الدورة 23. ثم انتخب نائبا عن مدينة أزمير في دورتين (24 و26). ولقد اختار حزب العدالة والتنمية يلدريم للترشح عن أزمير، التي كانت متأخرة في مجال البنى التحتية والمواصلات. وفعلاً تغير وجه المدينة بمشاريع اقترحها يلدريم، مثل القطار السريع وتطوير البنية التحتية والإنترنت وخدمات الخطوط الجوية التركية والطرق السريعة. واستطاعت هذه المشاريع الصناعية والصحية والتعليمية التي أنجزتها أن تفتح مدينة أزمير - إحدى مدن تركيا الثلاث الكبرى مع إسطنبول وأنقره - لحزب العدالة والتنمية، بعدما كانت عصية عليه في الفترات السابقة، ولم يكن يتوقع أحد أن يفوز فيها بالانتخابات. مع هذا، ترشح يلدريم لمنصب رئاسة بلدية أزمير عام 2014. لكنه حل في المرتبة الثانية بنسبة أصوات 36 في المائة.

«الرجل التنفيذي»
خلال تولي رئيس الوزراء الجديد حقيبة وزارة النقل أدخل القطار الفائق السرعة أنقرة - أسكيشهير، وأنقرة – قونية، وخطا آخر تحت الإنشاء يربط أسكيشهير وإسطنبول، وبين إسطنبول وأنقرة. ومع أن المشروع تعرض لنكسة قوية بعد خروج قطار عن مساره في 22 يوليو (تموز) 2004 في إحدى رحلاته، وظهرت مطالبات كثيرة له بالاستقالة، فإن إردوغان جدد ثقته به وأعاد تعيينه في المنصب نفسه الذي خرج منه بعد فشله في انتخابات أزمير عام 2013 ليعود إليها بعد عودته إلى البرلمان.
وافتتح يلدريم إبان توليه الوزارة خط النقل البحري إسطنبول - يالوفا، وإسطنبول - باليك، وشجع النقل البحري الداخلي بتوفير 22 حافلة بحرية وجهز 22 ميناء و4 سفن بين جانبي إسطنبول الآسيوي والأوروبي. وكذلك أنجز في فترة توليه منصب وزارة النقل والملاحة البحرية كثيرا من المشاريع الاستثمارية التي تقدر قيمتها بنحو 85 مليار دولار أميركي، وكان الإنجاز الأكبر له هو المخاطرة ودخول تحدٍ في استكمال «مشروع العصر» أي مترو مرمراي الذي يصل القارتين الآسيوية والأوروبية تحت الماء، إضافة إلى نفق أوراسيا للسيارات وجسر السلطان سليم الأول وجسر خليج إزميت الواصل بين إسطنبول وأزمير. والحقيقة أنه أنجز في فترته الوزارية 24 ألفا و280 كلم من الطرق الرابطة بين المحافظات التركية، ونفذ مشاريع القطار السريع، وخط قطار أنفاق مرمراي، وإتمام مشروع الطريق الساحلي على البحر الأسود. وفي عهده ارتفع عدد المطارات في تركيا من 26 إلى 55 مطارا، وعدد الركاب من 34.4 مليون إلى 182 مليون راكب. وأعلن يلدريم تشييد أكبر مطارات العالم في إسطنبول، وافتتاح أولى مراحله في 2008.

مواقف أثارت جدلاً
أخيرًا، تسببت صورة ظهرت فيها زوجة يلدريم المحجبة منفصلة عنه أثناء غداء عمل بإثارة ضجة في تركيا في 2005. ووُجهت إليه يومذاك الكثير من الانتقادات والاتهامات بالتمييز الجنسي من قبل المعارضة العلمانية التركية. وبالأخص بعدما قال في مناسبة أخرى إنه لم يلتحق بجامعة بوغازيچي (التي أسسها الأميركيون خلال القرن الـ19 تحت اسم كلية روبرت) في شبابه لأنه «رأى الفتيان والفتيات يجلسون ويتحدثون معًا في ساحة الجامعة»، وقوله: إنه وجد أن الاختلاط بين الجنسين غير مقبول.
أيضا كان يلدريم مصدرًا لخلافات كثيرة عندما تولى وزارة الاتصالات، ومنها ما جاء في معرض رده على الانتقادات حول الرقابة الحكومية على خطوط الهاتف، حيث قال: «إذا كنت لا تفعل أي شيء غير قانوني، فلا تقلق من التنصّت».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.