لم يكن مجال الطهي بالنسبة للشيف المصري طارق إبراهيم مجرّد مهنة يمارسها، بل بمثابة حبّه الأول والأخير الذي دفعه لترك كلّ شيء من أجل الالتحاق به. فلا خوذته في الهندسة المساحية ولا بدلته في الطيران المدني (وهما المجالان اللذان عمل فيهما قبلا)، استطاعا ان يسرقاه من شغفه بالطبخ، أو ان يمسكاه عن اختراق جدرانه منذ التسعينات حتى اليوم. «لطالما أحببت الطهي فكان بمثابة الحلم، الذي أبى أن يفارقني حتى خلال دراستي الجامعية في مجالات عدّة». يقول الشيف الذي التقيناه في ملتقى «هوريكا» للضيافة والتغذية في لبنان مؤخرًا.
وهل كانت والدتك هي السبب الرئيسي في التحاقك بفنّ الطهي؟ يردّ: «والدتي علّمتني أن أتذوّق الطعام وأن أعرف أسسه من طعمه ومكوّناته، ولعلّ أطيب ما تناولته من أطباق في حياتي كان من يديها. صحيح أنها لم تكن تشجعني لدخول المطبخ معها والوقوف إلى جانبها، إلا أنها حثّتني على امتلاك حاسة ذوق دقيقة».
ويضيف: «من خلال خبرتي ولقائي بمشاهير في عالم الطبخ إلا أنها تبقى أفضل الطهاة في نظري، لامتلاكها إحساسًا مرهفًا في تحضير الطعام، لم أصادفه لدى أي شخص آخر. وعلى فكرة فإن تعرف كيفية تذوّق الطعام، هو الطريق الذي يوصلك للنجاح في الطبخ وهذا ما اكتسبته منها».
الشيف المصري الذي نال شهرة واسعة من خلال البرامج التي يقدّمها على قناة «فتافيت»، وأحدثها تلك التي يطلّ فيها اليوم مع زميله الشيف السوري محمد أورفلّي في (حكاوي)، يؤكّد أنه استطاع لفت انتباه المشاهدة ربّة المنزل من خلال مخاطبته لها ببساطة وهو يزوّدها بالتقّنية اللازمة لطريقة طبخ صحيحة. وقال متوجّها للمرأة الشغوفة بالطبخ: «إياك أن تجري وراء وصفة أو طبق شيف محددّ، بل ركّزي وابحثي دائما عن التقّنية الأفضل من خلال مشاهدتك أكثر من برنامج، بذلك تكوّنين ثقافة عامة في فنّ الطهي». وهل تقديم شيف ما لبرنامج تلفزيوني يعدّ عمليّة سهلة أو العكس؟ يردّ: «الأمر في غاية الصعوبة فأنا ملتزم بإيصال رسالة معينة للمشاهد نابعة من أعماقي ومن خبراتي، والمفروض أنه لا علم له بها، فهو يعرف الجزء الجميل والنظيف والسهل من الموضوع، دون المرور في المراحل الأولية التي تسبق استخدام المنتج (كذبح الخروف ونقل اللحم بالبرادات)، وما إلى هنالك من تفاصيل أخرى، ولذلك اصف مهمّتنا بالشاقة».
ولكن ماذا ينقص ربّة المنزل اليوم لتكون طبّاخة ماهرة ترضي جميع أفراد عائلتها؟ يردّ الشيف طارق المعروف بدماثة خلقه وخفّة ظلّه المعهودتين: «التركيز هو أهم ما يمكن أن تركن إليه ربّة المنزل اليوم، فهي تفتقده لاهتماماتها الكثيرة بأسماء وصفات عدّة، ولكن طريقة تحضيرها للطبق هو الأهم بنظري».
عمل الشيف الذي إذا سألت أو بحثت عنه في مكان ما سيقولون لك «فتّش عن مجموعة من الناس تتحلّق حول أحدهم فتجد طارق إبراهيم محورها»، في مجالي الطيران المدني وهندسة المساحة. إلا أنه عندما قرر الالتحاق بحلمه، افتتح مقهى ومخبزا له في مدينة مينابوليس في ولاية مينيسوتا الأميركية في عام 1984، وتبعه بخمسة مطاعم أخرى تقدّم أطباقا من مطابخ مختلفة في العالم. بعدها قام بتصفية جميع أعماله ليتفرّغ لتدريس فنّ الطهي في معاهد الفنّ الدولية في مينيسوتا ولستّ سنوات متتالية. حاليا هو شيف تنفيذي معتمد من قبل الاتحاد الأميركي للطهاة، بالإضافة إلى كونه أحد الحكام الدوليين المعتمدين لدى الاتحاد العالمي لجمعيات الطهاة، تحوّل وبسبب شغفه للطبخ كبير المستشارين في شركة Meat & Livestock Australia. وهو يقدّم دورات تدريبية عن التعامل مع اللحوم وطرق الطهي للطهاة والعاملين في خدمات الطعام، ويعمل أيضًا واحدًا من مدربي المنتخب الأولمبي المصري. أما مشواره مع التلفزيون الذي بدأه منذ فترة قصيرة، فقد حقّق له انتشارًا واسعًا، لأسلوبه الذكي والمباشر في التعامل مع المشاهد.
وعندما سألته عن سبب شهرة مهنة الشيف حاليًا أجاب: «إن مهنتنا لا تختلف عن مهنة الطبيب والمهندس، أو عن أي مهنة أخرى ترتكز على الإبداع. وقد حقّقت لصاحبها اليوم آفاقا واسعة بفضل وسائل التواصل الاجتماعية وشاشات التلفزة. ولكن هل هي مهمّة صعبة؟ سألته: «صعبة جدّا وتتطلّب الشغف والحبّ وتشغيل جميع حواسنا». ويتابع: «تطوّرت مهنتنا في السنوات العشرين الماضية حتى اليوم، وأصبح الجميع يرغب في أن يكون (شيفا)، حتى لو كان هذا الشخص طبيبًا أحيانًا، فالطبق ومهما كان نوعه هو عصارة فنون تجتمع فيه. وبرأيي، فنّ الطهي هو بمثابة سيمفونية يلعب نوتاتها مجموعة من العازفين، أي المزارع والرجل الذي وضّبها، والآخر الذي نقلها وإلى ما هنالك من أشخاص تعاونوا فيما بينهم لتقديم الطبق بالمشهد الأنيق الذي نراه فيه على المائدة».
وعمّن يلفته اليوم في مجال مهنته؟ أجاب: «الشيف محمد أورفلّي أجده مبتكرًا رائعًا وطاهيًا مميّزًا، وعندما أراه فهو يذكّرني بطارق إبراهيم منذ عشرين عاما». وأين دور العنصر النسائي في هذه المهنة؟ «لقد بدأت حاليا الاندماج في هذه المهنة، فالمرأة بطبيعتها ربّة منزل يشهد لها أنها تربّي الأجيال، إنما المهنة تتطلّب الشغف وليس القيام بالواجب فقط».
وحسب رأي الشيف طارق إبراهيم، فإن متذوقي الطعام الحقيقيين في منطقتنا هم قلائل. ويقول: «البعض ما زال يتناول قطعة اللحم على طريقة (well done)، وهو أمر غير مسموح به بتاتًا في تقنيّة طبق اللحم المشوي مثلا. فما زلنا نرفض كلّ ما هو عصري وندّعي بأنه نوعا من الفلسفة، لا الموضوع ليس هكذا أبدا، فلقد استطعنا تغيير وجه المطبخ العربي بنسبة عشرين في المائة، مع المحافظة على هوّيته الاصلية، فلذلك وجب علينا الالتحاق بقطار التطوّر، لا سيما وأن مطابخنا العربية اليوم صارت في الواجهة، ولم تعد تقع في المراكز الخلفية للمطابخ العالمية بل في الأمامية منها».
كيف تصنّف المطبخ العربي عامة؟ يردّ: «المصري واللبناني والسوري والعراقي هي من المطابخ العريقة، وتمثّل وجهنا الأصيل في هذا المجال».
وفي الختام سألت الشيف طارق إبراهيم عن سرّ نجاحه، هو الذي دخل مجال الطهي متأخرًا وتفرّغ له تمامًا، فأجاب: «أعتقد أن الإخلاص ليس كلام سينما، بل هو وسيلة حقيقية تؤمّن النجاح. كما أن عدم دخولي هذا المجال من باب الحاجة أو الهدف المالي ساهما بذلك دون شكّ، لأنني اخترته عن حبّ وعن سابق تصوّر وتصميم، تاركًا الهندسة والطيران وراءي ومخترقًا مجال الطبخ الجميل بعزم».
الشيف طارق إبراهيم: مهنتنا اليوم توازي مهنة الطب في أهميتها
يصف فنّ الطبخ بالسيمفونية التي يلعب نوتاتها مجموعة من العازفين
الشيف طارق إبراهيم: مهنتنا اليوم توازي مهنة الطب في أهميتها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة