المكلا.. محرَّرة

الجيش اليمني يسانده التحالف العربي خاض أكبر معركة ضد «القاعدة» في حضرموت

المكلا.. محرَّرة
TT

المكلا.. محرَّرة

المكلا.. محرَّرة

استغلت التنظيمات الإرهابية في اليمن ضعف الدولة خلال العقد الأخير، سواء في شمال الشمال أو في المدن الجنوبية، فعملت على الاستفادة من الأوضاع غير المستقرة في البلاد. ومن ثم بسطت سيطرتها بقوة السلاح، كما فعل الحوثي والرئيس المخلوع علي عبد الله صالح في صنعاء، أو تنظيم «القاعدة» في مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت، وكذلك في محافظتي أبين وشبوة. غير أن التنظيم لجأ إلى تغيير استراتيجيته التي كانت تحت إطار حرب العصابات والهجمات الانتحارية، والكمائن التفجيرية، إلى السيطرة على مدن بكاملها، كما حدث في زنجبار وجعار (في أبين)، وأخيرا المكلا. لكن ذلك لم يدم طويلا؛ إذ أعلنت قوات التحالف العربي مساندتها للحكومة اليمنية لمحاربة التنظيم الإرهابي، وكما طردت ميليشيات الحوثي وصالح من عدن ومدن أخرى بالجنوب، أطلقت أكبر عملية تستهدف تنظيم القاعدة في المكلا بعد أكثر من سنة على سيطرتهم عليها، ومن ثم نجحت في تحريرها بأقل التكاليف والخسائر وخلال وقت قياسي.

بعد وصول ميليشيات المتمردين إلى محافظة شبوة اليمنية الجنوبية المحاذية لمحافظة حضرموت، سارع عشرات المسلحين تحت لافتة تنظيم «القاعدة» إلى مدينة المكلا الساحلية الاستراتيجية، التي تعد ثالث أهم مدينة يمنية من الناحية الاستراتيجية بعد صنعاء وعدن؛ بسبب موقعها على بحر العرب. وساهم غياب الدولة وانقلاب المتمردين على حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي في تسهيل السيطرة على المكلا؛ بسبب الفوضى التي صاحبت عملية الانقلاب وقطع التواصل بين المركز والمدن البعيدة عن صنعاء.
هناك عدة روايات لكيفية سقوط المكلا بيد «القاعدة»؛ إذ تتحدث مصادر عسكرية عن إرسال الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح ضباطا وجنودا موالين له من قوات الحرس الجمهوري والأمن المركزي وجهاز الأمن القومي، بأزياء مدنية بواسطة حافلات نقل عام من صنعاء إلى المكلا. وحدث ذلك قبيل أيام من سقوط المكلا بيد «القاعدة» في أبريل (نيسان) 2015، كذلك كشفت مصادر صحافية آنذاك توقيف عدد من الحافلات في نقاط عسكرية بمحافظة حضرموت وتأكدوا من هوياتهم، لكنهم سمحوا لهم بالمرور بتوجيهات عليا من قيادتي وزارة الدفاع ووزارة الداخلية اللتين كانت تسيطر عليهما الميليشيات الانقلابية. وخلال بضعة أيام أعلن تنظيم «القاعدة» المتطرف سيطرته على المكلا بشكل كامل وفرض ما يسمونه «لجان الحسبة» التي حلت محل أجهزة الدولة، وإدارات المؤسسات العامة والميناء.
* «قوس القاعدة»
يركز تنظيم «القاعدة» في تحركاته على المناطق التي يمكن تسميتها «قوس القاعدة»، وتمتد من الحدود السعودية - اليمنية الغربية، ويمتد شرقا عبر محافظات صعدة والجوف ومأرب وشبوة وأبين وحضرموت والبيضاء. وهذا هو قوس الانتشار القاعدي الأساسي الذي تتحرك داخله عناصر وقيادة التنظيم المتطرف، باعتبار مناطق المحافظات المذكورة مناطق جبلية وعرة، يتمكن قيادة التنظيم من التنقل فيها بحرية وبصورة آمنة.
وبطبيعة الحال، يخشى «القاعدة» كما هي حال التنظيمات الإرهابية، مثل جماعة الحوثية وتنظيم داعش من وجود دولة قوية مستقرة. ولذا سعى قادة «القاعدة» - ومن خلفهم المتمردون الانقلابيون - بكل قوتهم لنشر الفوضى والدمار في كل المدن، وتنفيذ عمليات نوعية تستهدف قيادات عسكرية وأمنية وسياسية بهدف زعزعة الأمن والاستقرار.
* استهداف القبيلة
قبل بضع سنوات كشفت صحف أميركية عن مشروع جديد استهدف القبيلة في اليمن، ومنع «القاعدة» من الاحتماء بها، وسمى «مشروع استراتيجية الارتباط ما بعد القبيلة»، وخصص له مبلغ 3.4 مليون دولار، بالاشتراك مع جهاز الأمن القومي اليمني. ولكن، بعد انقلاب الحوثي ما عاد معروفا بالضبط ما إذا كان المشروع استمر أم توقف.
كما سبقت الإشارة، ساهم الانقلابيون بشكل مباشر في تمدد «القاعدة» بمحافظات الجنوب، ولقد كشفت الحكومة أخيرا عن علاقتهم بما حدث في المكلا بالذات. وأكدت أن تطهير المدينة من العناصر الإرهابية فضح علاقة الانقلابيين ودورهم في دعم الإرهاب والتطرف، وتماهي أجنداتهم والإرهابيين وتعاونهم المشترك عبر تهريب السلاح والمشتقات النفطية، والتقاء مصلحتهم في تبادل الأدوار الهادفة إلى خلط الأوراق ونشر الفوضى والانفلات الأمني، لعرقلة جهود الدولة في مكافحة الإرهاب والتطرف.
* «الحسبة»
عندما سيطر «القاعدة»في أبريل (نيسان) 2015 على المكلا، كان سكان المدينة المسالمة يعتقدون سكانها بأن جميع المنتمين لهذا التنظيم هم من أتباع صالح، الذي وجه القيادات العسكرية والأمنية الموالية له بتسليم معسكرات الجيش والأمن للإرهابيين. ولقد بُذلت جهود كبيرة من قبل أعيان المدينة لسد الفراغ الذي تركته أجهزة الدولة ومؤسساتها عبر إنشاء مجلس أهلي تمكن من تجنيب المدينة المواجهات المسلحة. كذلك عقد أهالي المدينة اتفاقيات مع قيادات التنظيم المتطرف بينهم ناصر الوحيشي، الذي قتل بعدها بغارة لطائرة أميركية من دون طيار (درون). ونص الاتفاق في حينه على تسليم المرافق كافة وإداراتها إلى المجلس الأهلي الحضرمي، وأن من حق المجلس الأهلي أن يُعين من شاء رئيسا له، على أن يتحمل المجلس الأهلي إدارة الأمن العام ومرافقه. غير أن هذا الاتفاق ظل حبرا على ورق. ولم ينسحب المتشددون من المقرات العسكرية والأمنية؛ حيث أدار المسلحون الشؤون الأمنية والقضائية وفرضوا أفكارهم وممارساتهم المتشددة على الجامعات والمدارس في المكلا، التي لا تزال مغلقة بأوامر من قيادتهم. واستغلوا أيضا المرافق الاقتصادية في تمويل أنشطتهم؛ حيث تقول بعض المصادر إن قيادة «القاعدة» كانت تتسلم مبلغ 5 ملايين دولار أميركي يوميا، من عوائد المشتقات النفطية والبضائع التي كانت تصل إلى ميناء المكلا.
ولكن على الرغم من القوة المسلحة التي تمتع بها التنظيم وبفضلها فرض سيطرته على المدينة، فإن السكان لم يخضعوا لسلطة الأمر الواقع، بل عبروا عن رفضهم لممارسات ما يسمى «لجان الحسبة» في احتجاجات ومظاهرات. ورفعت في هذا الاحتجاجات شعارات ترفض الإرهاب و«القاعدة». كذلك شهد السكان استيلاء مسلحي «القاعدة» على أموال البنوك، إضافة إلى أسلحة ثقيلة استولى عليها من المعسكرات، وإطلاقهم سجناء من السجن المركزي بينهم قيادات من التنظيم.
* عملية التحرير
سبق عملية تحرير المكلا غارات جوية مكثفة لقوات التحالف العربي في أعقاب طلب تلقته هذه القوات من الحكومة اليمنية الشرعية لمساعدتها في طرد عناصر التنظيم من المدينة المحتلة. وبالفعل، استهدفت الغارات الجوية التي شنها طيران التحالف العربي مراكز المسلحين في الميناء والمعسكرات التي اقتحموها، حيث سقط خلالها قتلى وجرحى من قيادة العناصر الإرهابية. وكانت هذه الغارات تمهيدا للاجتياح البري للقوات المشتركة التي تضم قوات يمنية أغلبهم من أبناء محافظة حضرموت، إضافة إلى قوات النخبة من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. وأكد العميد عون القرني، مساعد قائد عملية تحرير المكلا، بعد إنجاز تحرير المدينة، أن العملية تعد «رسالة واضحة وقوية إلى من يدعم الإرهاب في اليمن». وأضاف القرني «أن التحالف العربي يقف مع اليمن من أجل الشرعية»، لافتا إلى أن «القاعدة» فقد مصادر تمويله في المكلا. ومن ناحية أخرى، عد العميد مسلم الراشدي، قائد القوات الإماراتية في حضرموت، أن «تحرير مدينة المكلا اليمنية من قبضة تنظيم القاعدة هو نصر استراتيجي ليس لأهل اليمن والخليج فقط، بل للعالم أجمع».
ميدانيا، تمت عملية التحرير بغطاء جوي مكثف لطائرات التحالف، تكللت بتحرير مدينة المكلا ومينائها، وأيضا كامل ساحل حضرموت، بما فيه مدينة الشحر وميناء الضبة النفطي ومنطقة غيل باوزير شرقي المكلا. ولقد أكدت القيادة السياسية اليمنية على مواصلة معركتها مع التنظيمات الإرهابية؛ إذ شددت الحكومة في بيان لها أنها لن تتوانى عن «تقديم أي جهد أمني أو سياسي لإلحاق الهزيمة بالإرهاب وملاحقة عناصره الظلامية أينما وجدوا على أرض الوطن»، ومواصلة الضغط وبكل الوسائل الممكنة والعمل مع شركائها في التحالف العربي والمجتمع الدولي، للقضاء على العوامل المساعدة على تمدد الإرهاب وتوفير البيئة المواتية لانتشاره، والمتمثلة في إنهاء انقلاب ميليشيا الحوثي وصالح على الشرعية الدستورية.
وفي هذا السياق، صرح نائب الرئيس علي محسن الأحمر، عقب إنجاز تحرير المكلا، بأن «موقف الدولة ثابت في مكافحة الإرهاب، وهو موقف يتجاوز ادعاءات من يغذيها بمشاريعه الميليشاوية ويسعى لاستخدامها كمبرر لوجوده اللاشرعي»، في إشارة إلى الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وأردف الأحمر: «إن هزيمة الإرهاب والتطرف يعد المسمار قبل الأخير في نعش الانقلابيين الذين طالما سعوا بكل جهدهم إلى إلصاقها باليمنيين كعصا غليظة يلوحون بها نحو مخالفيهم بهدف إجبارهم على إدانة الولاء لهم، كما أنها الورقة الأهم والأكثر خطورة في كواليسهم، التي استجدوا من خلالها الآخرين وحاولوا خلقها للإيمان ببقائهم».
* نكسة الإرهابيين
من ناحية أخرى، يقول سعيد عبيد، المحلل الاستراتيجي اليمني في شؤون التنظيمات الإسلامية: «إن تنظيم القاعدة استفاد من هشاشة الأوضاع، واختار حضرموت، لكن قراره اختيار حضرموت كان اختيارا خاطئا؛ لأن المكلا ليست بيئة حاضنة له. وبالفعل جوبه برفض شعبي عارم من قبل أهالي حضرموت. كذلك كانت سيطرة التنظيم على المكلا خطأ تكتيكيا، وخسر فيها بسبب ذلك الخطأ قياداته وعناصره». واستطرد عبيد قائلا: «التنظيم خسر في المكلا وساحل حضرموت نتيجة عدم امتلاكه أي مشروع سياسي أو اجتماعي، يمكنه من خلاله استمالة المواطن اليمني، بالتالي، كانت خسائره متواصلة، ولم يخسر في فترة واحدة قصيرة».
وعدد المحلل الاستراتيجي اليمني جوانب هذه الأخطاء في الممارسة فقال: «إن تنظيم القاعدة كان يفرض قيودا على حركة السكان ويشدد على حريتهم، كما قام التنظيم بفرض خطباء وموجهين تابعين له، وتعاملت عناصره في مختلف أنحاء حضرموت مع الناس بتعال واستعلاء، اعتقادا منهم بأنهم أكثر فهما للإسلام وتعاليمه من غيرهم».
أما راضي صبيح، وهو صحافي من أبناء حضرموت، فقال: «إن هناك عدة عوامل ساهمت في استعادة مدينة المكلا في وقت وجيز أبرزها: حجم القوة والآليات العسكرية الضخمة والدعم اللامحدود من قوات التحالف العربي، رافق ذلك تغطية إعلامية كبيرة دولية ومحلية، بالإضافة إلى أن أفراد وجنود الجيش هم من أبناء محافظة حضرموت ما شكل قوة ودعما مجتمعيا لهم وعقبة أمام القاعدة في الدخول في صراع مع قبائل المحافظة».
* فرحة السكان
والحقيقة أن تحرير المكلا كانت مناسبة احتفالية للسكان الذين خرجوا للشوارع مهللين فرحين بهذا الانتصار. وتروي نور محمد علي، وهي من سكان المكلا، أن «الاحتفالات لم تتوقف ليلة دخول القوات المشتركة إلى المدينة». مضيفة: «كان مسلحو الحسبة يفرضون علينا كل القيود، ويمنعون عنا الغناء ويعتقلون أي شاب يسمع موسيقى بجواله. لقد استغلوا طيبة أهل المكلا ورفضهم لحمل السلاح ليستبيحوا مدينتهم المسالمة».
وتابعت نور أن يوم دخول الجيش اليمني مع قوات التحالف «كان يوما تاريخيا لكل السكان، فقد علت الزغاريد مع أزيز الرصاص، والشكر لكل من ساهم في تحرير مدينتهم.. لقد انتظر السكان بفارغ الصبر إشراقة الشمس للخروج إلى شوارع مدينتهم ومشاهدتها محررة بعيدا عن رجال الحسبة، وكانت الابتسامة تعلو وجوه السكان الذين ذهبوا إلى خور المكلا للاحتفال بهذا النصر الكبير».
وحقا، بعد يوم واحد من تحرير المدينة، عاود ميناء المكلا عمله، تحت إشراف السلطة المحلية، وباشرت الوكالات الملاحية ودوائر الشؤون البحرية والجمارك والخدمات العامة عملها بطريقة إيجابية، وسارت حركة الشحن والتفريغ بصورة اعتيادية. واستقبل الميناء في اليوم نفسه ناقلتين الأولى محملة بـ5 آلاف و800 طن متري من المازوت، فيما الناقلة الثانية تحمل 9 آلاف و500 طن متري من مادة القمح، إضافة إلى رسو 12 سفينة خشبية تحمل بضائع، ورسو في منطقة البويا العائمة بالميناء ناقلة بترول وعلى متنها 12 ألفا و400 طن متري.
* مدينة المكلا.. في سطور
- المكلا هي عاصمة إقليم حضرموت وعاصمة محافظة حضرموت وثالث أهم مدينة يمنية بعد صنعاء وعدن. تطل المدينة على بحر العرب ويقسمها خور المكلا إلى نصفين، وهي تقع إلى الشرق من عدن وتبعد عنها بنحو (1080 كم).
- بنيت المدينة في منطقة سهلية بين البحر والجبل. وحسب بعض المصادر التاريخية، أسست المدينة في مطلـع القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)؛ إذ بوشر بالاستقرار في موقعها في السنة 1035.
- كانت تسمى قديما بـ«الخيمة» حسب المصادر التاريخية، ولم تعرف باسمها الحالي إلا عند إنشاء الإمارة الكسادية في السنة 1115هـ. وازدادت شهرتها ومكانتها عندما اتخذتها السلطنة القعيطية حاضرة لها في سنة 1915م، وأقام فيها السلطان واتخذها مقرا للحكم.
- يبلغ عدد سكانها أكثر من نصف مليون نسمة حسب إحصاءات عام 2005. أما سكانها الأصليون فمن الحضر وتعد مجتمعا حضريا نسبيا، بالنسبة إلى بقية مدن اليمن ذات العمق الريفي والقبلي.
- تتميز المكلا بطابعها المعماري الخاص، وتشتهر بجمال مآذنها ومبانيها البيضاء التي ترتفع إلى أربعة طوابق. ومن أشهر معالم المدينة المعمارية: قصر السلطان القعيطي، حصن الغويزي، والمكتبة السلطانية.
- تتميز المكلا بطابع سياحي خاص؛ مما جعلها محطة استثمارية كبيرة تجتذب المستثمرين والسياح، كما أن رقي أهلها وتحضرهم كان أهم العوامل التي مكنتها من البروز سياحيا وثقافيا، بالإضافة إلى استقرار الأمن فيها.



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟