في زيارة قامت بها الملكة إليزابيث الثانية لفرنسا في عام 2004، ألقت خطابا شهيرا رددت فيه جملة «لونتونت كورديال» «L’entente Cordiale»، ومعناها بالفرنسي «الوفاق الودي»، لا تزال الصحف والمجلات تشير إليها كلما جاء ذكر أي علاقة فرنسية بريطانية. هذا الوفاق الودي بين فرنسا وبريطانيا أخذ بعدا أنيقا وفنيا يوم الثلاثاء الماضي تمثل في اختيار دار «ديور» الفرنسية لندن لافتتاح أكبر محل لها في العالم بـ«بوند ستريت»، وقصر «بلانهايم» أوكسفورد، مسقط رأس وينستون تشرشل، لعرض تشكيلتها من خط «الكروز» لعام 2017.
كان بإمكانها أن تختار أي وجهة بعيدة تخطر على بالها، لكنها فضلت جارتها القريبة، لتذكرنا ليس بخطاب الملكة إليزابيث الثانية، أو بـ«الوفاق الودي» الذي ربط بين فرنسا وإنجلترا منذ عام 1904 فحسب، بل أيضا بالعلاقة الطيبة التي جمعت الراحل كريستيان ديور بعلية المجتمع البريطاني. فدوقة مالبورا، سيدة قصر «بلانهايم» كانت من أهم زبوناته، كذلك الأميرة الراحلة مارغريت وغيرهما. وهذا يعني أنها ليست المرة الأولى التي يفتح فيها القصر أبوابه لـ«ديور»، فقد سبق للمؤسس أن قدم فيه عرضا كبيرا في عام 1954، بدعوة من دوقة مالبورا طبعا. وفي عام 1958، وبعد عام واحد من وفاته، عاد إليه خليفته إيف سان لوران، وقدم تشكيلة لا تقل جمالا وأناقة.
يوم الثلاثاء الماضي، لم يؤثر عدم توقف الأمطار على المزاج العام. فالمنظمون كانوا مصرين أن تكون التجربة، أو بالأحرى الرحلة، ممتعة بغض النظر عن كل المفاجآت التي لم يحسبوا لها حسابا، والحضور كانوا تواقين للمطر، على أساس أنه جزء من التجربة البريطانية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن خط الـ«كروز» قائم أساسا على مفهوم الرحلات، والفرق بينه في الماضي والحاضر، أنه لم يعد يقتصر على فساتين طويلة منسدلة أو ملابس البحر الخاصة بالمنتجعات الصيفية واليخوت، وأصبح يشمل قطعا منفصلة متنوعة، بما فيها معاطف صوفية وكنزات من الكشمير، حتى تناسب كل الوجهات وأحوال الطقس. مهمة بيوت الأزياء حاليا تتركز على تلبية طلبات امرأة يمكن أن تنتقل من وجهة إلى أخرى في يومين أو أسبوع، وبالتالي تحتاج إلى هذا التنوع الأنيق. بيوت الأزياء تقول: «شبيك لبيك» بكل إمكاناتها، لكن الأهم في هذا الخط هو التركيز على التجربة نفسها، بالتوجه إلى أماكن بعيدة وبعروض مبهرة.
فالرحلة التي نظمتها الدار الفرنسية، مثلا، امتدت من استضافة مئات الشخصيات من كل أنحاء العالم على حسابها الخاص، إلى حجز قطار الشرق السريع، ليأخذهم من محطة فيكتوريا إلى محطة شارلبوري بأكسفوردشاير. قرية هادئة استفاقت يوم الثلاثاء على حركة غير معهودة، وزحمة سير تسبب فيها أسطول من سيارات المرسيدس، مكون من نحو 300 سيارة، الأمر استدعى استنفار رجال الشرطة لتقنين حركة السير. وربما يكون قطار الشرق هذا أقل ما يمكن أن تقوم به «ديور» لدخول المنافسة مع بيوت أزياء كبيرة، أصبحت تتنافس على تقديم تجارب خاصة مفصلة على مقاس إمكاناتها.
دار «لويس فويتون» التي اختارت ريو دي جانيرو، مثلا، دللت ضيوفها برحلات استكشافية على متن هليكوبترات، و«شانيل» التي توجهت إلى هافانا الكوبية، وضعت تحت تصرفهم سيارات «فينتاج» تأخذهم بين شوارعها الخلفية لتذوق طعمها قبل أن تتغير أوضاعها وتنفتح على العالم. كل هذا قد يعطي الانطباع أن الهدف من هذه الرحلات والعروض الضخمة والسخية، هو جذب الأنظار إلى هذه البيوت، وخلق هالة من البريق حولها لبيع منتجاتها، لكن الحقيقة هي أن اختيار هذه الوجهات لا يأتي اعتباطا، بل هو استراتيجية مدروسة، واستثمار بعيد المدى في أي سوق يتوسمون منه خيرا. فإذا كانت «شانيل» تستبق انفتاح كوبا القريب على العالم، و«لويس فويتون» تغازل الإمكانات العالية التي تتمتع بها الطبقات الثرية في البرازيل، فإن لندن بالنسبة لكل من «ديور» و«غوتشي»، التي ستقدم عرضها اليوم في «ويستمنستر أبي»، من الأسواق المهمة في مجال صناعة الترف عموما والموضة خصوصا. لهذا ليس غريبا أن تطبق «ديور» أول من أمس «الوفاق الودي» التاريخي، بتقديمها أسلوبا فرنسيا بنكهة إنجليزية نخبوية. نكهة تستحضر رحلات الصيد وحفلات القصور بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، وانتعاش الحالة الاقتصادية التي عمقت الرغبة في الاستمتاع بالحياة، وبكل ما هو أنثوي ورومانسي. الطريف أن حتى الطقس الإنجليزي المتقلب، ساهم في هذه الاحتفالية ولعب دوره في تركيز هذه النكهة. المشكلة أنه حرم البعض ممن لم يزوروا المكان من قبل، متعة الاستمتاع بجمال حديقة قصر بلانهايم، وعظمة معماره حين تنعكس على واجهاته الباروكية أشعة الشمس. كما ضيع جهود الفرقة الملكية الموسيقية التي كان مفترضا أن تستقبل الضيوف على مدخل القصر، لكنها اضطرت للاختباء في جهة جانبية بعيدة لم يكن أحد سيشعر بوجودها لولا الموسيقى. لحسن الحظ أن كل هذا تم تعويضه بمجرد الدخول إلى القصر، حيث يستقبلك معرض صغير استعرضت فيه الدار تصاميم منتقاة من التشكيلة التي قدمها السيد كريستيان ديور في عام 1954، أغلبها عبارة عن فساتين كانت من نصيب كل من دوقة مالبورو آنذاك وصديقتها الأميرة مارغريت، وغيرهما من نساء الطبقات الأرستقراطية اللواتي وقعن في حب أسلوبه الباريسي الأنثوي. كريستيان ديور بدوره وقع في حب تقاليد إنجلترا وبروتوكولها، إلى حد أنه عبر في سيرته الذاتية عن رغبته في أن يكون له بيت فيها. لم يسعفه الحظ وفاجأه الموت قبل أن يحقق رغبته، لكن الدار تحاول تحقيقها له، من خلال التوسع في لندن وافتتاح عدة محلات فيها. وطبعا هذا العرض الذي جاء بمثابة تحية له واحتراما لذكراه.
مصمما الدار المؤقتان، سيرج روفيو ولوسي ماير، قرآ سيرة المؤسس الذاتية بانتباه شديد، واجتهدا في تقديم تشكيلة تحترم فنيته ورؤيته للأنوثة. استغلا كل الإمكانات الموضوعة تحت إمرتهما، بدءا من ورشات الدار التي تعمل فيها أنامل ناعمة متمرسة لعدة عقود في التطريز وغيره، إلى أقسام أخرى تكملها، مثل قسم الإكسسوارات، الذي قدم مجموعة من العقود التي تلتف حول العنق أو أقراط الأذن المبتكرة، إلى مجموعة حقائب يسيل لها اللعاب، وأحذية تفتح الشهية، فضلا عن إيشاربات نحيفة يمكن تنسيقها بأشكال مختلفة. فقد التفت مثلا، حول الرقبة حينا، وفي حين آخر أخذت مكان أزرار جاكيت، أو تدلت وكأنها ربطة عنق لم يسنح لصاحبتها المجال لعقدها. أما الأزياء، فجمعت الأسلوب الفرنسي من حيث خطوطها والإيحاءات الإنجليزية العريقة من حيث ألوان وأقمشة، مثل التويد، ونقشات فرسان وحيوانات تجسد روح المغامرة التي تثيرها رحلات الصيد التقليدية، بينما تستحضر أقمشة البوبلين والجاكار والمخمل «الديفوريه» ملابس الطبقات المخملية.
ما يحسب للمصممين أيضا أنهما لم يقدما ترجمة حرفية، فقد أخذت الفساتين، مثلا، شكلا عصريا يعانق الخصر ثم ينسدل عنه ببساطة بعيدة عن الفخامة والاستدارة التي ميزت تصاميم السيد ديور في الخمسينات، فضلا عن لعبهما على استعمال أقمشة متعددة بألوان مختلفة في القطعة الواحدة، الأمر الذي خلق ما يشبه اللوحات الفنية المطرزة بالترتر والأحجار. فمثلا نرى فستانا مطرزا بالأسود أو الأخضر الزيتي عند الصدر، تظهر عند خصره قطعة عريضة مطوية باللون الأبيض المنقوش بأزهار بالأزرق، فيما تنسدل من تحته تنورة مستقيمة بلون ونقشات مختلفين تماما. لكن هذا لا يعني أن الخصر المحدد، الذي يميز أسلوب «ديور» غاب تماما، فكل ما في الأمر أنه تم التخفيف من صرامته، كما أن التفصيل الذي ظهر في جاكيتات «البار» الشهيرة، ظهر هنا في معاطف مفصلة تستقي خطوطها من خزانة الرجل بترجمة ناعمة تبتعد عن الخصر ببعض سنتيمترات، وكأنها تريده أن يتنفس بحرية.
الحكم على العرض ككل، أنه جاء سخيا بالاقتراحات الأنيقة والعملية في الوقت ذاته. اقتراحات لا شك أنها ستحقق نجاحا تجاريا، حتى وإن لم تنجح في أن توقظ بداخلنا الحلم. لكن هذا ليس مهما، فالأهم هنا هي التجربة ككل. فهي التي يجب أن توقظ الحلم وتُشعر الضيوف بالانتماء والولاء.
«ديور» تختار مسقط رأس وينستون تشرشل لإقامة عرضها لـ«كروز» 2017
«الوفاق الودي» الفرنسي ـ البريطاني يتعزز بالموضة والأناقة
«ديور» تختار مسقط رأس وينستون تشرشل لإقامة عرضها لـ«كروز» 2017
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة