لم يكن الكاتب السوري ياسين رفاعية الذي غادرنا عن 82 عامًا نجمًا روائيًا ساطعًا بالمقاييس الترويجية العصرية، لكنه كان كاتبًا أصيلاً وصادقًا، وهو جل ما يحتاجه الأدب الذي يبقى. عصاميته باتت نادرة، وحساسيته الإنسانية المرهفة الطفولية، ميزته عن سواه. هو من جيل الستينات الذي نظر إلى الحرية على طريقته، وأغوته بيروت كمكان للانعتاق، حتى وهي محاصرة بالنار.
بدايته عاملا كادحا في مخبز والده، ومن ثم تنقله بين العمالة في صناعة النسيج والأحذية، وبيع الكعك، قبل أن يصبح صحافيًا وقاصًا، بفعل جهد ذاتي، ومثابرة مضنية، وكدّ من يريد أن يخرج ما يعتلج في ذاته، نقله إلى عالم الكتاب والأدباء، دون أن يمر بالمدرسة. ويروي هو نفسه تجربته قائلاً: «إنني في الأصل عامل، لم تتح لي ظروف حياتي أن أتابع دراستي. وبسبب ذهابي إلى المخبز الذي كنت أعمل فيه من الرابعة صباحًا حتى السادسة مساء، لم أكن أستطيع حتى القراءة. كنت أعيش حياة صعبة، وكان التعب يهدّني».
في أيام العطالة وبفضل البطالة، تمكن ياسين رفاعية من أن يسرق أوقات الكتابة، وأن ينشر بعض القصص، ويبدأ بفضل ذلك عمله محررا ثقافيا في صحيفة مسائية. هذا كان المفصل الذي أتاح له التعرف على كتاب وصحافيين، أحدهم مدحة عكاش، الذي نشر له أول مجموعة قصصية عام 1960 حملت عنوان «الحزن في كل مكان». في عام 1961، عمل بوزارة الثقافة السورية، وشارك في تأسيس مجلة «المعرفة» وبقي فيها حتى سنة 1965، ثم في مجلة «الأحد» وبعدها جريدة «الثورة».
تدريجيًا، تمكن ياسين رفاعية من تأمين مدخوله من الصحافة، صارت الكتابة حرفة، حاول أن يمتلك مفاتيحها، بتثقيف نفسه، وتشكيل خلفياته المعرفية. وكانت مجموعته القصصية الثانية قد أبصرت النور عام 1962 بعنوان «العالم يغرق»، وقبلها مجموعة خواطر شعرية بعنوان «جراح».
عام 1965 تزوج من حبيبته الشاعرة السورية المولودة في لبنان التي أكملت دراستها في سوريا، أمل الجراح، ثم عمل في بيروت مديرا لمكتب صحيفة «الرأي العام» الكويتية، وأسس مجلة «سامر» للأطفال وترأس تحريرها لمدة سنتين.
الحياة في كل الأحوال، لم تكن سهلة للأديبين اللذين أنجبا ولديهما بسام ولينا، وخضعت الأم لعمليتين صعبتين متواليتين في القلب. منذ عام 1969 كان الزوجان قد استقرا في لبنان، وبقيا فيه، حيث سيعيش ياسين رفاعية ما يقارب أربعين عامًا في بلد الأرز يكتب من وحي ذاك العيش الصعب والحرب المريرة التي داهمتهما، فغادرا لفترة إلى لندن ثم عادا، لترحل أمل عام 2004 تاركة ياسين يشهد مرارة وفاة ابنته الوحيدة لينا بعدها بسنة، وحربا مدمرة في سوريا.
زواج بدأ صعبًا ومتعثرًا، جعل الأديب يتوقف عن الكتابة ما يناهز 11 عامًا ليعود بمجموعة قصصية جديدة قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية بسنة واحدة؛ أي 1974، حملت عنوان «العصافير» ووجدت صدى كان يحتاجه بعد انقطاع.
لم تبصر الرواية الأولى «الممر» لياسين رفاعية النور قبل عام 1978، حين وجد أنه بات متمكنًا من خوض المغامرة. وكرت السبحة، فنشر مجموعتين شعريتين؛ هما: «لغة الحب» و«أنت الحبيبة وأنا العاشق»، ومجموعات قصصية هي: «الرجال الخطرون» وأخرى للأطفال «العصافير تبحث عن وطن».
ترك بيروت إلى لندن سنة 1984 وعمل في جريدة «الشرق الأوسط»، ثم ما لبث أن عاد إلى بيروت عام 1994، بعد توقف الحرب.
كتب من الروايات «مصرع الماس» و«دماء بالألوان» و«رأس بيروت» و«امرأة غامضة». ومن الدراسات له: «معمر القذافي» و«قدر الوحدة العربية» و«رفاق سبقوا». وفي آخر حوار تلفزيوني معه العام الماضي، في برنامج «خوابي» على «تلفزيون لبنان» عدّ أن مسلسل «باب الحارة» سرقة كاملة عن روايته «مصرع الماس» التي ترجمت إلى الإنجليزية.
وبرحيل ياسين رفاعية في أحد المستشفيات في بيروت؛ العاصمة التي وجد فيها ملجأه ومستقره، وعاش فيها قصة حبه الشهيرة مع الشاعرة أمل الجراح، تطوى صفحة أخرى من صفحات أدباء الستينات الذين كانت لهم نكهة غابت وضمرت، حتى باتت، وإن فقدت لمعانها، عظة لمن يريدون تسلق المجد الخاطف، بسرعة البرق.
رحيل الأديب ياسين رفاعية مثل «العصافير تبحث عن وطن»
قضى حوالي 40 عامًا في بيروت حيث وجد الأمان
رحيل الأديب ياسين رفاعية مثل «العصافير تبحث عن وطن»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة