حسين الواد يشم مجددًا روائح مدينته

جزء ثانٍ من الرواية التونسية الفائزة بجائزة الكومار الذهبي

تونس العاصمة.. وفي الإطار غلاف الرواية
تونس العاصمة.. وفي الإطار غلاف الرواية
TT

حسين الواد يشم مجددًا روائح مدينته

تونس العاصمة.. وفي الإطار غلاف الرواية
تونس العاصمة.. وفي الإطار غلاف الرواية

أصدرت دار الجنوب في تونس في سلسلة العيون المعاصرة، تحت إشراف الكاتب والناقد توفيق بكار، الجزء الثاني من رواية «روائح المدينة» للكاتب التونسي حسين الواد (التي فازت بجائزة الكومار الذهبي عن جزئها الأول). هذا الجزء لم يكن تكملة بقدر ما جاء معالجة للتحولات التي طرأت على المدينة التونسية في عهد ما وصفه الكاتب بـ«دولة التغيير الكاذب».
وما هو أصيل ومبتكر في أعمال الواد (سعادته سيد الوزير، وروائح المدينة 1) هو هذا الأسلوب المميز في السرد الهادئ، والمفردات المنتقاة مع مرادفاتها، والتجوال في روائح المدينة المختلفة من الفل والياسمين إلى النفايات والمزابل، والأطعمة والتوابل، وتحولاتها عبر الزمن. لقد ارتقى الواد في هذه الرواية إلى مصاف الفن الروائي الرفيع في المشهد الأدبي التونسي، بل والعربي. في هذا الجزء يتقصد الكاتب أن يشم روائح مدينته من المقاهي التي انتشرت، والتي باتت مراكز لأحاديث، واتصالات، ومخابرات.. (مقهى البرطال، والنخلة، والعنبة، والأقواس، والمحباك، والمستقبل). لمقاهي «مدينتنا» الدور الرئيس في «جمع الأخبار بكل أصنافها، ولروادها القدرة الفائقة على تلقّفها وتكييفها».. تحولات عدة دخلت على المدينة التونسية أفقدتها روائحها القديمة، بقيمها المكتسبة، وزجتها في أطوار من التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية المغايرة لكل معاييرها. يتابع حسين الواد رصد مدينته مع كل مرحلة من تحولاتها. «الروائح الجديدة نتنة، تنتشر في أنحاء المدينة فتزكم الأنوف، وتنفر النفوس.. فخيّمت على المدينة رائحة حادة ما كاد الناس يشمونها حتى كره كل نفسه، وتمنى لو لم يكن من أبناء هذا الزمان».
المؤلف يعبر عبر شخصية «المؤرخ الحزين» عن كل ما يجول في صدره من ألم المدينة من روائحها الجديدة، وعلى رأسها رائحة الفساد المستشري، فهذا المؤرخ الذي يرصد تاريخ المدينة، وتحولاتها يروي فصول الحكاية ويستشهد به الراوي في كل حين (يستشهد الكاتب بعائلة صالح قاسم كناية عن عائلة متنفذة تفلت من المراقبة والحساب لقربها من السلطة) التي عاثت في المدينة فسادا، ولا يرد طغيانها أي سلطة حتى سلطة الدولة؛ ما يضع الدولة بأكملها في حالة من انعدام الوزن جراء استشراء الرشى والاستئثار بالثروة، وروائح الوشايات، والاعتداء على الناس، والأعراض واستغلال السلطة لأغراض شخصية، وطرح شعارات جوفاء للاستهلاك لا تحقق أبدا؛ فتهلك المدينة وتنغمس في روائحها العفنة.
يبدأ الكاتب روايته مع نهايات القرن التاسع عشر «حكم البايات» الذين لم تكن مهمتهم في الحكم سوى «تحصيل الجبايات»، ثم ينتقل الكاتب إلى حكومات الاستعمار، والحماية الفرنسية، كغيرها من البلدان العربية التي رزحت تحت حكم المنتصرين الجدد (فرنسا وبريطانيا)، وبخاصة تقاسم تركة الرجل المريض (السلطنة العثمانية)، وكيف حاولت سرقة ثروات البلاد. يدخل حسين الواد في فترة ما بعد الاستقلال التي لم تنتج نموذجا مستقلا حضاريا متطورا: «التي وعدت بالمن والسلوى» ولم ينل الشعب سوى «الثوم والبصل» وروائحهما، وينتهي بحقبة ما بعد البورقيبية، أي حقبة بن علي. وبالوصول إلى هذه الحقبة التي باتت أشد وطأة من أي حقبة أخرى تعطي صورة واضحة عن تدهور المدينة العربية بشكل عام من خلال إعطاء مثال المدينة التونسية. فالمدن العربية تحت حكم ما يسمى بالأنظمة الوطنية (ما بعد الاستقلال) حولت هذه المدن إلى مراكز للفساد المتفسخ الذي تنتشر روائحه في كل مكان من المدن العربية، التي شهدت زوال كل ما هو أصيل واستبداله بكل ما هو مزيج غريب، وخليط لا طعم له ولا رائحة. يستشهد الكاتب بالقهوة، المشروب الشعبي المدمن على شرب قهوة «صافية ورفيعة بلونها الذهبي ورائحتها الزكية» آخر أيام «دولة الحماية»، التي تتحول إلى مزيج من القليل من البن والكثير من مسحوق «الحمص طيلة العقود الأولى من دولة الاستقلال» إلى أن أضحت في آخر زمن بورقيبة «ماءً أصفر بمذاق الشعير»، فعبر نوعية المشروبات والوجبات السريعة، يعكس وضعا سياسيا، فهو نوع من الإسقاط على الحالة السياسية في البلاد التي كالأطعمة والمشروبات قد تدهورت بشكل باتت معه المدينة والدولة مطية لكل الشهوات. والكاتب هنا يورد مثالا على حالة من حالات الاختلاس ويعطي الشخصية اسم «فتحي شهوات» وأخويه «سالم كاناسوكر» (اسم مركب من كلمات فرنسية تعني قصب السكر)، و«نعيم النمس» الذي كان يشتهي كل شيء لدى الآخرين من «أراض وأملاك وغيرها حتى الخيول الأصيلة»: «لكن فتحي شهوات الذي كان قد شاهد ستة خيول أصيلة، أربع إناث وذكر ومهر، في مسرح لتربية الخيل يملكه أحد الأعيان القدامى بمدينة مجاورة فرشقت له عليها حتى اشتهاها» وقام بعملية استطاع من خلالها سرقة الخيول دون أن يعرف شيئا عن مالكيها؛ لأنه طالما لم يحاسب على أي من سرقاته السابقة، واستلابه أموال الغير واختلاس كل ما تصل إليه يده. لكن هذه المرة كانت الرائحة نتنة تنذر بشؤم سرعان ما شمها والد فتحي شهوات؛ ذلك أن الخيول كانت ملكية أحد الأجانب، وهنا فقط تعاد السرقة إلى أصحابها، وكأن الكاتب يقول إن كل التجاوزات مسموح بها على أبناء الوطن ولكن حذاري من مال الأجانب «الأوروبيين» التي لا يجب أن تمس. وهذا ما ميز الحقبة الأخيرة من النظام السياسي التونسي وتسلط عائلات على ثروات الناس.
فصول الرواية في جزئيها تعكس مرحلة من المراحل التي طرأت على المدينة حجرا، وبشرا، ورائحة، فحاسة الشم بصفتها محركا أساسيا لاستمرارية السرد، وتطور النص الأدبي، في محاولة ناجحة وجلية لإظهار واقع وظروف مجتمع عربي، ككل المجتمعات العربية، التي تصارع من أجل التغيير نحو الأفضل، لكنها تكبو في كل مرة وتنكفئ على ذاتها، وهناك من يجرها إلى أتون مستنقعات ماضوية، أو حداثية مزيفة كريهة الرائحة، تعبق بالنتن والتعفن، ويزداد الطين بلة بمزيج من الخرافات، والهلوسات في الدين تارة والسياسة تارات فيطلق هذا المزيج أيضا روائح عفنة من التخلف والفساد. ويجهض محاولات التغيير الجادة، كأخر تجربة نهوض شعب ضد أنظمة الفساد.
«روائح المدينة» تعكس، بصدق، مشاعر كاتب متألم على أحوال مدينته التي تسير دائما عكس تيار التقدم المرتجى.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!