الانتخابات الرئاسية الأفغانية.. العنف يقترع

كابل خططت لحماية المرشحين.. لكن توالي الهجمات كشف ضعف قدرتها على توفير الأمن

الانتخابات الرئاسية الأفغانية.. العنف يقترع
TT

الانتخابات الرئاسية الأفغانية.. العنف يقترع

الانتخابات الرئاسية الأفغانية.. العنف يقترع

في سياق الاستعدادات للانتخابات الرئاسية، أجرت الحكومة الأفغانية ترتيبات أمنية خاصة بتأمين مرشحي الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في الخامس من أبريل (نيسان) المقبل 2014، حيث خصصت 35 جنديا مسلحا لحماية كل مرشح، لكن هذا القرار نزع أي إحساس بالأمن في المجتمع الأفغاني بشأن الانتخابات الرئاسية القادمة. وتوقعت وسائل إعلام وناشطون سياسيون ومراقبون أجانب أن تشهد الأيام التي تسبق الانتخابات الرئاسية أعمال عنف. وقد حذر مقاتلو طالبان من أنهم سيستهدفون المرشحين الرئاسيين ويرتكبون المزيد من أعمال العنف خلال الأيام التي ستسبق عملية الاقتراع.
كانت الجماعة المتشددة قد رفضت عروض المصالحة التي قدمتها الحكومة خلال الأشهر القليلة الماضية، وأعلنت في كثير من المناسبات رفضها أي شكل من أشكال الديمقراطية، وطالبت عوضا عن ذلك بفرض الشريعة الإسلامية في المجتمع الأفغاني. وتوعدت حركة طالبان بحملة من العنف لعرقلة العملية الانتخابية التي ستجري في 5 أبريل المقبل، ودعت مقاتليها إلى مهاجمة موظفي مراكز الاقتراع والناخبين وقوات الأمن قبل يوم الانتخابات. كما نفذت سلسلة هجمات دامية في الأشهر الماضية استهدفت خصوصا الأماكن التي يرتادها الأجانب.
ومنذ بداية الحملة الانتخابية في الثاني من فبراير (شباط) الماضي، أعلنت وسائل الإعلام الأفغانية ومراقبو الانتخابات عن سبع محاولات اغتيال والعديد من حوادث العنف المتعلقة بالانتخابات في المناطق الريفية. كان آخر الهجمات التي نفذتها طالبان أفغانستان الهجوم المسلح على فندق «سيرينا» الفخم في كابل والذي أدى إلى مقتل تسعة أشخاص على الأقل. ويرتاد الفندق دبلوماسيون أجانب وعمال منظمات دولية وشخصيات أفغانية بارزة.
وشن مسلحون تابعون لحركة طالبان أمس هجوما انتحاريا استهدف مكتبا للجنة الانتخابية في العاصمة كابل، مما أدى إلى مقتل شرطيين اثنين، كما دارت مواجهات بين قوات الأمن الأفغانية قرب مكتب للجنة الانتخابية المستقلة في منطقة دارلمان غرب العاصمة الأفغانية لأكثر من أربع ساعات. ووقع الهجوم بالقرب من منزل أشرف غني، الذي يعد من أبرز المرشحين لخلافة الرئيس حميد كرزاي. وقال أحد أعضاء حملة غني، إن المرشح الخبير الاقتصادي السابق في البنك الدولي لم يكن في كابل وقت وقوع الانفجار، إذ كان يقوم بحملة انتخابية في ولاية باكيتا شرق البلاد. وأبلغت قوات الأمن اللجنة بأن مكتبها قد يستهدف في الهجمات.
ويعتقد الخبراء الأمنيون أن تهديد طالبان باستهداف المرشحين الرئاسيين ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد، وأن هذا يتوقع أن يعرقل العملية الانتخابية ككل. ويبدي ثلاثة من بين أبرز المرشحين الرئاسيين، عبد الله عبد الله وزير الخارجية السابق، وزلماي رسول الشخصية السياسية البارزة في المجتمع الأفغاني، وأشرف غني وزير المالية السابق في حكومة كرزاي، عداء واضحا لطالبان. ويقول مراقبون مستقلون في كابل إن توالي الهجمات يكشف زيف الادعاءات الحكومية بقدرتها على توفير الأمن في البلاد خلال الانتخابات الرئاسية.
وفي حال شابت الانتخابات المقبلة حملة دموية فإن ذلك سيثير شكوكا حول تأكيدات المانحين الدوليين أن التدخل المكلف في أفغانستان نجح في خلق دولة فعالة. وتستعد قوات الحلف الأطلسي القتالية بقيادة الولايات المتحدة للانسحاب من أفغانستان بعد 13 عاما من القتال ضد التمرد الذي اندلع بعد الإطاحة بنظام طالبان من الحكم في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول). وتوترت العلاقات بين كرزاي وواشنطن بشكل كبير بسبب قرار الرئيس الأفغاني عدم التوقيع على اتفاق يتعلق بإبقاء قوة أميركية صغيرة في بلاده بعد 2015 للقيام بمهمات لمكافحة الإرهاب وتدريب القوات الأفغانية. وتضم قائمة المرشحين البارزين الآخرين إضافة إلى غني، كلا من عبد الله عبد الله الذي جاء في المرتبة الثانية في انتخابات الرئاسة 2009، ووزير الخارجية السابق زلماي رسول.
بيد أن توالي العنف لا يعني أن الحكومة الأفغانية لم تتخذ التدابير الأمنية الملائمة خلال الانتخابات. وقال المتحدث باسم وزير الداخلية الأفغاني، محمد نجيب، إن الحكومة مستعدة بشكل كامل لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة. وأكد على أن نحو 400.000 جندي وشرطي أفغاني مستعدون للانتشار في البلاد لردع أي تهديد للعملية الديمقراطية.
ووصف المتحدث تهديد طالبان باستخدام العنف بأنه لا يعدو كونه نوعا من الدعاية، قائلا إن الحكومة الأفغانية متيقظة، وإن مثل هذه التحركات لن تثنيها عن إجراء الانتخابات. وأضاف أن هناك أربع مناطق فقط في أفغانستان هي التي تواجه تهديدا أمنيا جديا، لكن الحكومة اتخذت خطوات للتعامل مع هذا التحدي.
وخلال شهادته أمام لجنة الخدمات المسلحة في واشنطن الأسبوع الماضي، حذر قائد القوات الأميركية في أفغانستان الجنرال جوزيف دانفورد من الارتفاع في أعمال العنف المتعلقة بالانتخابات، لكنه قال إن القدرة المادية للقوات الأمنية الأفغانية كافية للتعامل مع التحدي الأمني. وقال دانفورد «ما من شك يخامرني في أننا نعلم هذا سواء عن طريق المعلومات الاستخبارية أو عن طريق المصادر العلنية، من أن التمرد يركز على تعطيل الانتخابات في عام 2014، وركز على سحق روح وإرادة القوات الأفغانية في عام 2014، لأنهم يعتقدون أننا سنغادر بنهاية 2014، التي يعتقدون أنها ستكون سنة حاسمة للغاية. ولذا، نتوقع أن نرى هجمات واسعة النطاق لصنع إحساس بانعدام الأمن».
ويعتقد خبراء الأمن أنه على الرغم من حقيقة أن تهديد طالبان للعملية الانتخابية قائم ووشيك للغاية، فإن العنف خلال الحملات الانتخابية يتوقع أن يظل داخل نطاق السيطرة. ففي انتخابات 2009 البرلمانية عندما شنت طالبان هجمات ضد الانتخابات البرلمانية المدعومة من الولايات المتحدة، لم تسفر هذه الهجمات سوى عن مصرع 31 مدنيا و26 شرطيا خلال يوم الاقتراع.
شملت إحصاءات القتلى هذه الأشخاص الذين قتلوا في الهجمات التي شنتها طالبان والذين سقطوا ضحية العنف بين الجماعات والأحزاب المتنافسة في الانتخابات. هذه المرة تشكل طالبان تهديدا محددا للعملية الانتخابية، فقالت في بيان لها عبر الإنترنت «أصدرنا أوامرنا للمجاهدين باستخدام القوة في مناطقهم لتعطيل هذه الانتخابات المخزية - باستخدام كل العاملين والناشطين والمصوتين والضباط وأفراد الأمن. إنها فريضة على كل أفغاني أن يؤدي واجبه لإفشال أحدث مؤامرات الغزاة التي تتخفى في زي انتخابات».
ويعتقد خبراء أفغان ودوليون أن الاختبار الحقيقي الذي يواجه الحكومة الأفغانية بشأن القضية الأمنية سيلوح عندما تبدأ القوات الأميركية في الانسحاب من أفغانستان في عام 2014. وقد وردت تقارير متضاربة بشأن توقيع اتفاق أمني بين الولايات المتحدة وأفغانستان تسمح بتمركز عدة آلاف من الجنود الأميركيين في المدن الكبرى وحولها للمشاركة في عمليات مواجهة الإرهاب والتمرد.
ويرى خبراء الأمن الإقليمي والعسكري أن الحرب في أفغانستان لن تحقق نتائجها دون مساعدة أمنية أميركية. ويمكن للمساعدات الأمنية الأميركية أن تأتي في صورتين، الأولى هي تمركز وحدات القوات الأميركية في مواقع محددة في أفغانستان لتنفيذ عمليات ومكافحة الإرهاب ومكافحة التمرد. والثاني استمرار واشنطن في ضخ مليارات الدولارات لتمويل الآلة العسكرية الأفغانية الجديدة. ويريد المخططون الأميركيون من القوات الأمنية الأفغانية الوليدة تحمل المسؤولية الأمنية في أنحاء واسعة من المناطق الريفية الأفغانية، في الوقت الذي تترك فيه المناطق التي ستدور فيها معارك مكافحة الإرهاب إلى القوات الأميركية الخاصة.
ويرى خبراء السياسة الأفغان أن الرئيس الأفغاني حميد كرزاي لم يضع في حسبانه تلك الحقائق المتعلقة بالموقف الأمني في أفغانستان، عندما رفض في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي توقيع الاتفاقية الأمنية الثنائية مع واشنطن على الرغم من توصيات لجنة من شخصيات بارزة في الحكومة الأفغانية بضرورة توقيع الاتفاق قبل نهاية العام.
وقد أصرت الإدارة الأميركية على ضرورة توقيع كابل وواشنطن الاتفاقية الأمنية الثنائية قبل نهاية العام، وحذرت من أن الوجود العسكري الأميركي بعد عام 2014 ربما يواجه تهديدا ما لم تتم الموافقة على المعاهدة. وقد طالب وزير الخارجية الأميركي جون كيري، ووزير الدفاع تشاك هيغل، بضرورة توقيع الاتفاقية بنهاية العام.
ويتفق الخبراء العسكريون المحليون مع الرأي الذي عبر عنه الكثيرون بأن القوات الأمنية الأفغانية لن تتمكن من تحمل المسؤولية الأمنية كاملة في أفغانستان، بالنظر إلى حقيقة أن الجنود الأفغان يعانون من قلة التدريب، ناهيك عن العدد الكبير من عمليات الهروب في صفوف المجندين والتي تعد الأعلى في العالم. لكن الرئيس الأفغاني لا يرى أن توقيع المعاهدة الأمنية الثنائية، التي تسمح للقوات الأميركية بالاحتفاظ بقوات خاصة في مناطق مختلفة أفغانستان، من منظور أمني. بل طلب تأجيل التوقيع إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في أبريل.
ويجمع غالبية المحللين في كابل على التقييم الذين يرى أن علاقات الرئيس الأفغاني بواشنطن يشوبها التوتر والقلق، نتيجة لرفض الإدارة الأميركية مساندته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة المثيرة للجدل. وكانت وسائل الإعلام الأميركية قد وجهت انتقادات لاذعة لكرزاي على فوزه في الانتخابات الرئاسية عبر وسائل غير نزيهة. ونقلت وسائل الإعلام الأميركية عن مسؤولين أميركيين ما نقلوه عن المعارضة الأفغانية بأن الرئيس كرزاي فاز بالانتخابات عبر وسائل غير نزيهة.
وقال محلل سياسي بارز يقيم في كابل، طلب عدم ذكر اسمه «عدم توقيع الرئيس كرزاي للاتفاقية الأمنية الثنائية يعني رغبته في الاحتفاظ بمزيد من السلطات في يده لمنع الأميركيين مما فعلوه في الانتخابات الرئاسية عام 2009».
حميد كرزاي ممنوع من دخول الانتخابات الرئاسية لفترة ثالثة على التوالي، لكنه يؤيد مرشحين بأعينهم في الانتخابات. ويرى غالبية المحللين أن حميد كرزاي له مصلحة في التأثير على نتائج الانتخابات المزمع إجراؤها في أبريل المقبل. ويبدي المخططون العسكريون الأميركيون قلقا بشأن التأخر في توقيع الاتفاقية الأمنية، والذي يرون أنه قد يتسبب في فراغ قانوني، ليترك القوات الأميركية دون سند قانوني في البلاد قرابة عشر سنوات لتدريب والإشراف على القوات الأفغانية التي لا تزال تفتقر إلى التدريب في مواجهة تمرد طالبان.
ويرى المسؤولون العسكريون الباكستانيون أن انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان سيؤدي لمستقبل مثير للشكوك إلى حد بعيد. فيقول مسؤول عسكري رفيع المستوى في إسلام آباد إن «نتيجة الحرب في أفغانستان لن تكون انتصارا أو هزيمة بالنسبة للقوات الأميركية.. وإن الانتصار الصريح غير ممكن لأن القوات الأميركية لم تتمكن من تحقيق أي من النتائج التي كان متوقعة مثل تحييد طالبان وإقامة حكومة أفغانية مستدامة، وتطوير اقتصاد أفغاني قوي، أو إقامة بيئة أمنية إقليمية مستقرة».
من ناحية أخرى، لا يتوقع أن تواجه القوات الأميركية هزيمة صريحة نتيجة الموقف العسكري الحالي السائد في أفغانستان. فيرى الخبراء العسكريون أن طالبان لن تتمكن عسكريا من هزيمة القوات الأميركية في أفغانستان. ويقول مسؤول عسكري باكستاني بارز «على مدى السنوات العشر الماضية ركزت الولايات المتحدة وحلفاؤها على النتائج الثابتة مثل القضاء على طالبان أو إنشاء حكومة أفغانية مركزية، وفشلوا في تحقيق أي من هذين الهدفين».
كانت الحرب الأفغانية قد شهدت أربع مراحل مميزة، المرحلة الأولى كانت حملات القصف الجوي التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر. والمرحلة الثانية اتحاد وحدات القوات الأميركية الخاصة مع قوات التحالف الشمالي التي أسقطت نظام طالبان بنهاية ديسمبر (كانون الأول) 2001. وكانت المرحلة الثالثة التحول إلى القوات العامة التي بدأت بعد إنشاء الجيش الأميركي مواقع عسكرية في المدن الرئيسة مثل كابل وقندهار. والمرحلة الرابعة عودة القوات الأميركية إلى عمليات مكافحة التمرد التي بدأت في أعقاب تمرد طالبان الذي شمل جنوب أفغانستان.
كانت أبرز ملامح إخفاق الوجود الأميركي في أفغانستان هي عدم قدرة أميركا على إقامة بنية دولة مركزية يمكن الاعتماد عليها في تولي مسؤولية الحكم في المناطق الأفغانية. وعلى الرغم من ضخ واشنطن مليارات الدولارات في الاقتصاد الأفغاني ومؤسسات الدولة، فقد ظلت قدرات الدولة الأفغانية على الحكم محدودة للغاية. وقد أدى ذلك إلى حالة من الإحباط بين الجيش الأميركي والمسؤولين المدنيين المقيمين في أفغانستان تجاه حكومة كرزاي، الذي أصيب هو الآخر بخيبة أمل تجاه المسؤولين الأميركيين ولم يفوت مناسبة واحدة دون توجيه انتقادات لاذعة للإدارة الأميركية والجيش الأميركي بسبب استهداف المدنيين في العمليات العسكرية.
هذه الشكوك التي تحيط بأفغانستان انعكست في الخطاب الأخير للرئيس حميد كرزاي، والذي رفض فيه المطالب بتوقيع الاتفاقية الأمنية الثنائية مع واشنطن. وقال كرزاي، في خطابه أمام المجلس الأعلى الأفغاني الذي ناقش توقيع الاتفاقية الأمنية «إذا وقعت الاتفاقية ولم يحل السلام فمن سيتحمل المسؤولية أمام التاريخ؟ وربما كان ذلك هو السبب في أنني طلبت ضمانات».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.