في حفل خاص أقيم في لندن، الخميس الماضي، مُنحت جائزة «جورج أورويل» في الكتابة السياسية لعام 2016 للصحافي البريطاني من أصل روسي «أركادي أستروفسكي»، عن كتابه الصادر حديثًا تحت عنوان «اختراع روسيا»، الذي يروي فيه من وجهة نظر غربيةٍ محضة قصة تحول روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي من دولة «بيروسترويكا» ميخائيل غورباتشوف، التي كان يراد لها أن تكون جزءا لا يتجزأ من الغرب والسوق الحر، إلى دولة فلاديمير بوتين «الإمبراطورية البديلة»، التي تَجرؤ على مواجهة الغرب في أكثر من جبهة، بدءا من حدود جورجيا عبر سهول أوكرانيا، حتى جبال سوريا.
«أستروفسكي» تسلم الجائزة، التي تمنح سنويًا منذ عام 1994، من ريتشارد بلير، ابن إريك آرثر بلير المعروف في عالم الأدب والكتابة السياسية بالاسم الأدبي المستعار «جورج أورويل»، وهو من أهم الصحافيين والروائيين في بريطانيا في النصف الأول من القرن العشرين، وقد اشتهر عالميًا بأعمال عدت مدارس في الأدب السياسي، منها «مزرعة الحيوانات» التي كانت نقدًا شديدا للدولة السوفياتية في عهد ستالين والحرب الباردة، وأيضًا «١٩٨٤» الرواية النبوءة عن تكريس دولة المراقبة، والسيطرة على حياة المواطنين في الدولة الحديثة. وبلير الابن، اليوم، هو أحد القائمين على الجهة المنظمة للجائزة.
وتمنح الجائزة في مايو (أيار) من كل عام لكتاب صدر حديثًا يقرر المحكمون أنه الأقرب إلى حلم جورج أورويل «بتحويل الكتابة في السياسة إلى فن». وقيمتها المالية رمزية (ثلاثة آلاف جنيه إسترليني)، لكنها تعد من أهم الجوائز في بريطانيا والغرب، من حيث قيمتها الأدبية المعنوية فيما يتعلق بالكتابة السياسية الموجهة لغير المتخصصين، وغالبًا ما تُقدم للحاصلين عليها تنويهًا يزيد من انتشار الكتاب ومبيعاته على نحو متسارع.
«أستروفسكي»، كشخص بالطبع، يمثل جسرًا هامًا لفهم الشؤون الروسية للناطقين بالإنجليزية، فقد ولد في روسيا، لكنه يحمل الجنسية البريطانية، وكان لخمسة عشر عامًا مراسلاً لصحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية من موسكو، قبل انتقاله للعمل مديرًا لمكتب موسكو لمجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية أيضًا. وتابع في مهنته الصحافية عن كثب التحولات الصاخبة التي عاشتها روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي، وكتب «من موقع الحدث» عشرات التقارير الهامة التي تابعها في بالغ الاهتمام كل المعنيين بالشأن الروسي على جانبي الأطلسي. وقد منحه الإتقان التام للغتين الإنجليزية والروسية القدرة على لعب دور الجسر (الغرب - روسيا) باقتدار، وهو الحاصل على شهادات عليا في تاريخ المسرح الروسي، ودكتوراه في الأدب الإنجليزي من جامعة كامبردج العريقة، وقد ترجم ثلاثية توم ستوبارد «على ضفاف اليوتوبيا» إلى الروسية.
والجائزة كانت قد أعلنت عن قائمة ترشيح مبدئية، في مارس (آذار) الماضي، شملت ثلاثة عشر عنوانًا، منها كتاب «العبور» للسورية سمر يزبك، الذي تروي فيه عودتها إلى سوريا عبر الحدود التركية، بعد منفى اختياري بسبب معارضتها للنظام، لكنه استبعد في الجولة النهائية التي أعلن عن قائمتها، في أبريل (نيسان) الماضي، وضمت خمسة أعمال مميزة فقط، إلى جانب العمل الفائز، وهي: «الانهيار» لإيما سكاي، الذي يسجل رواية المؤلفة لتجربتها في العراق، كمستشارة سياسية مدنيّة للجنرال الأميركي ريموند أديرينو، في ٢٠٠٧. وكتاب «حصار الميدان» لونديل ستيفنسون، الذي تتابع فيه عن قرب أحداث الثورة المصرية في ساحتها الرمز (ميدان التحرير)، منذ سقوط مبارك إلى سقوط مرسي. وكتاب «التهديد المستجد للجماعات الإسلامية المسلحة» للصحافي المعروف جاسون بروك (مراسل الغارديان من أفريقيا»، الذي يقدم أوضح وأشمل دليل لفهم ظاهرة الإسلام السياسي وتنويعاتها في الشرق الأوسط وأفريقيا. وكتاب «دموع المهراجا» لفيريديناند ماونت، الذي يحكي قصة التجربة الاستعمارية البريطانية في الهند، من خلال رواية سيرة حياة جدّة المؤلف مع أسرتها الاسكتلندية. وأخيرًا «نقود الآخرين» لجون كاي، وهو تحليل اقتصادي لأزمة الأسواق المالية الأخيرة.
وقد وصف اللورد ويليم وولدجريف كتاب «اختراع روسيا»، خلال حفل منح الجائزة، بأنه «أورويلي بامتياز»، «يشبه كثيرًا عمل جورج أورويل في (مزرعة الحيوانات) و(١٩٨٤)، من حيث مركزية اللغة في السياسة، وكيف أن من يتحكم باللغة، يمتلك السردية»، وبالتالي «رغم تعدد الأصوات الليبرالية (الحرة) في روسيا المعاصرة، فإن من يسيطر على الفضاء الإعلامي وقنوات التواصل الاجتماعي هو من يتحكم بصوت روسيا اليوم». ووصف وولدجريف طريقة الكتابة بأنها «من أكثر ما قرأه شخصيًا من النصوص التي يمكن وصفها بأنها حوّلت الكتابة السياسية إلى فن، وفق رؤية السيد أورويل». وذكر بيان هيئة تحكيم الجائزة عن أن رواية أورويل «1984» كانت ضمن أعلى عشر روايات، من حيث أرقام المبيعات في روسيا، العام الماضي. وقد ضمت هيئة المحكمين للجائزة، التي تتغير سنويًا، هذا العام إلى جانب اللورد ويليم وولدجريف كلا من أندرو جامبل، الأستاذ الأكاديمي من جامعة كامبرج، وديفيد جودهارت، رئيس تحرير مجلة «بروسبكت» السياسية الرصينة، وفياميتا روكو، رئيسة قسم الكتب في مجلة «ذي إيكونومست» الواسعة الانتشار.
«اختراع روسيا»، الذي نشرته دار «أتلانتك» في لندن، يرسم أوسع تحليل في العالم الغربي لدور مؤسسة الإعلام الروسي المعاصر في تشكيل هوية وصورة روسيا ما بعد المرحلة السوفياتية، سواء كيف يرى الروس أنفسهم في العالم، وكيف يراد أن يتمّ تقديم روسيا للعالم. وهو ينطلق من نظرية - غربية الجذور والهوى - من أن مسارات الأحداث في هذه الدولة العظمى خيبت آمال المراقبين الغربيين الذين كانوا يتوقعون من صديقهم السيد غورباتشوف أن ينهي الحرب الباردة، ويعيد تكوين روسيا كدولةٍ تنتمي إلى الغرب، وتتبنى قيمه «الديمقراطية»، وتساهم في نشر «السلام» العالمي، وفلسفة «السوق الحر»، لكنهم انتهوا إلى دولة منافسة للغرب، تحكمها نخبة صغيرة ذات نزعات شوفينية إمبريالية، انخرطت في معارك عسكرية - مباشرة وغير مباشرة - ليس فقط على حدودها جنوبًا وغربًا، بل عبر البحار إلى شرق المتوسط. والأبطال الحقيقيون الذين يفسرون أسرار هذا المسار المخيب لآمال الغرب، هم وفق أستروفسكي، ليسوا القادة والزعماء، بل منظومة الإعلام الروسي، وهي تلك المجموعة من الأثرياء والمتنفذين في الاتحاد المندثر الذين قبضوا - مستفيدين من حالة الفوضى الصاخبة التي ضربت أطنابها فترة سقوط الاتحاد - على زمام قنوات التلفزة والصحف والإعلام عمومًا، كما عملوا يدًا بيد مع مجموعة التوجيه الآيديولوجي و«المشعوذين» في الكرملين، حسب تعبيره، لتخليق صورة جديدة للأمة الروسية التي أنهكتها الدولة الستالينية لسبعين عامًا تقريبًا. ويكشف أستروفسكي في كتابه عن الصراعات والتوازنات والطموحات التي تحكم هذه النخبة الروسية المعاصرة التي تجعل هذا البلد يعيش في ظل منظومة بروباغندا عصرية، و«على حد السكين».
ورغم أن (اختراع روسيا) كتاب ملوّنٌ بانحيازات غربية واضحة، فإنه دون شك مرجع شديد الأهمية لكل من يريد أن يفهم كيف يصنع المزاج السياسي في روسيا المعاصرة، كما لا شك أن ترجمته إلى العربية ستكون إضافة هامة لجمهور ما زالت روسيا بالنسبة له بلدًا يستعصي فهم سياساته، أو دوافعه.
يذكر أن جائزة أورويل قد منحت في سنوات سابقة لكتاب وصحافيين معروفين في الأجواء السياسية البريطانية، من أمثال الآن جونسون، ورجا شحادةن، وأندريا جيليز، وهي تشترط أن تكون الأعمال مرتبطة بشكل ما ببريطانيا وآيرلندا، ولا شك أن تبدو خياراتها دائمًا معبّرة عن وجهة المؤسسة الثقافية البريطانية، ورؤيتها للعالم.
«اختراع روسيا» يفوز بجائزة أورويل لعام 2016
من دولة ميخائيل غورباتشوف إلى دولة فلاديمير بوتين
«اختراع روسيا» يفوز بجائزة أورويل لعام 2016
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة