«بيت الحكمة» العباسي.. نتاج تعريب الديوان

التنافس البيروقراطي كان محركًا لترجمة تراث الأقدمين عند المسلمين

غلاف «العلوم الإنسانية وقيام النهضة الأوروبية»
غلاف «العلوم الإنسانية وقيام النهضة الأوروبية»
TT

«بيت الحكمة» العباسي.. نتاج تعريب الديوان

غلاف «العلوم الإنسانية وقيام النهضة الأوروبية»
غلاف «العلوم الإنسانية وقيام النهضة الأوروبية»

يحكي لنا ابن النديم في كتابه «الفهرست»، وهو أشمل وثيقة أحصت لنا الأعمال الفكرية إلى آخر القرن الرابع الهجري، قصة عن الخليفة العباسي المأمون (813 – 833م)، بأنه رأى في منامه «رجلا أبيض اللون، مشربا حمرة، واسع الجبهة، مقرون الحاجب، أجلح الرأس، أشهل العينين، حسن الشمائل، جالسا على سريره. قال المأمون: وكأني بين يديه قد ملئت له هيبة. فقلت. من أنت؟ قال. أنا أرسطوطاليس. فسررت به وقلت: أيها الحكيم، أسالك؟ قال: سل. قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل. قلت ثم ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور. قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ثم؟».
تروى هذه الرؤيا عادة من أجل فهم لماذا قام المسلمون بترجمة العلوم المسماة «عقلية»، أو كما كانت تسمى أيضا «علوم الأقدمين»، أو «الأوائل»، أو «العلوم الدخيلة». وكما نلاحظ أنها قصة خرافية لا يمكن التعويل عليها لتفسير حركة هائلة من الترجمة، لنقل تراث الشعوب الأخرى إلى العربية، وبوعي شديد مخطط له، ومدعم من طرف الخلفاء، وبمؤسسة كاملة الأركان، لهذا الشأن سميت «بيت الحكمة». فما الأسباب العميقة لهذا الارتماء في حضن الثقافة العقلية العالمية آنذاك؟ لماذا كثرت الفلسفة والعلوم القديمة في التربة الإسلامية؟ ولم لجأ المسلمون إلى ترجمة العلوم من الأجانب؟ وما الحاجة إلى ذلك؟
لقد عرفت البشرية عبر تاريخها الطويل، منارات فكرية كثيرة كانت عبارة عن مراكز علمية قائمة الأركان، مثل «أكاديمية أفلاطون» التي تأسست سنة 387 ق.م، وليسيوم أرسطو الذي ظهر سنة 335 ق.م، ومدرسة الإسكندرية بمصر التي حافظت على تقاليد اليونان، وأنجبت كثيرا من العلماء ذائعي الصيت، مثل غالينوس في الطب، وإقليدس في الرياضيات.. بل إن التراث الإغريقي سينتقل أيضا نحو سوريا، خصوصا في مركز «نصيبين» و«الرها»، التي كانت من أشهر المدارس الطبية في أواخر القرن الخامس الميلادي.. ليرحل بعد ذلك بعض السوريين، خصوصا النساطرة منهم، نحو الدولة الساسانية هربا من اضطهاد أباطرة بيزنطة وأساقفتها للمذهب النسطوري (نسبة إلى البطريرك نسطور)، المخالف عقديا لتعاليم الكنيسة حول طبيعة المسيح. لتتشكل مدرسة كبرى في جنديسابور، لتصبح في أواخر القرن السادس الميلادي، أعظم مركز ثقافي، بل واسطة للتلاقح الحضاري بين النسطوريين بلغتهم السريانية (أي النسخة المعدلة عن الآرامية التي كانت لغة المسيح عليه السلام)، والثقافة الفارسية بلغتها الفهلوية.
وإذا علمنا أن مدينة جنديسابور قد فتحها المسلمون، فسيجعلنا هذا، نفهم كيف سينتقل التراث الإغريقي ممزوجا بالسورية والفارسية إلى الثقافة الإسلامية العربية.
في حقيقة الأمر، نجد أن الفاعلية العلمية لم تتوقف مطلقا.. فهي ظلت مستمرة وتبحث عن أرض يسودها الدعم والترحاب كي تنتعش، وهي ترتحل دورانا مع الحرية، وتضيق مع التشدد والاضطهاد.. فبؤر المدارس العلمية تسافر ولا يهمها اللغة أو الدين أو النموذج السياسي المتبع، بل العلم يبحث فقط عن مجال للتنافسية بحرية، والاشتغال دون خوف أو اضطهاد. فالرياضيات أو الطب أو الفلك.. وغيرها، تكلمت يوما باليونانية، ثم بعد ذلك بالسريانية، فالفارسية، ثم بالعربية، وبعدها باللاتينية. والإشكاليات هي هي. كما أن هذه العلوم، يمكن أن توجد بأرض مسيحية أو إسلامية.. بوذية أو مجوسية، فالانتماء الديني واللغوي لا يؤثر مطلقا على العلم.
لقد آن الأوان للحسم مع بعض المنطلقات الخاصة بالعلم، وعلى رأسها أنه يجب التفرقة بوضوح بين الأسباب المحركة للعلم والعوامل المساعدة في تحرك العلم، فالعلم سبب حركته في ذاته، فالإشكالات العلمية كما هي.. منطقها خاص، سواء أكانت عند ناطق باليونانية أو السوريانية أو الهندية أو الفارسية أو العربية أو اللاتينية، فما طرحه فيثاغورس وإقليدس بالإغريقية، من قضايا في الرياضيات، بقي كما هو عند الرياضيين العرب، وما أنجزه بطليموس الإغريقي في الفلك، بقي كما هو عند الفلكيين العرب، وما طرحه أبقراط أو غالينوس في الطب، لن يتأثر بنقله إلى العربية. والشيء نفسه يقال عن الانتماء العقدي، فالعلم لا يبالي بذلك، فالعلماء يتواصلون فيما بينهم، مهما اختلفت انتماءاتهم الدينية.. وهو ما يجعلنا نفهم لماذا مثلا، كان يلقب بطليموس من طرف الفلكيين العرب بـ«الفاضل» على الدوام، على الرغم من الاختلاف الجذري معه لغة وعقيدة.
أما أن للعلم عوامل مساعدة، فهذا يعني أن المؤثرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إما أنها تدفع بالعلم أو تكبحه، فهي تلعب دور المسرع أو المبطئ. فكلما تم تخصيص هوامش للعمل العلمي، وتشجيع العلماء على العطاء، وتوفير جو العمل بتنافس لا يهدد الحياة، فإن هذا يؤدي إلى استقطاب الباحثين من كل أنحاء المعمورة، للانخراط في المشكلات العلمية التي لا انتماء لها، فهي عقلية، والعقل أعدل قسمة بين البشر، كما يقول ديكارت.
هذا بالضبط ما حدث في «بيت الحكمة» العباسي، فهو كان عاملا مدعما للانخراط في أكبر ورشة علمية عرفتها القرون الوسطى.. فكيف ذلك؟
اتصل العرب بعد الإسلام بالحضارات القديمة، وحرصوا على جمع مخطوطاتها، وشرائها، خصوصا الإغريقية منها، والتنقيب عن بعضها المهمل في الأقبية والسراديب، بل المثير هو التنازل للبيزنطيين عن تعويضات الحرب، مقابل تقديم المخطوطات العلمية، خاصة في العهد العباسي، وبالضبط في زمن المأمون. وبهذا يكون العرب وبحماسة منقطعة النظير قد قاموا بأكبر عملية إنقاذ للتراث الإنساني، خصوصا اليوناني منه، الذي كان عرضة للفساد والتلف جراء الإهمال.
وقد جند الخلفاء العباسيون، وبرعاية واعية ومستنيرة، جماعة علمية هائلة، معظمها من السريان، للقيام بمهمة تعريب العلم. ولعل أشهر المترجمين المشهود لهم بالدقة والنقل المنقح، هو حنين بن إسحاق الذي كان يقال إنه يأخذ وزن الكتاب المترجم ذهبا. ولم يكن «بيت الحكمة» يضم المترجمين فقط، بل النساخين والخازنين والمناولين، الذين هم حلقة الوصل بين «بيت الحكمة» ورواده. فبحق، كان «بيت الحكمة» ملتقى الحضارات آنذاك، وجمع في جوفه تراث البشرية. لكن يبقى لافتا للنظر أن الكتب المنقولة عن اليونانية، كانت محصورا في فنون العلم والفلسفة من دون أن تتعداها إلى الأدب والشعر أو الروحانيات، فلم يترجم العرب مثلا هوميروس أو سوفوكل، فهم كان لديهم ما يكفي من الفصاحة والبيان، ولديهم الإسلام.
ويؤكد جورج صليبا، في كتابه «العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية»، الذي ترجمه د. محمود حداد (ط.1، عن دار أبوظبي للثقافة والتراث/ كلمة، 2011)، على أن عملية الترجمة وإرادة استملاك المسلمين للعلوم القديمة، تمت مباشرة مع عملية إصلاح الديوان وتعريبه، من طرف عبد الملك بن مروان الأموي، فمن المعروف أن هذا الخليفة هو من سك الدينار العربي متخليا عن النقود البيزنطية، بالإضافة إلى أنه هو من أمر بتعريب الدواوين الذي كان يشتغل به الأجانب بالخصوص. وكما هو معلوم، فإن موظف الديوان يحتاج إلى عمليات حسابية معقدة لحساب الخراج، مما يجعل ترجمة الرياضيات أمرا ملحا، ناهيك بأن وقت دفع الضرائب مرتبط بالتقويم، مما يفرض المعرفة الفلكية. وهو ما يؤكد أن ترجمة الكتب الفلكية قد بدأ في وقت مبكر عن العصر العباسي. ولتأكيد هذا الأمر، يضرب جورج صليبا مثالا واضحا، وهو ترجمة الحجاج بن مطر لكتاب «المجسطي» لبطليموس، سنة 829م، فهو نعم تم في عهد المأمون، لكن الاطلاع على الترجمة يثير الدهشة، فقد تمت بلغة عربية سليمة ونقية، ومصطلحات تقنية ناضجة وممتازة، مع تصحيح للأخطاء، وسهولة في القراءة، مما يعني أنه لو كانت الترجمة قد تمت في عهد المأمون حقا، فلا محالة كانت ستكون رديئة كأي محاولة أولى في أي ترجمة جديدة، فأكيد أن الحجاج بن مطر كانت بين يديه ترجمات سابقة مكنته من أن يقدم ترجمته الأكثر دقة.
يرى صليبا أن تعريب الديوان كان محركا نحو مزيد من الترجمة، ويفسر ذلك كالتالي: فما دام أن الأجانب هم من كانوا يسيطرون على الدواوين، فإن التعريب أصبح يهدد عملهم، لأن العربي سيتمكن من احتلال مكانهم بسهولة، وهو ما سيجعلهم في بطالة، ويضطرهم إلى رفع الإيقاع والذهاب إلى معلومات أكثر دقة، وإلى مزيد من الاجتهاد لخلق حاجات جديدة، حفاظا على مواقعهم وضمانا لبقائهم، مما يستدعي الاتجاه صوب المصادر لاسترجاع مكانتهم. باختصار، يريد صليبا أن يؤكد على أن الترجمة كانت جراء تنافس كبير بين البيروقراطيين، فإصلاحات عبد الملك بن مروان الخاصة بالدواوين، أجبرت الموظفين، الأجانب بالخصوص، وتأمينا لرزقهم، على اللجوء إلى المعرفة الأكثر تخصصا، مما زاد من حمى الترجمة.
إن أطروحة جورج صليبا، توضح أن الترجمة لم تكن حركة من أجل تقليد ثقافة أرقى، بل الأمر انطلق وتم لدواع إدارية صرفة.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.