دراسات في أدب الخيال العلمي

العرب يفتقدون إلى مصطلح دقيق

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

دراسات في أدب الخيال العلمي

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

صدر أخيرا في دمشق كتاب «مجاز العلم: دراسات في أدب الخيال العلمي» للدكتورة سمر الديوب، عن الهيئة العامة السورية للكتاب. وتقول المؤلفة في تقديمها للكتاب: نحاول في هذه الدراسة أن نقرأ أدب الخيال العلمي برؤية مختلفة، منطلقين من جملة فرضيات، منها أن بلاغة العلم تقابل بلاغة الأدب، وأن الخيال هو الذي يصنع العلم، والمجاز طريقة تفكير، فالعالم والأديب يفكران بالمجاز، لكن الأديب يجدد آفاق البحث العلمي ويوسعها. وقد تقاربت المسافة بين العلمي والأدبي في عصرنا الحالي، وتغير مفهوم العلم، وأصبح لزاما علينا إعادة تأسيس مفهوم الشعرية انطلاقًا من روح العصر، فكان اختيار عنوان «مجاز العلم» توسيعًا لهذا المفهوم، وتأكيدا لإلغاء فكرة الحد العلمي الصارم والحد الأدبي، ودمجًا للحقول العلمية بالحقول الفنية.
وفي حين تحاول الكاتبة التقريب بين العلم والأدب بحجج فلسفية وواقعية فرضها التطور المعرفي والحركي في العالم، ولذلك جاء أدب الخيال العلمي ثمرة لهذا التقريب بين العلم والأدب والخيال البشري اللامحدود، إلا أن الكاتبة تأخذ على الذائقة العربية أنها لم تهتم بأدب الخيال العلمي الذي لم ينل حقه من أقلام النقاد، فكثير منهم يعرضون عنه، ويوجهون إليه سهام النقد لأنهم يعاملون رواية الخيال العلمي بأدوات نقد الرواية الأدبية العادية، كما أن الوعي بضرورة تأسيس وعي علمي وتكنولوجي وفلسفي في بنية الثقافة العربي لا يزال محدودًا. ولتجاوز هذا الإشكال التوعوي العربي، ترى الديوب حاجة إلى مناهج تجمع بين معطيات المنهج العلمي والتكنولوجي والفلسفي من جهة، وتداخل العلوم والآداب من جهة أخرى، فلا نزال إلى الآن نفتقد تأصيلاً نقديًا عربيًا لمصطلح الخيال العلمي وأدبه.
كما تؤكد الكاتبة أن أدب الخيال العلمي أدب حديث النشأة، يحتاج إلى قراءة فاعلة تكشف جوانب الإبداع والجمال فيه.
والكتاب يقع في نحو مائتي صفحة من القطع الكبير، ويتوزع على بابين وفصول تتبع لهما، فالباب الأول الذي حمل عنوان: «دراسات نظرية في أدب الخيال العلمي» توزع على ثلاثة فصول، وهي: الخيال العلمي ومجاز العلم، وشعرية الكتابة في أدب الخيال العلمي، وثقافة الصورة وفائض المعنى. وفي فصول هذا الباب رصدت الكاتبة تاريخ الكتابة في أدب الخيال العلمي، وبحثت في حدود هذا الأدب وركائزه، ووجدت أنه يتحرك في مستويين: مستوى صياغة المعلومات العلمية، ومستوى الصياغة الأدبية المنحرفة بطاقتها الإيحائية.
كما تناولت في الفصل الثاني من الباب الأول علاقة الشعرية بسؤال الجنس الأدبي الذي ينضوي تحته أدب الخيال العلمي، واكتشفت أن أدب الخيال العلمي يتجه نحو شعرية العلم، ويقدم بلاغة جديدة تقوم على الانعتاق من الالتزام بأية قواعد كتابية، أو لغوية سابقة، موظفًا الحكائي والرمزي والآيديولوجي والسياسي والعجائبي في خطاب قائم على الاختلاف والتعدد، فيما يعد الخطاب العجائبي أبرز ركائز الشعرية في أدب الخيال العلمي لأنه تحليق في الخيال، لكنه خطاب خيالي له واقعيته الخاصة، فهو يعبر عن هموم الواقع ومشكلاته بالخيال، ثم كانت مسافة التوتر بين الضدين: العلم والأدب، التي تحدث فجوة هي شرط أساسي للشعرية، ووجدت المؤلفة أن النسق اللغوي قد اتسم بالمجاز والإيحاء والاستعارة والمفارقة والصدامات الدرامية وخصوصية استخدام الضمائر، كما توصلت المؤلفة إلى أن رواية الخيال العلمي قامت على الوصف والتصوير في تقديمها عالم الكواكب وأعماق البحار وباطن الأرض، وهي أمور تجنح بالنص إلى الشعرية.
كما ترى الكاتبة في الفصل الثالث من هذا الباب أن أدب الخيال العلمي هو أدب الصورة، حيث يؤدي مزج الخيال بالعلم إلى ظهور نص يتمثل الصورة تمثلاً إبداعيا، فيبدو هذا الأدب تفكيرا بالصورة، لغته أيقونية، تقدم تصورات لعوالم خيالية، وتوصلنا إلى أننا يمكن أن نتحدث عن كاتب أدب خيال علمي وصانع أدب خيال علمي في الوقت نفسه.
أما الباب الثاني من الكتاب، فاجتهدت مؤلفته على العمل التطبيقي، من خلال اختيار عدد من روايات الخيال العلمي، ووضعها على طاولة التشريح. فضم هذا الباب الذي حمل عنوان «دراسات تطبيقية في أدب الخيال العلمي» خمسة فصول، وهي استعراض لخمس روايات علمية للروائي السوري طالب عمران، عملت على تقديمها للقارئ العربي من باب مجاز العلم، والتقريب ما بين مفهومي العلم والأدب، ومنها: خصوصية الخطاب في رواية الخيال العلمي (رواية البعد الخامس أنموذجًا) - فضاء الوصف في رواية أحزان السندباد - البناء الدرامي في رواية فضاء واسع كالحلم - وجهة النظر في قصة الخروج من الزنزانة - الرؤيا في رواية في كوكب شبيه بالأرض. وتنهي الكاتبة دراساتها بنتيجة وهي أن أدب الخيال العلمي أدب الرؤيا، والرؤيا تجربة مع المستقبل تحمل فكرًا مثاليًا، ووجود الرؤيا يعني وجود حرية في التعبير الأدبي تحول المتلقي إلى متلقٍ فاعل مشارك في الكشف عن هذا البعد، وتعد الرؤيا أوسع من الرؤية وأعمق.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!