حسابات «القرم»

بوتين أراد ترك بصمة تاريخية لشخصه بضمه شبه الجزيرة.. ومواجهته مع الغرب باتت مفتوحة على كل الاحتمالات

حسابات «القرم»
TT

حسابات «القرم»

حسابات «القرم»

غالبية القادة السياسيين يبذلون جهودا كبيرة ليذكرهم التاريخ إيجابا عندما يتنحون أو يرحلون، والقليل منهم يأتيه في مرحلة ما من حكمه، حدث تاريخي مفاجئ، يعرف كيف يوظفه ويكون من ثم أهم لبنة في إرثه السياسي. أحد هؤلاء القليلين، هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي دخل خلال الفترة القليلة الماضية، بقوة، على خط الثورة الأوكرانية المحلية، وحرك مسألة منطقة القرم، مما خلق أزمة دولية كبرى. وباسترداده القرم، صار بوتين ثالث زعيم روسي - سوفياتي، بعد ستالين وخروشوف، يتخذ خطوة تاريخية كبيرة تجاه شبه الجزيرة. وبات بوتين، من دون شك، اللاعب الرئيس في تطورات الأزمة، وشخصية مثيرة للجدل على المستوى الدولي.
يجمع محللون كثيرون على أن بوتين تحرك في البداية بدافع الرد على الثورة التي أطاحت حليفه الرئيس فيكتور يانوكوفيتش الشهر الماضي وبسبب شعوره بأن الغرب لعب دورا خفيا كبيرا في تلك الانتفاضة التي دامت بضعة أشهر. لكن توابع التحرك الروسي والإيعاز إلى القرم بتنظيم استفتاء سريع من أجل الانضمام إلى روسيا، تقاطعت لاحقا مع مشروع قديم لدى القوميين الروس، يدعو لتصحيح ما يعدونه خطأ من الزعيم السوفياتي أوكراني الأصل، نيكيتا خروشوف بالتنازل عن القرم لأوكرانيا عام 1954. وهكذا، ضرب بوتين عصفورين بحجر: ثأر للإهانة التي لحقت بحليفه، وحقق حلما روسيا قديما أدخله التاريخ.

خلق حدث اقتطاع القرم من أوكرانيا وضمها إلى روسيا، واقعا سياسيا جديدا داخل أوروبا وشكل ما يمكن عده أول تغيير في الحدود الدولية داخل القارة العجوز منذ الحرب العالمية الثانية (إذا استثنينا طبعا تغير الحدود الذي نجم عن تفكك يوغوسلافيا في مطلع التسعينات من القرن الماضي)، وأصبح من ثم بمثابة تحد للدول الغربية التي كان ينظر إليها دوما على أنها الفاعل الرئيس في المسرح الدولي.
«الأسد الجريح»، ممثلا في الغرب بقيادة الولايات المتحدة ورئيسها باراك أوباما، يدرك الآن، أنه أصيب في كبريائه في غمرة أحداث لم يكن مستعدا لها، وأن استعادة كرامته تتطلب الرد، والأخطر من ذلك، تشكل إحساس جديد لدى الغرب بمؤسساته السياسية والعسكرية، بأن التسليم بالأمر الواقع الجديد يعني إطلاق يد بوتين لتكرار «سيناريو القرم» في مناطق أخرى، سواء في الشرق الأوكراني وربما حتى في باقي أوكرانيا ومولدوفا. طبعا، الدول الغربية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) باشرت على الفور، إطلاق عقوبات تمثلت في منع مسؤولين مقربين من بوتين من الحصول على تأشيرات دخول وتجميد أي أصول محتملة لهم، وواضح أن «عملية العقوبات»، التي جرت على دفعتين حتى الآن، ستتواصل وستكون لها تداعيات.
كما أن رهان البعض على أن الأزمة جرى احتواؤها، وأن الأسوأ ولى، قد لا يكون دقيقا، بحسب خبراء في السياسة الدولية. ويقول مدير البرنامج الروسي في معهد «تشاتام هاوس» بلندن، كيير غيلس، لـ«الشرق الأوسط»، إن «منطقة القرم ضاعت من أوكرانيا ولا تستطيع العودة إلى سيادتها»، لكن هناك «خطرا حقيقيا بحدوث اضطرابات في الشرق الأوكراني تتسبب فيها مجموعات روسية الأصل في المنطقة، تخطئ تقدير الحسابات وتدفع بالأمور نحو مواجهات عسكرية». ويشدد غيلس على أن «هذا النوع من المواجهة لا تريده روسيا الآن، وإذا اندلع فإنه سيكون طويلا ودمويا». ويذهب باحث آخر مقيم بلندن وملم بملف المنطقة، هو جوناثان إيل، في هذا الاتجاه التحليلي نفسه، ويقول لـ«الشرق الأوسط»، إنه «في حال امتنع الغرب عن اتخاذ إجراءات أقوى ضد روسيا وشجعها على اعتبار خيار القرم طريقا جيدا لتوسيع النفوذ، فستكون هناك ردود عسكرية أكثر في المستقبل، ومن هذا المنظور يمكن القول إن الأسوأ قد بدأ للتو» على عكس اعتقاد أننا تجاوزناه.
وللتدليل على أن تداعيات اقتطاع القرم من أوكرانيا ستطول، يربط محللون الأزمة الحالية بمحطات سابقة، بدأت مع ارتفاع عائدات النفط عام 2005، مما دفع القيادة السياسية الروسية إلى ضخ أموال كبيرة لتعزيز الترسانة العسكرية للبلاد ثم السعي لجس نبض نفوذها وسط جيرانها في محيطها الغربي، وكان من نتائج ذلك، تجربة الخيار العسكري في جورجيا عام 2008. ويقول إيل، الذي يشغل منصب مدير الدراسات في المعهد الملكي للدراسات الأمنية والدفاعية (مقره لندن ومعروف اختصارا بكلمة روسي)، إن «روسيا استخلصت من درس جورجيا أن الخيار العسكري مفيد على المستوى الدولي، وعليه كررت التجربة بالقرم في عام 2014». ويصف إيل، روسيا تحت قيادة بوتين بأنها «عائدة بحزم وثقة، وتريد اتخاذ خطوات لحماية مصالحها الأمنية». ويتابع أن «من المهم للمجتمع الدولي الآن إذا كان يريد حماية أمن أوروبا، أن يتصرف بطريقة مختلفة عن تحركه خلال أزمة جورجيا عام 2008، وألا يشجع روسيا على اعتقاد أن سياستها الحالية هي الأفيد لها مستقبلا».
ويبدو أن الرئيس بوتين كان مدركا عجز الغرب عن الرد عليه عسكريا خلال الأزمة الأخيرة، ولذا عرف كيف يستغل الفرصة السانحة ويعيد القرم إلى بلاده في غفلة من الحسابات السياسية الدولية. والجميع يعرف أن الغرب لا يمكنه الرد عسكريا على الأزمة الأخيرة، لسببين رئيسين: الأول هو عدم امتلاك حلف شمال الأطلسي الإطار القانوني لتحريك قوات ردا على اقتطاع أرض من دولة ليست عضوا فيه (أوكرانيا لديها برنامج شراكة مع الأطلسي فقط)، والثاني المناخ السياسي الحالي في الولايات المتحدة وأوروبا غير الميال لأي مواجهة عسكرية، خصوصا إذا كانت مع دولة كبرى مثل روسيا تملك حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي وسلاح الردع النووي. لكن هذا لا يعني أن الأميركيين والأوروبيين لم يطرحوا الخيار العسكري خلال الأزمة. ويقول غيلس بهذا الصدد: «بكل تأكيد، كان هناك نوع من النقاش داخل الحلف الأطلسي حول الخيارات العسكرية، مع تطور الأزمة، والأهم من ذلك، سيكون هناك نقاش أكثر الآن حول الخطوات المستقبلية إذا تطورت الأمور وحدث قتال أوسع في مناطق مثل الشرق الأوكراني ونتجت عن ذلك عمليات نزوح للاجئين». ويشدد على أن «الخيار العسكري لدى حلف الأطلسي لم يعد مطروحا الآن، لكنه لم يستبعد كليا من الطاولة».
وبدأ الرئيس الأميركي، أول من أمس، زيارة إلى أوروبا قادته إلى لاهاي، حيث شارك في قمة مجموعة السبع للأمن النووي، ومنها يتوجه إلى بروكسل للمشاركة في القمة الأميركية - الأوروبية. ويتوقع أن تأخذ الأزمة الأوكرانية وتعزيز أمن دول أوروبا الشرقية، حيزا كبيرا من محادثات الرئيس الأميركي. وذكرت معلومات مسبقة أن أوباما يريد تقديم ضمانات أمنية قوية إلى الدول الصغيرة التي انضمت إلى الحلف الأطلسي بعد انفصالها عن الاتحاد السوفياتي، في إشارة إلى موسكو بأن الغرب لن يتساهل إذا تكرر سيناريو القرم في مناطق أخرى.
ومع استبعاد الخيار العسكري، ركز الأميركيون والأوروبيون على أمرين: فرض عقوبات ضد مسؤولين روس وأوكرانيين كبار، والسعي لعزل روسيا في منظمات دولية مثل «مجموعة الثماني» و«منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية». ويجمع محللون على أن سلاح العقوبات يعد فعالا أكثر من سلاح العزلة، كما يلاحظون أن العقوبات الأميركية جاءت أقوى من الأوروبية، واستهدفت مباشرة الدائرة الضيقة المقربة من الرئيس بوتين، وخصوصا تلك التي تمارس ما يمكن تسميته السلطة المالية في روسيا. وقال جوناثان إيل: «إذا أخذت مثلا بعض رجال الأعمال المقربين من بوتين، فإن هؤلاء يحتاجون دوما إلى السفر من أجل ترتيب شؤونهم المالية في الخارج، وعليه (فإن الإجراءات المتخذة بحقهم) تسبب ضررا معتبرا لهم». ويذهب غيلس في نفس الاتجاه متوقعا تأثيرا قويا للعقوبات، ويقول: «في عالم اليوم المتداخل، سيكون هناك أثر على الاقتصاد الروسي من ناحية الأموال والقدرة على الاقتراض من السوق العالمية. فالسوق المالية العالمية، خصوصا سوقي لندن ونيويورك، ستسعى بموجب الإجراءات الجديدة، لفرض أسعار أعلى على الروس عند محاولاتهم الاقتراض في المستقبل».
ويشير محللون إلى أن الفرق بين العقوبات الأميركية ونظيرتها الأوروبية مرده إلى طبيعة اتخاذ القرار لدى الجانبين. فالولايات المتحدة مثلها مثل روسيا تستطيع أن تتحرك منفردة ومستقلة، ولذا كان سهلا عليها اتخاذ عقوبات قوية ضد الدائرة الضيقة المقربة من الرئيس بوتين، بينما يتطلب الأمر من الاتحاد الأوروبي، عندما يريد اتخاذ عقوبات جماعية، موافقة من كل الدول الأعضاء الـ28. ومعروف أن مصالح الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تتباين بشكل كبير في علاقتها مع روسيا. ويقول مصدر أوروبي، تحدثت إليه «الشرق الأوسط»، إن بريطانيا وبولندا هما الوحيدتان اللتان طالبتا بعقوبات فعالة ضد المقربين من بوتين وهو ما عارضته الدول الأخرى في الاتحاد.
ويلاحظ متخصصون أن سلاح العزلة الذي أشهره الغرب في وجه روسيا وتمثل خصوصا في إلغاء اجتماع «مجموعة الثماني» المقرر في منتجع سوتشي في وقت لاحق من العام الحالي ثم التهديد بطرد روسيا من المجموعة كليا، يعد عديم الفاعلية. ويقول جوناثان إيل: «إنه لا يوجد أي تأثير لهذا الأمر، فروسيا لا يعنيها على الإطلاق عدم دعوتها لحضور اجتماعات مجموعة الثماني، والروس يعرفون أن أي عزلة ستكون مؤقتة بناء على تجارب سابقة». ويشير إلى أن «مجموعة الثماني» لا تمثل أهمية كبيرة بالنسبة لروسيا، على عكس الأمم المتحدة التي تنظر إليها بأنها منظمة مهمة، وهي تعلم أنه لا يمكن عزلها منها بسبب امتلاكها العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي. ويرى محللون آخرون أن «مجموعة الثماني لا تعمل أصلا بشكل جيد، ولو كانت تؤدي دورا فعالا لتفادينا من الأصل نزاع أوكرانيا».
وإضافة إلى العقوبات والعزلة، سيتعين على روسيا الآن تحمل تكلفة مالية كبرى بعد ضمها القرم التي يسكنها نحو مليوني نسمة. وتفيد تقارير بأن شبه الجزيرة باتت الآن بحاجة إلى شبكات لوجيتسكية جديدة لتوفير الغاز والماء والطرق من البر الروسي، من دون الاعتماد على أوكرانيا. وتفيد تقارير بأن القرم تعتمد بنسبة 80 في المائة على أوكرانيا في التزود بالماء والكهرباء. ويقول فاليري شالي، مدير «مركز رازومكوف الأوكراني للدراسات السياسية والاقتصادية»، إنه سيتعين على روسيا تحمل تكلفة تصل إلى خمسة مليارات يورو سنويا بعد ضمها القرم. إلا أن جوناثان إيل يرى في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن أمر التكلفة المالية لا يشكل قلقا لروسيا، و«موسكو أظهرت في مناسبات كثيرة أنها تقبل تكبد معاناة اقتصادية من أجل توسيع نفوذها وتلبية مطالب أمنية».
كذلك، سيتعين على روسيا دفع ثمن سياسي باهظ تجاه التطورات الأخيرة. فموسكو بابتلاعها منطقة القرم، تكون قد خسرت أوكرانيا إلى الأبد، وكان من التداعيات الفورية لاستفتاء القرم، توقيع الاتحاد الأوروبي مع الحكومة الأوكرانية الجديدة على شق سياسي من اتفاق شراكة قد يمهد على المدى المتوسط لعملية انضمام، علما بأن امتناع يانوكوفيتش عن توقيع هذا الاتفاق في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي كان سبب الشرارة الأولى لكل ما حدث في المنطقة. كما يتوقع أن يسرع حلف شمال الأطلسي الآن، مساعيه لضم أوكرانيا دون وجود اعتراض كبير لدى السلطات الجديدة في كييف. وبكل تأكيد، سيفعل حلف الأطلسي الأمر ذاته مع جورجيا التي ترتبط مع الحلف بشراكة أيضا. ومن هذا المنظور، يكون بوتين قد تسبب في إحداث توجس أمني لدى عدوه اللدود (حلف الأطلسي) وساعده على الاقتراب أكثر تجاه الحدود الروسية.
وحول دور بوتين في الأزمة الأوكرانية إجمالا، يقول محلل غربي إن جذور النزاع تتعلق أساسا بمن يملك التأثير في الفضاء السوفياتي السابق، والقضية لم تكن أبدا مرتبطة بوضع الروس في القرم ولم تكن هناك أي مؤشرات على أن روس القرم يعانون التمييز. ويصر على أن جذور الأزمة بدأت بالثورة التي أطاحت يانوكوفيتش من قبل الشعب الأوكراني والرئيس بوتين تدخل لاحقا و«كان مصرا على إظهار من السيد في المنطقة».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.